(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (1).

 مرحبًا بطلعة الوليد الوسيم، وبشير الخير العميم، هلال رمضان، ومشرق أنوار القرآن، وشذا نفحات الجنان، وواحة الاسترواح في صحراء العام، وراح الأرواح بالصلاة والصيام والقيام.
مرحبًا بك يا رمضان مقربًا للجنان، ومبعدًا من النيران.

مرحبًا بك يا رمضان منقذًا من الغفلة والنسيان، وموجهًا للذكر والقرآن.

مرحبًا بك يا رمضان صارفًا عن الشهوات، وسائقًا إلى الطاعات.

مرحبًا بك يا رمضان معالجًا للشح والبخل، ومحفزًا للجود والكرم.

أقبل رمضان... أقبل يا تاج الأزمان... أقبل يا بهجة نفسي.. وابعث في الأنحاء أريجًا... ينعش روح الولهان.

أقبل رمضان.. فالنفس كواها الحرمان... مرت أيام تترى .. ما ذاقت طعم الإيمان .

أيها الإخوة الأحباب الكرام :

ها هو شهر رمضان، شهر الصبر، شهر القرآن، شهر التوبة، شهر الرحمة، شهر الغفران، شهر الإحسان، شهر الدعاء، شهر العتق من النيران.

فمن رحم في رمضان فهو المرحوم، ومن حرم خيره وبركته فهو المحروم، ومن لم يتزود فيه ليوم المعاد فهو الملوم. روي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: "قد جاءكم رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم"(2)

يقول الإمام ابن رجب:(هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضًا بشهر رمضان، كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟ كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟ كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان؟ من أين يشبه هذا الزمان زمان) .

 وفي حديث آخر "أتاكم رمضان سيد الشهور، فمرحبًا به وأهلاً"

جاء شهر الصيام بالبركاتِ        فأكرم به من زائر هو آت ِ

فيا بشرى المدركين لشهر الغفران... يا بشرى المدركين لشهر القرآن... يا بشرى المدركين لشهر الطاعات... ويا بشرى المدركين لأيام كساها الله تعالى مهابة، وبهاء، وجمالاً. يا بشرى المدركين لأيام كساها الله تعالى تعظيمًا، وإجلالاً!!

فكن أخي الكريم مستقبلاً لهذا الضيف الغالي، مستقبلاً لهلاله "اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، هلال رشد وخير، ربي وربك الله"(3).

فاللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والطمأنينة والسلام، هلال خير ورشد إن شاء الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وصدق رسول الله: "إذا أقبل رمضان فتحت أبواب الجنان وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين، ونادى مناد من قبل الحق تبارك وتعالى: يا باغي الشر أقصر، ويا باغي الخير هلم"(4).

استقبال السلف الصالح لهذا الشهر الكريم:

لقد كان سلفنا الصالح يستقبلون هذا الشهر أحسن استقبال، ويرحبون بهذا الضيف أعظم ترحيب، فقدوتهم المصطفى – صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل رجب يقول: "اللهم بارك لنا في رجب، وشعبان، وبلغنا رمضان"(5) .

قال معلي بن الفضل: "كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم".

وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم: "اللهم سلمني رمضان، وسلم إليّ رمضان، وتسلمه مني متقبلاً"(6).

أخي الكريم:

ادع بدعائهم، وافرح بفرحهم، عسى أن تشملك نفحاتهم (بفضل الله وبرحمته فبذلك قل فليفرحوا هو خير مما يجمعون )(7).

        يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجبٍ        حتى عصى ربه في شهر شعبانِ

         لقد أظلك شهر الصوم بعـــدهما       فلا تصيـره أيضا شهر عـصيانِ

        واتل القرآن وسبـح فيــه مجتهداً       فإنه شــهر تسبـيـحٍ وقـرآنِ

 

أخي الحبيب:

ماذا أعددت لرمضان؟ وماذا أعد رمضان لك؟

من الناس من يستقبل رمضان بأن يعد العدة له بشراء ما يلزم من الطعام والشراب، ومنهم من يجهز لهذا الشهر ميزانية مالية تقارب ميزانية العام كله، وكأن رمضان هو شهر التخمة، وكأنه شهر البطون والأجساد، وما درى هؤلاء المساكين أنه ما لهذا شرع الصيام، وإنما شرع الصيام لغاية جليلة، وحكمة بليغة (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) (8)

 

إن هذا الصنف من الناس قد استقبلوا رمضان استقبالاً جسديًّا، استقبلوه بأجسامهم لا بقلوبهم وأرواحهم.

 

فهل استقبل قلبك رمضان؟

هل أعددت نية صادقة وعزمًا أكيدًا بين يدي صومك؟

هل أعددت غذاء الروح لتزكية النفوس وتطهيرها في هذا الشهر الكريم؟

 

أيها الأخ الكريم:

ابدأ هذا الشهر بنية صادقة حرة، وإرادة أكيدة، تأمل بزوغ الهلال، واعزم عزمًا أكيدًا على اغتنام رمضان، وزيادة الإحسان، وهجر الذنوب والعصيان .

 

ابدأ هذا الشهر بعزيمة صادقة مخلصة على إصلاح نفسك، وتطهير عيبك، ورفع الغفلة عن قلبك، والسعي إلى رضا ربك.

 

قال الفضيل بن عياض: "إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك"(9)

فلنبدأ هذا الشهر بتوبة صادقة، وإنابة خاشعة، نتطهر بها من عيوبنا، ونغسل بدموع أوبتنا ذنوبنا، فالذنب لا يغسل إلا بدمع.

 

أيها الأخ الكريم:

بادر وسارع، وليكن هذا الشهر منطلقًا وبداية لعهد جديد مع ربك، فسارع إن كنت من المتقين، قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133))(10).

 

فسارع وزاحم في هذا الشهر لتخرج منه مغفورًا لك، "ليس السابق اليوم من سبق بعيره، ولكن السابق من غفر له" (11).

 

أيها الأخ الكريم:

لا تجعل أيام رمضان كأيامك العادية، فلتجعلها غرة بيضاء في جبين أيام عمرك، ولا تجعل أيام فطرك وأيام صومك سواء. قال جابر بن عبد الله: "إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة في يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء" (12).

 

• فإذا كنت في غير رمضان متكاسلاً عن الصلاة، فاعقد العزم من هذه اللحظة على عمارة بيوت الله.

 

• وإذا كنت شحيحًا بالمال، فاجعل من رمضان شهر بذل وجود، فهو شهر الجود والإحسان.

 

• وإذا كنت غافلاً عن ذكر الله تعالى، فاجعل من رمضان أيام ذكر ودعاء، وتلاوة للقرآن.

 

أيها الأخ الكريم الحبيب إلى قلبي:

احرص على نظافة صومك، كما تحرص على نظافة ثوبك، وليكن هذا الشهر بداية لاجتناب الفواحش واللغو والآثام.

طهر قلبك من البغض، وطهر عينك من النظر للحرام، وطهر سمعك من سماع ما يغضب الرحمن، وطهر سعيك من كل ما لا يرضاه المنان.

هكذا يعد المؤمن لرمضان، فماذا أعد رمضان للمؤمن؟

لقد جاءك هذا الشهر الكريم يحمل لك العديد من الهدايا الربانية، ومن هذه الهدايا:

الهدية الأولى : باب الريان :

عن سهل بن سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصائمون، لا يدخل منه غيرهم" (13) وفي رواية "إن في الجنة بابًا يقال له الريان يدخل منه فإذا دخلوا أغلق" وفي رواية: "من دخل منه شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا"

فيا أصحاب باب الريان، يا أحباب الرحمن، احرصوا على بابكم، وزاحموا بأكتافكم، وسابقوا إلى جنة ربكم، كان أبو علي الدقاق ++يقول: "أيظن أصحاب محمد أن يستأثروا بهذا الفضل وحـدهم، والله لنزاحمنهم عليه زحامًا، حتى يعلموا أنهم قد خلفوا من وراءهم رجالاً"

 كبـرت همــة عبدٍ           طمعت في أن تراكا

من يصم عن مفطراتٍ           فصيامي عن سواكا

 الهدية الثانية : خـلـوف فم الـصـائــم :

 روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"(14)

 قال مكحول: "يروح أهل الجنة برائحة، فيقولون: ربنا ما وجدنا ريحًا منذ دخلنا الجنة أطيب من هذه الريح، فيقال: هذه رائحة أفواه الصوّام"(15)

 إخواني

لما كانت معاملة المخلصين بصيامهم لمولاهم سرًّا بينه وبينهم، أظهر الله سـرهم لعباده، ففاحت رائحة خلوفهم من أفواههم.

الهدية الثالثة : للصائم فرحتان :

روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه"(16)

 فالنفس تفرح بالفطر في نهاية اليوم طبعًا، لأنها جبلت على الميل لما يلائمها من المشرب والمطعم والمنكح، فتفرح بإباحة ما منعت منه.

فالصائم ترك هذه المباحات طاعة لربه، وتقربًا بها إليه، فمنع منها بأمر ربه، وعاد إليها بأمر ربه، فهو طائع لله عند المنع، وطائع له عند العودة.

والصائم ينتظر الفرحة الكبرى عند لقاء ربه، وقد غفر له ربه، وقد شهد له صومه، وصلاته، وتلاوته، وعندها تكون الفرحة الكبرى ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) (17)

يا صائمًا ترك الطعـام تعففـًا          أضحى رفيق الجوع واللأواءِ

أبشـر بعيدك في القيامة رحمة          محـفـوفـة بالبـر والأنداءِ

الهدية الرابعة: غفران الذنوب:

روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"(18)

فيا أرباب الدنس، يا أصحاب الذنوب، هذا مغتسل بارد وشراب.

الهدية الخامسة: الوقاية من عذاب الله:

روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الصوم جنة من عذاب الله"(19)
الهدية السادسة: الشفاعة يوم القيامة:

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقـول الصيـام: أي ربِ: منعته الطعام والشراب والشهوات فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان" (20).

يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي

يا شموس التقوى والإيمان اطلعي

يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي

يا قلوب الصائمين اخشعي 

 يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي

يا عيون القائمين لا تهجعي 

 يا ذنــوب التائبـين لا ترجعـي 

 يــا أرض الهــوى ابلعـي ماءك ويا سماء أقـلعــي

يا همم المؤمنين أسرعي

فطوبى لمن أجاب فأصاب

وويل لمن طُرد عن الباب وما دُعي.

 واجبات عملية:

1 – النية الصادقة مع الله والعزم الأكيد للإقلاع عن الذنوب والمعاصي والآثام.

2 – تحديد ورد قرآني، وتجهيز مصحف معين للقراءة فيه، ليكن شعارك:( مصحف في جيبك كنز في قلبك )

3 – اضبط منبهك للاستيقاظ قبل الفجر بوقت مناسب لتناول طعام السحور، وصلاة ركعتين، ثم الذهاب لصلاة الفجر في المسجد مصطحبًا أولادك أو إخوتك.

4 – اتصل بخمسة من أقاربك وأصدقائك لتهنئتهم بحلول الشهر الكريم.

--------

الهوامش:

1- سورة البقرة الآية 185

2- حديث صحيح: أخرجه أحمد ( 7148 ) والنسائي برقم ( 2096 ).

3- صححه ابن حبان حديث رقم ( 888 ) وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط : حديث صحيح لغيره، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، ورواه الطبراني وقال: عثمان بن إبراهيم الحطابي، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم ( 9884 ).

4- متفق عليه.

5- رواه الطبراني في الأوسط، والبزار من حديث أنس، وفيه ( زائدة بن أبي الرقاد ) وفيه كلام، ولكنه وثق بأكثر من طريق.

6- لطائف المعارف ص 204.

7- لطائف المعارف للإمام ابن رجب ص 204.

8- سورة البقرة الآية 183.

9- جامع العلوم والحكم للإمام ابن رجب ص 13

10- سورة آل عمران الآية 133.

11- مقولة للإمام عمر بن عبد العزيز، خامس الخلفاء الراشدين، انظر فتح الباري ج 3 ص 522.

12- الدر المنثور للسيوطي ج 1 ص 484 و مصنف ابن أبي شيبة ج 2 ص 271، وفضائل الأوقات للبيهقي ص 186 والزهد لابن المبارك ص 156 ، وص 461، ومعرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري ص 59.

13- رواه البخاري كتاب الصوم باب الريان رقم ( 1797 ) ومسلم كتاب الصيام باب فضل الصيام، رقم ( 1152 )

14- رواه البخاري كتاب الصوم، باب فضل الصوم، رقم ( 1795 ) ومسلم كتاب الصيام باب فضل الصيام، رقم (1151).

15- لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي ص 222.

16- رواه البخاري كتاب الصوم باب هل يقول إني صائم إذا شتم، رقم (1805) ومسلم كتاب الصوم رقم (1151).

17- لطائف المعارف للإمام ابن رجب ص 204

18- رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب صوم رمضان، رقم (38) ومسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان، رقم (760).