بقلم: الشيخ أحمد الشرباصي
 
الحمد لله عز وجل، يحب معالي الأمور ويكره سفسافها (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: من الآية74) أشهد أن لا إله إلا الله، يوسع فضله للمؤمنين الأتقياء، ويؤيد بعزته المناضلين الأوفياء.

(إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذريات:58). وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله، هو بالمؤمنين رءوف رحيم، وللكافرين مقاوم خصيم، فصلوات الله عليه وسلامه، وعلى آله وأصحابه، وأتباعه وأحبابه: ( لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) (لأنفال: من الآية4).
 
يا أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم..

نحن نتطلع الآن إلى نفحات ذكرى الإسراء والمعراج، وهي ذكرى تضم الكثير من العبر والعظات، واللائق بالمعتبرين أن يأخذوا من هذا الكثير الغزير ما يناسب ظروف حاضرهم، وما يحتاجون إليه في إصلاح أمرهم، ونحن الآن في مرحلة من الزمن تتطلب منا أن نكون أقوياء في إيماننا، أقوياء في بنياننا، أقوياء في أوطاننا، أقوياء في عاداتنا وجهادنا , أقوياء في أخلاقنا وأرواحنا، حتى نحقق في أنفسنا قول خالقنا جل جلاله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح: من الآية29).

وللقول في حادثة الإسراء والمعراج ملامح ماجدة متعددة، تتوجها قوة الله العلي الكبير، رب العزة والجبروت، وصاحب الملك والملكوت، الذي مجد نفسه، وعظم شأنه، وقدس ذاته، وأظهر قدرته على ما لا يستطيع غيره، فقال مصوراً جلال سلطانه، وعظيم فضله على إمام رسله في معجزة الإسراء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الاسراء:1). ثم عاد فزكى رسوله صاحب المعراج عليه الصلاة والسلام بالقوة الربانية والعصمة الإلهية التي تجعله يعلو إذا هوت النجوم، ويهدي حين تضل العقول والقلوب فقال: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى) (النجم: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7).

وهذا صفوة الخلق محمد تحيط به وهو يسري إلى ربه مظاهر القوة المادية والمعنوية، الحسية والنفسية، القلبية والروحية، ليكون المثل الأعلى لأمته التي يطالبها ربها بأن تتحلى بكل ما يزينها من قوة، وأن تعد كل ما تستطيع من قوة، وأن تأخذ ما أتاها ربها بقوة، وأن تصون عزتها وكرامتها بالقوة: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139).

هذا رسول الله في ليلة الإسراء والمعراج يتدرع بقوة القلب ونقاء الصدر، فيأتيه جبريل؛ ليطهر أحناء قلبه بأمر ربه، ويملأه إيماناً وحكمة، ونوراً ورحمة كما حدثنا نبأ الشق للصدر الكريم من النبي العظيم عليه الصلاة والتسليم، ثم انتظم موكب الرحلة، في جلاله وجماله، فجبريل يقوم مقام الرفيق، وميكائيل يمسك بالزمام ليقود، وجبريل وميكائيل علمان من أعلام الملائكة، والملائكة فيهم غلاظ شداد، وهم أيضاً عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون، ووسيلة الركوب والانتقال هنا ترمز إلى الخفة والسرعة الاقتدار على قطع المسافات في أقل الأوقات، وهذه الوسيلة هي "البراق" والبراق يذكر بالبرق الخاطف السريع المضيء، ولذلك قالت السيرة: إن البراق لونه أبيض، في فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه، ويخطو الخطوة فإذا حافره فيها يقع عند نهاية بصره، فكأن سرعته أكثر من سرعة انتشار الضوء، وما هي إلا لحظات حتى حل سيد الخلق ضيفاً كريماً على بيت المقدس والمسجد الأقصى، ليتسلم مواريث النبوة وأولوية الرسالات، بحكم أنه الرسول الخاتم، وأنه لا نبي بعده، وهناك تجلى عليه ربه بغرة القيادة وقوة الزعامة، فجمع له كيفما شاء جموع الأنبياء والمرسلين، ليبايعوه ويقدموه فيكون لهم إماماً في صلاة ردد ذكراها لسان الزمان كأنما ترنيمة الوحدة في هذه الحياة: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَار) (القصص: من الآية68). ثم بدأت الرحلة لارتياد الفضاء وزيارة السماء، والصعود إلى أوج العلا والسناء، بدأت رحلة المعراج فكانت أول إشارة في تاريخ البشرية تعلم أمة نبي العلم والرفعة "محمد" أن تستجيب لهدى ربها حين يحثها ويدفعها إلى دراسة السماء مع الأرض، فيقول: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض) (يونس: من الآية101).

وتدثرت روح محمد صلى الله عليه وسلم بما تدثرت به من سمو، وتدرعت ذاته بما تدرعت به من حصانة، وركب المعراج بقوة من هيأ له ربه الانعتاق من كثافة الحس البشري الأرضي، والانطلاق إلى آفاق الملكوت الأعلى الرباني وأخذ يعلو ويعلو، وظل يسمو ثم يسمو، حتى جاوز مراتب الأنبياء كلهم في السماء، وبلغ ما لم يبلغه سواه، وهو في حال من الثبات العظيم والأدب الكريم، فالعقل مكين مجيد، والحس وقور وطيد، والبصر مستقيم رشيد: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (لنجم:16).

ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتنقل في رحلة الإسراء والمعراج يرى جموعًا من الملائكة وراء الجموع، وتحدث عن كثرتهم الهائلة، ثم استشهد على ذلك بقول ربه : ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) (المدثر: من الآية31) وكلمة "الجنود" هنا تذكر بالجيش، والجيش مظهر للقوة، فكأن معاني القوة كانت تحيط برسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمين وشمال.

وعاد صلوات الله وسلامه عليه إلى مكة مغمورًا بفضل الله مؤزرًا بعناية مولاه، محفوفًا بحراسته وقوته وهداه عاد إلى مكة، وأصبح كما تروى السيرة وهو في غاية الثبات والسكينة والوقار، بعد أن شاهد في تلك الليلة من المشاهد والآيات ما لو رآه غيره لطاش منه العقل وتزلزل الفؤاد، ولكنه النبي الفتى القوى العلي الذي كان من أمر ربه على يقين فلا تخيفه معارضة المعارضين ولا يزلزله شك المرتابين ولقد تعلقت بثوبه بنت عمه أم هانئ مشفقة من مواجهته المشركين بحادث الإسراء والمعراج وقالت له راجية: "يا نبي الله، لا تحدث الناس بهذا الحديث لئلا يكذبوك ويؤذوك " فيقسم لها بالله مؤكدًا أنه لا بد أن يحدثهم به، لأنه الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال ومضى فأعلن النبأ وقص الخبر، لا يبالي لومة لائم، ولا سخرية كافر وصارت معجزة الإسراء تكريمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي تكريم، وتمحيصًا للمؤمنين أي تمحيص وتمييزًا بين من يصلح للجهاد والهجرة في سبيل الدعوة ومن لا يصلح، وكثر المكذبون وقل الموقنون ولكن القلة المؤمنة تزايدت مع الأيام وتضاءلت الكثرة الكافرة حتى أصبحت كالبلهاء وأبى ربك العلى الكبير إلا أن ينصر عبده ويعز جنده ويهزم الأحزاب وحده وجاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا هكذا كانت ملامح القوة تحيط برحلة الإسراء والمعراج من كل جانب لتكون تصديقًا لقول الحق: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون: من الآية8)، يا أتباع النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - لا ينبغي الاقتصار في ذكرى الإسراء والمعراج على الانبهار بجلال المعجزة وروعة الخوارق، بل ينبغي مع ذلك أن نستلهم في هذه الذكرى كل معاني القوة لنحققها في حياتنا فنلقى بها عدونا غدًا، فنكون من المفلحين:

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (لأنفال:60)

واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون.

---------
سبق نشره في (إخوان أون لاين) في 1 أبريل 2003م