شاركت حركة "البناء الوطني" التي تمثل "الإخوان المسلمين" في جميع فعاليات الحراك الثوري بالجزائر منذ انطلاقه في فبراير 2019م، إلى جانب كثير من القوى الإسلامية والعلمانية الأخرى، لكن انتخاب رئيس كتلها النيابية سليمان شنين رئيسا للبرلمان، خلفاً للرئيس المستقيل معاذ بوشارب، في جلسة الأربعاء 10 يوليو 2019م، مثل تحولا أثار جدلا واسعا وتباينا في الآراء بين من يراه تنازلا من السلطة من أجل خلق مسار تفاوضي عبر الحلول السلمية للأزمة، ومن يراه محاولة من السلطة لتفكيك مكونات الحراك الثوري وبث الفتن والأسافين من أجل حماية النظام وإعادة إنتاجه في صورة أكثر قبولا من جانب الشعب.

بعد انتخاب شنين رئيسا للبرلمان، تعد هذه المرة الأولى التي تتمكن فيها المعارضة السياسية من الحصول على أرفع منصب في الدولة بعد رئيس الدولة ومجلس الأمة. وسليمان شنين من مواليد ديسمبر 1965، وينحدر من منطقة ورقلة جنوبي الجزائر وهو إعلامي سابق ومن مرافقي مؤسس إخوان الجزائر الشيخ محفوظ نحناح، وأحد مؤسسي التنظيم الطلابي التابع لإخوان الجزائر. وكان شنين من قيادات "حركة مجتمع السلم"، لكنه ابتعد عن الحزب عام 2008 ليؤسس مع كتلة من الكوادر جبهة التغيير ثم حركة "البناء الوطني" في مارس 2013، والتي يرأسها حاليا عبدالقادر بن قرينة، وزير السياحة الأسبق، وشنين حاليا هو رئيس الكتلة البرلمانية للاتحاد من أجل النهضة والعدالة.

وتضم الحركات الإسلامية في الجزائر إلى جانب "حركة البناء الوطني" كلا من حركة "حمس" التي أسسها الشيخ محفوظ نحناح، وحركة "النهضة" التي أسسها الشيخ عبدالله جاب الله والذي يقود حاليا جبهة "العدالة والتنمية" وهذه الحركات تميل فكريا إلى مدرسة  الإخوان المسلمين،  وكلها تشارك في الحراك الثوري وإن تباينت بعض المواقف فيما بينها. هذا بخلاف بقايا جبهة الإنقاذ السلفية التي تم الانقلاب عليها بعد تصدرها الانتخابات البرلمانية والمحلية في بداية تسعينات القرن الماضي وهي أيضا تشارك بقوة في الحراك الشعبي. وهناك أيضا التياران المدخلي والصوفي.

"وسيط" في طريق ملغوم

على الفور، اتهمت أحزاب وقوى أخرى حركة البناء الوطني بعقد صفقة مع النظام، لكن الحركة نفت ذلك بشكل قاطع، ودافع بيان للحركة عن انتخاب شنين، وأفاد بأنّ "النائب سليمان شنين كان إحدى الشخصيات التي انخرطت في الحراك". ووصفت "حركة البناء الوطني"، في بيان، الخميس 11 يوليو، انتخاب نائبها سليمان شنين لرئاسة البرلمان، بـ"الثورة الحقيقية التي تؤسس لجزائر جديدة"، معتبرة أنّ "هذه الخطوة هي بداية انفراج حقيقي للأزمة، ونقل لمطالب الحراك من ساحات النضال والتظاهر، إلى ساحات السلطة والمؤسسات، كما التزمت الحركة التخندق مع الشعب، والدفاع عن مطالب الحراك الشعبي الواقعية والموضوعية، فضلا عن الالتزام بالحلول الدستورية التي تستجيب لتلك التطلعات الشعبية". وجددت الحركة التزامها "الانخراط في أي مسعى خيّر مع كل الجزائريين دون استثناء، لتحقيق المصلحة العليا للوطن، والمحافظة على الثوابت التي رشحتها لتكون في هذا الاستحقاق التاريخي".

واعتبر رئيس الحركة "البناء الوطني" عبد القادر بن قرينة في مؤتمر صحفي السبت التالي مباشرة لانتخابات شنين، مشاركة رئيس البرلمان الجديد في جميع فعاليات الحراك الثوري يؤهله إلى جانب شخصيات مستقلة أخرى للعب هذا الدور في الحوار السياسي الذي يؤدي إلى انتخابات نزيهة وشفافة. وذكر بن قرينة من هذه الأسماء التي تملك مصداقية لدى الشارع الجزائري ومنها الرئيس السابق ليامين زروال ووزيري الخارجية السابقين أحمد طالب الإبراهيمي ومحمد الصالح دمبري، والقيادي الثوري يوسف الخطيب والرئيس السابق للبرلمان عبد الكريم يونس ورئيسي الحكومة السابقين أحمد بن بيتور ومولود حمروش. 

دلالات الاختيار

وبحسب خبراء ومحللين فإن اختيار سليمان شنين لرئاسة البرلمان يعتبر مؤشرا على  تنازل الأغلبية عن رئاسة الهيئة التشريعية لفائدة شخص من المعارضة، ويمثل رسالة حسن نية تعطي مؤشراً عن رغبة وتوجه السلطة للقبول بالحوار والقبول مستقبلاً برئيس من خارج الأطر المعهودة"، وسط تطلعات شعبية من أجل أن يقدم النظام مزيدا من التنازلات لصالح الحراك الشعبي من أجل  إقامة نظام ديمقراطي حقيقي وتداول سلمي للسلطة يحتكم إلى صناديق الاقتراع وإرادة الشعب النزيهة دون إقصاء أو تهميش لأي فصيل أو تيار سياسي.

ويمثل وصول قيادي إسلامي من تيار الإخوان إلى منصب كهذا رسالة إلى قوى عربية وإقليمية لديها مواقف ضد تيار الإخوان المسلمين، ويعزز تحالفا سياسيا جديدا بين السلطة والإسلاميين في ظرف سياسي عصيب، باتت فيه الأزمة السياسية في البلاد عصية على الحل بسبب تباين المواقف والخيارات بين السلطة التي يقع الجيش في مركزها، وبين المعارضة بكل أطيافها الإسلامية والعلمانية.

وذهبت قراءات سياسية إلى بعد دولي في الخطوة، من حيث إنّ رفع قيادي من الإخوان إلى منصب رئيس برلمان، هو خطوة معاكسة للسياقات الإقليمية المضادة لقوى الإسلام السياسي ورسالة تجدد خصوصية الحالة الجزائرية في علاقة السلطة بالإسلاميين، خصوصا وأن الحكومة الجزائرية رفضت مطالب سعودية إماراتية في منتصف سنة 2014م، بإدراج جماعة الإخوان المسلمين في مصر على قوائم الإرهاب وأكدت أنها لا تملك أدلة تدين الجماعة.

روشتة الخروج من الفخاخ

الواقع يؤكد أن قوى الحراك الشعبي والثوري لا تملك الأدوات التي تمكنها من حسم الصراع لصالحها على حساب الجيش وقوى الدولة العميقة، لكن بالمقابل فإن السلطة تملك هذه الأدوات، لكنها في ذات الوقت إن انزلقت إلى النموذج المصري بتنفيذ المذابح والدسائس والمؤامرات فإن ذلك منذر بتدمير الجزائر لعقود طويلة قادمة. إذا، ليس من مصلحة السلطة رغم أنها تملك الأدوات أن تنجر لمربع العنف والمذابح، وليس من مصلحة المعارضة ولا قوى الحراك الشعبي والثوري أن تنزلق إلى ذات المربع الذي يخسر فيه الجميع. ورهان قوى المعارضة على الشارع لن يستمر طويلا ذلك أن للحراك نفسا وصبرا  يوشك على النفاد في ظل عدم مشاركة قطاع كبير من الشعب في الحراك الثوري القائم منذ شهور.

أولا على حركة "البناء الوطني" لكي تتجنب فخاخ ومطبات الأزمة، وإذا أرادت أن تمثل "وسيطا"  بين السلطة من جهة والحراك الشعبي الثوري من جهة أخرى أن تمضي على طريق مليء بالألغام والأشواك، ألغام السلطة وأشواك المتربصين المشككين في المقاصد والنوايا. فلا يجب استبعاد أن تكون رئاسة البرلمان فخا ساهمت فيه المؤسسة  العسكرية من أجل إشعال فتنة أيديولوجية بين الإسلاميين والعلمانيين على غرار ما جرى في مصر في أعقاب ثورة 25 يناير2011م. وعلى الإسلاميين إدراك أن تصدر المشهد الثوري والسيطرة على الشارع أو تولي مناصب سياسية في مثل هذه المراحل ، غالبا ما تكون لها عواقب غير جيدة وتفضي إلى تدخلات خارجية غربية وعربية من أجل إجهاض أي مسار ديمقراطي  لمنع الإسلاميين من الوصول إلى الحكم حتى لو بالإرادة الشعبية الحرة. فإن الأولوية الآن هي إقامة نظام ديمقراطي تعددي  تكون الأولوية فيه أولا على التوافق لتكريس التجربة وتعظيم المشاركة الشعبية في الحكم والاحتكام إلى الجماهير للوصول إلى السلطة حتى لو جاءت بخصوم الإسلاميين فلا بد من احترامها تكريسا للحالة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.

ثانيا، الحركة تشارك ولا بد أن تشارك بكل ثقلها في الحراك الثوري وتتبنى مطالب الجماهير بشكل سلمي حضاري، لكنها في ذات الوقت يتعين أن تكون مع كل المخلصين سدا منيعا يحول دون انزلاق البلاد نحو تجربة "العشرية السوداء" من جديد أو استنساخ النموذج السوري أو المصري.  وذلك لا يكون إلا عبر  تتبنى  الحوار والتسوية السياسية السلمية باعتبارهما الخيار الأنسب للوصول إلى حالة توافقية يمكن أن يتم من خلالها  بناء نموذج ديمقراطي جزائري يتم فيه تداول السلطة سلميا دون  إقصاء أو تهميش لأي فصيل أو تيار.

ثالثا، لكي تتجنب حركة "البناء الوطني" هذه الفخاخ عليها أن تتقارب مع الجميع وأن تكون أكثر تعبيرا عن مطالب الشعب وأكثر التزاما بالدعوة إلى الحوار والتسوية السلمية، وأن توظف رئاسة البرلمان لخدمة مطالب الشعب، دون الصدام مع السلطة، وألا تكون معبرا لإعادة إنتاج النظام السابق في صورة أكثر قبولا سرعان ما تتبد بمرور السنوات، وإلا فإن سرعة تطورات الأحداث ربما تعصف بالبرلمان نفسه في القريب العاجل إذا تغيرت خريطة التوازنات، أو تزايدت الضغوط الشعبية على النظام القائم. وبذلك تكون رئاسة البرلمان خصما من الحركة وليس إضافة إلى رصيدها.

رابعا، على الحركة إذا، التمسك بالقيم الحضارية والإنسانية والدفاع عن حقوق الإنسان، أي إنسان بعيدا عن انتمائه أو أفكاره، والدعوة لإقامة نظام ديمقراطي تعددي، يتم فيه تداول السلطة بشكل سلمي دون إقصاء أو تهميش لأي فصيل أو تيار،  وأن يكون الاحتكام لصناديق الاقتراع وإرادة الشعب الحرة، وألا تدخل في سجالات ومشادات تتهم النوايا والمقاصد.. هذا هو معيار النجاة من الفخاخ والألغام وما أكثرها في مراحل التحولات الكبرى!