شهر رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، هو شهر العبادة، شهر الصوم والقيام، شهر الذكر والاستغفار وتلاوة القرآن، وشهر البر والصدقات والإحسان.
 
وهذا الوجه من شهر رمضان الكريم هو الذي يعرفه عامة المسلمين اليوم، وهو المعنى الشائع في أذهانهم والمسيطر على عقول، والموجه لتصرفاتهم، فلا يكاد يقبل شهر الصوم حتى يتهيأ له المسلمون بالإقبال على الطاعات ولعل هذا هو المعنى الذي جعل الجامع الأزهر يعطل الدراسة في معاهده وكلياته طوال شهر رمضان المبارك.

ولكن الواقع التاريخي يدلنا على أن رمضان المبارك لم يكن شهر القرآن والعبادة فحسب بل كان شهر الجهاد والكفاح، والنضال والقتال، ففي السابع عشر منه وقعت "معركة بدر" بين المؤمنين وكفار قريش، فكانت الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، وبين الحق والباطل بين عهد الصبر على الأذى وعهد العزة الإسلامية فبعد ثلاثة عشر عامًا قضاها الرسول في الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وبالتذكير بالقرآن من يخاف وعيد، تكلم المسلمون – لأول مرة – بسيوفهم كلاما بينا في رقاب الكفار فهمه أصحاب العقول وألو الألباب كما فهمه ضعاف العقول والأغبياء.

وفي العشرين من شهر رمضان سقطت قلعة الشرك وحصن الكفر ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس جيشه من المؤمنين مكة وطاف حول الكعبة المشرفة، وحطم الأصنام وأزالها، ورفع راية التوحيد خفاقة على ربوع البلد الحرام، ودخل الناس في دين الله أفواجًا.

وفي الخامس والعشرين من شهر رمضان أيضًا وقعت موقعة "عين جالوت" وفيها وصلت قوات التتار إلى نابلس بعد أن اكتسحت ودمرت كل شيء في طريقها وسقطت الخلافة العباسية في بغداد وقتل من المسلمين من قتل وأخذت المحصنات سبايا، وخيم الخراب والدمار، ثم واصلت الجيوش المتوحشة سيرها فدخلت بلاد الشام واجتحتها، وشاع الرعب في قلوب الناس، وذاع أن قوات التتار لا تغلب ولا تهزم! حتى إذا ما وصلت إلى عين جالوت وكان سيف الإسلام السلطان قطز سلطان مصر قد خرج بجيشه لملاقاة الغزاة الفاتحين، ونفر معه للجهاد في سبيل الله وصد المعتدين كتائب المؤمنين، ودارت المعركة وصرخ السلطان قطز "وإسلاماه اللهم انصر جيش المسلمين" واستجابت السماء، وكانت الدائرة لأول مرة على التتار، والنصر حليف المسلمين، وأنجز الله وعده (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)[ سورة الروم الآية 47].

وترجل السلطان قطز من على جواده، ومرغ جبينه في التراب شكرًا لله على ما أتاه من النصر، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم، ثم تتابعت هزائم التتار حتى أجلاهم المسلمون عن أراضيهم وأوطانهم، وهكذا نرى أن شهر رمضان المبارك كان موسمًا للطاعات، وفترة لتطهير النفوس وتزكية الأرواح، يحدثنا التاريخ أنه كان أيضًا موسمًا للجهاد والكفاح، ولتطهير أرض المسلمين من الأصنام والأوثان من المستعمرين والغزاة المعتدين.

فما أحرى المسلمين اليوم أن يقفوا على هذه الصفحة المشرقة من تاريخهم المجيد وأن يروا هذا الوجه الآخر لشهر رمضان المبارك فلا يقصروا همهم فيه على الصلاة والصيام، والصدقة والقيام، والبر والإحسان بل يجددوا ماضيهم ويعيدوا تاريخهم حتى يعود رمضان شهر الجهاد والكفاح لتطهير أرض المسلمين من المستعمرين والصهيونيين، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله (وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ)[ سورة الحج الآية 40 : 41].

------------
المصدر : مجلة الدعوة – العدد (309) – 21مارس 1961م / 4شوال 1380هـ.