أسئلة كثيرة تطرح الآن حول سرّ تسريع طرح ومناقشة وتمرير والاستفتاء على ما تسمى بالتعديلات "اللادستورية" والهدف الأساسي منها، وتسعى صحف ومواقع وسياسيون موالين للانقلاب لمحاولة إضفاء شرعية عليها من خلال إثارة مناقشات عقيمة حول مد فترة رئاسة قائد الانقلاب إلى 2024 أو 2030، بينما هو مغتصب أصلاً للسلطة والرئاسة، وليست له أي شرعية منذ أول يوم انقلب فيه وسطا على هذا المنصب.
 
فالفكرة الأساسية من تعديل الدستور ليست فقط تمديد "رئاسة" الخائم عبدالفتاح السيسي، وإنما محاولة تحصين النظام العسكري الانقلابي الذي جاء عقب انقلاب 3 يوليه 2013 من ثورة يناير أخرى أو موجة ثانية من الربيع العربي، عبر "تقنين" و"دسترة" الحكم العسكري، أو الديكتاتورية العسكرية، وتقليص صلاحيات أي سلطة أخرى، مقابل تعظيم دور الجيش على الطريقة التركية الأتاتوركية السابقة التي هجرتها تركيا أردوغان.
 
فالترقيعات اللادستورية لا تفتح الباب أمام بقاء السيسي حاكمًا - منقلبًا - مدى الحياة فقط، ولكنها سوف تؤدي إلى تثبيت موقع الجيش فوق الدولة، عبر منحه الوسائل القانونية اللازمة للتدخل ضد الحكومات المنتخبة والبرلمان، وملاحقة خصومه السياسيين قضائيًّا ودستوريًّا.
 
فالتعديلات العبثية التي سيجري تمريرها بتزوير استفتاء شعبي راقص كالعادة، بجانب أنها ستسمح للسيسي بالبقاء في السلطة حتى العام 2030، فهي تُضفي طابعًا قانونيًا على التدخلات العسكرية في السياسة (المادة 200)، وتجعل للسلطة سلطة انقلاب عسكري لو فاز حزب إسلامي مثلاً مستقبلاً، وتؤدي إلى توسيع سلطة المحاكم العسكرية (المادة 204)، وتزيد من سطوة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية (المواد 185 و190 و193).
 
ويجيز تعديل المادة 200 - التي تتناول الدور المؤسسي للجيش فعليًّا - للقوات المسلحة إلغاء نتائج الانتخابات وفقًا لمزاجها الخاص تحت ذريعة حماية الدستور أو الديمقراطية أو الدولة، والتدخل ضد رئيس منتخب، وعزله حال عدم رضاء قادة الجيش عنه، لسبب أو لآخر بدعاوى "حماية مدنية الدولة".
 
ولأن هذه التعديلات ستعيد صياغة المنظومة السياسية المصرية، وتقضي على آخر مظاهر الفصل بين السلطات، أو على آخر ما تبقى من علامات خضوع القوات المسلحة لسلطة الحكومة المنتخبة، وتحول مصر بالتالي إلى "ديكتاتورية عسكرية" بالاسم والفعل على السواء، بحسب "معهد كارنيجي" للدراسات، فقد شهدت اعتراضات شعبية وسياسية ودولية.

ماذا تعني التعديلات الدستورية؟

التعديلات ستنقل مصر إلى مرحلة جديدة من الطغيان Tyranny بعد الاستبداد Despotism والدكتاتورية Dictator أو الشمولية Totalitarism.
فقد تنقل نظام السيسي المنقلب ما بين ثلاث مراحل خطيرة حتى وصوله إلى مرحلة الطغيان، بتنفيذه التعديلات الدستورية المقترحة، على النحو التالي:
 
أولاً- مرحلة الاستبداد: 
 
يقصد بـ"الاستبداد" في المعاجم العربية: الانفراد بالشيء دون غيره، والمستبد هو الحاكم الذي لا يحكم عبر الوسائل الديمقراطية.
 
وكلمة المستبد (despot) بالمفهوم الغربي مشتقة من الكلمة اليونانية "ديسبوتيس" التي تعني رب الأسرة، أو سيد المنزل؛ ما يعني أن "المستبد" هو الحاكم الذي يسعى لفرض رأيه على الجميع وجمع السلطات في يده والهيمنة على الإعلام والسلطة وكل شيء، لذلك قيل في علم السياسة إن "السلطة المطلقة تفسد إفسادًا كاملاً".
 
والمستبد يستأثر بكل السلطات أو يحتكرها احتكارًا تامًّا (على نقيض الديمقراطية التي تقوم على الفصل بينها).
 
وفي ولايته الأولى وتحت بند الضرورة جمع السيسي بين سلطتي التنفيذ والتشريع، ثم هندس البرلمان على مقاسه فاستمر قابضًا على السلطتين، ولم يكتف بذلك، بل أعاد هندسة المشهد العام بكامله؛ ليكون عجينة ليّنة في قبضته من النقابات إلى الإعلام إلى الصحافة إلى الأحزاب إلى المؤسسات الدينية، ولم يترك شاردة ولا واردة إلا وقد وضعها بين أصابعه، وكانت هذه هي فترة الاستبداد الجليّ الواضح المبين، لهذا تميزت مرحلته بالاستبداد.
 
ثانيًا- مرحلة الديكتاتورية:
 
يقصد بالدكتاتورية: شكل من أشكال الحكم المطلق؛ حيث تكون سلطات الحكم محصورة في شخص واحد، وأبرز أشكالها هي الديكتاتورية العسكرية، وهي لا تسمح لأي أحزاب سياسية ولا أي نوع من المعارضة، وتعمل جاهدة لتنظيم كل مظاهر الحياة وفق توجيهات الحاكم الفرد.
 
ولذلك يعتبر الدكتاتور نفسه هو المنقذ والمخلص لشعبه، ولا يقتنع بوجود آخرين يصلحون لهذا المنصب.. لهذا يسعي لمنع غيره من منافسته، ويسعى للسلطة بطرق غير شرعية، ويستند فيها إلى فكرة تفويض الشعب له.
 
وفي فترته الثانية (الحالية) التي بدأت عام 2018، تحوّل السيسي من مجرد الاستبداد إلى الديكتاتورية المطلقة، بمنع المدنيين والعسكريين السابقين من الترشح إزاءه في انتخابات الرئاسة، ثم في اللحظات الأخيرة - ومن باب استيفاء الشكل فقط - دفع بمرشح من أشد المؤيدين لينافسه، في مشهد تمثيلي مثير للشفقة والرثاء والعجب والعتب والغضب، وقبل وأثناء وبعد الانتخابات استطاع أن يملأ مفاصل البلد بالخوف والرعب، فأسكت كل الأصوات حتى همست ثم خشعت ثم خافت ثم خضعت ثم تكتمت، بحسب ما يرى أنور الهواري رئيس تحرير "الأهرام" الاقتصادي السابق.
 
 
ثالثًا- مرحلة سلطة الطاغية: 
 
يقصد بالطاغية ذلك الحاكم الذي يتخطى مراحل قمع معارضيه والقهر السياسي لمرحلة "حصر الرأي والكلمة له، وتحويل سلطة فرد أو مجموعة أفراد على مجموعة لسلطة لا تخضع في ممارستها لأي رادع قانوني أو عرفي".
 
بحيث يعتبر الحاكم نفسه هو "السلطة السياسية" وهو "مصدر التشريع" الذي يتصرف وفقًا لأهوائه فقط ودون اعتبار لدستور أو لمبادئ أخلاقية تكون رقيبًا عليه وتكون حاميًا للشعب، فيصير أقرب إلى الهيمنة والبطش أو "الطغيان"، وغالبًا ما ينتهي الصراع بقتل الطاغية.
 
والآن في مرحلة تعديل الدستور يجري تخليد السيسي في السلطة، وسيطرته بالجيش على كل شيء، لتنتقل مصر إلى مرحلة الطغيان بعد الاستبداد والديكتاتورية، وهذا الطغيان يقوّض أركان النظام الجمهوري، ويخلق نظامًا ملكيًّا مستترًا تحت لافتة الجمهورية، الملك فيه يحكم ويملك ويقبض بين أصابعه على القرار والمصير معًا، لا يملك أحد له حسابًا ولا نقدًا ولا عتابًا ولا مساءلةً ولا مراجعة فهو - وحده - صاحب النقض والإبرام، بحسب التعديلات.
 
مكاسب سياسية للتعديلات
 
وعلى الرغم من بشاعة وفجاجة هذه التعديلات فإن لها مزايا؛ منها:
 
- توحيد القوى السياسية المختلفة وجمع موقفها الرافض له، والعودة لرفع شعار توحيد القوى السياسية المتعارضة، وتركيز نشاطها على منع تعديل الدستور وتجنيب خلافاتها.
 
فقد تصاعدت دعاوى الاصطفاف بين شركاء يناير على مواقع التواصل ضد الديكتاتورية العسكرية والتعديلات الدستورية ونسيان أي خلافات، برغم استمرار تحذير أصوات يسارية من الاصطفاف مع الإخوان، وتبنّى دعوة الاصطفاف عشرات السياسيين والنشطاء، ودعوا إلى وقف أي خلافات والتركيز على الاصطفاف ضد الديكتاتورية العسكرية؛ ما يشكّل مكسبًا مهمًّا وخطورة أولى على طريق الموجة الثانية من الربيع العربي.
 
- المكسب الثاني تمثل في اهتزاز سلطة الانقلاب عقب إطلاق نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي في مصر هاشتاج #لا_لتعديل_الدستور، ومحاولة التقليل من شأن التعديلات الدستورية، والادعاء أنه يمكن تعديلات بالتصويت في البرلمان أو رفضها في الاستفتاء الشعبي، فضلاً عن انضمام نواب وسياسيين سابقين وقضاة للحملة ضد التعديلات وإعلانهم رفضها.
 
وردّ نادي قضاة مجلس الدولة على التعديلات الدستورية بوصفها بأنها "تمثل اعتداءً على استقلال القضاء"، وطالب القضاة بالتدخل لوقف التعديلات الدستورية التي تقلص سلطة القضاء لصالح السلطة التنفيذية.
 
- المكسب الثالث تمثل في وقوف منظمات دولية وأخرى سياسية ضد التعديلات والتحذير منها.
 
فعلى الرغم من أن التعديلات حظيت بضوء أخضر أمريكي وأوروبي مقابل خدمات يقدمها نظام السيسي المنقلب للغرب (محاربة الإرهاب ووقف الهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط)، فإن منظمات حقوقية انتقدتها بعنف، وجهات مؤثرة مثل مجموعة العمل الأمريكية حول مصر ونواب أمريكيين وصحف، انتقدوا السيسي وكشفوا عن عورته كديكتاتور عسكري خلال زيارته الأخيرة لأمريكا وأحرج نواب وصحف رئيسهم ترامب لدعمه ديكتاتورية العسكر في مصر، وحثوا الإدارة الأمريكية على إقناع السيسي بخطورة تعديلاته الدستورية على المسار الديمقراطي، وتناقضها مع مواقفه المعلنة، مثلما فعلت من قبل مع رؤساء بوليفيا ورواندا وبوروندي، وأن يلتزم بالدستور الحالي ونهاية فترته الرئاسية عام 2022.
 
ثورتا السودان والجزائر أربكتا الانقلاب
 
من مفارقات ثورة السودان والجزائر تعبير المتظاهرين هناك عن تضامنهم مع الشعب المصري، سواء في الحملة ضد الإعدامات أو في كارثة "محطة مصر"، وكذا رفضهم أيضًا التعديلات الدستورية بمصر، والأهم رفضهم أن ينتهي الأمر بعد سقوط البشير وبوتفليقه بتولي عسكر آخرين، قائلين: "لا نريد سيسي آخر"، وهو ما أثار قلق سلطة الانقلاب وبشكل عام "مثلث الثورة المضادة"، المتمثل في (السيسي – بن زايد – بن سلمان).
 
إذ يخشى هذا المثلث الذي دعم الثورة المضادة في البلدان العربية ومنع أي ثورة شعبية من النجاح من عودة الثورات الشعبية وامتدادها إلى مصر والإمارات والسعودية، بعدما انطلقت الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي بالفعل.. لكن من السودان والجزائر هذه المرة، وليس من المستبعد أن تلحق بهما دول عربية أخرى.
فقد جاء انطلاق الموجة الثانية من الربيع العربي علامة على أن الشعوب العربية لم ولن تستسلم للاستبداد والظلم، وأنها عازمة على إنجاح ربيعها العربي، والاستفادة من دروس الموجة الأولى والمؤامرات التي حاقت بها.
 
وأدى رفع السودانيين والجزائريين شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" وهو نفس شعار الربيع العربي الأول؛ تعبيرًا عن رفض عمليات الترقيع السياسي ومحاولات الاستجابة الجزئية لمطالب الشعب دون المطالب الكلية، وبحثًا عن نظام سياسي جديد لتداول السلطة يوقف الفساد والقمع والظلم، لقلق شديد داخل سلطة الانقلاب في مصر.
 
فما تشهده الجزائر وكذلك السودان هو موجة جديدة من الربيع العربي؛ الذي ثبت أنه لم يمت رغم عتو الثورة المضادة، وأن انتفاضة الجزائر، وقبلها السودان، ترسل رسائل لقادة محور الثورة المضادة (مصر والإمارات والسعودية) أن الشعوب تمرض ولكنها لا تموت، وأن هناك جولة جديدة من الثورات ستمتد وتتوسع حتى تقتلع جميع الطغاة من جذورهم.
 
وأنه رغم الجدب في الصحاري العربية والتخلي عن القيم الإنسانية في العالم كله، والدعم الغربي للسيسي وغيره من الأنظمة العربية..، ها هي بذور الربيع التي سحقتها دبابات الطغاة في سورية واليمن وليبيا ومصر، تبرعم في الجزائر بعد السودان وتجدد الوعد بأن تغدو شجرًا باسقًا في كل أرضٍ ارتوت بدم من تاقوا إلى الحرية من أبنائها، وماتوا دونها.
 
ولعل ما أقلق نظام المنقلب السيسي أكثر هو ظهور الإخوان المسلمين أيضًا في الموجة الثانية من الربيع العربي الحالية، فقد أظهرت جماعة الإخوان المسلمين في السودان دعمها بوضوح، وساندت السودانيين في مظاهراتهم: قائلة لهم: "عبّروا عن غضبكم دون أن تدمروا بلدكم"، معلنةً وقوفها صفًا واحدًا مع المواطن، الذي قالت إنه "يعبر عن غضبه بصورة حضارية دون عنف أو إحراق للممتلكات الخاصة بالدولة أو المواطنين".
 
وفي الجزائر، لم يؤيد الإخوان المسلمون في الجزائر الثورة الشعبية فقط، ولكنهم شاركوا فيها، خاصة أن زعيم إخوان الجزائر ورئيس حركة مجتمع السلم الدكتور عبد الرزاق مقري رشح نفسه في انتخابات الرئاسة المقررة أبريل الماضي، وانتقد بعنف ترشيح العسكر للرئيس المريض بوتفليقة للمرة الخامسة، قبل أن يعود وينسحب من الترشيح احتجاجا على إصرار السلطة على ترشيح بوتفليقة.
 
وجاء دعم الإخوان للثورة الشعبية في بيان للمكتب التنفيذي الوطني للحزب الإسلامي، أشاد بالحراك الشعبي المناهض للعهدة الخامسة، وأكد أنهم يشاركون في المسيرات الحاشدة في كل الولايات، ودعا "كل الجهات التي تريد فرض العهدة الخامسة (في إشارة للجيش والدولة العميقة) إلى التعقل وفهم رسالة الشعب وعدم تحميل الجزائر ما لا تطيقه".
 
وشارك عبد الرزاق مقري مع أعضاء الحزب الإسلامي في المسيرة المناهضة للعهدة الخامسة بالجزائر العاصمة؛ تعبيرًا مع المواطنين عن رفض العهدة الخامسة.
ومثل نزول إخوان الجزائر والسودان للشارع كشفًا لحجم التحولات الشعبية في العالم العربي وإثباتًا لفشل الأنظمة التي جاءت بها الثورة المضادة.