الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..

وبعد.. أيها الأخ المسلم الكريم؛ فها هي أيام العشر الأول من ذي الحجة، أيام الخير والبركة تهل علينا حاملة بشائر الأجر ونسائم الفضل، يستعد لها الموفقون، ويسعد بها الطائعون، ويطمع في بركتها الصالحون، فأين أنت في هذه الأيام العشر المباركة؟ وماذا أعددت لاستقبالها واغتنامها والتزود فيها؟.

فضيلة هذه الأيام

أخرج البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ".

وفي رواية عند الطبراني في الكبير: "مَا مِنْ أَيَّامٍ يُتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ فِيهَا بِعَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ".

وفي رواية عند الدارمي: "مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلاَ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الأَضْحَى".

وأخرج الطيالسي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر عنده أيام الْعَشْرِ فقال: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْعَمَلُ فِيهِ مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ".

ذلك بعض ما أشار إليه حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم من فضيلة هذه الأيام، ولما كان الصحابة رضي الله عنهم قد استقر عندهم أن الجهاد ذروة سنام الإسلام وأعظم الأعمال، فقد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن العمل الصالح في هذه الأيام هل يسبق في الأجر والدرجة تلك الفريضة الكريمة السامية؟ فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الجهاد لا يسبق العمل الصالح في هذه الأيام إلا في حالة واحدة، وهي أن يخرج المجاهد مخاطرًا بماله ونفسه فينال الشهادة ويفقد المال ولا يرجع بشيء، وقد أخرج أحمد وغيره من طرق يقوي بعضها بعضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذُكِرَتْ الأَعْمَالُ فَقَالَ: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ فِيهِنَّ أَفْضَلُ مِنْ هَذِهِ الْعَشْرِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا الْجِهَادُ؟ قَالَ: فَأَكْبَرَهُ، قَالَ "وَلا الْجِهَادُ إِلا أَنْ يَخْرُجَ رَجُلٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ تَكُونَ مُهْجَةُ نَفْسِهِ فِيهِ".

وأخرج ابن حبان عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ"، قال: فقال رجل: يا رسول الله، هُنَّ أَفْضَلُ أم عِدَّتُهِنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قال: "هُنَّ أَفْضَلُ مِنْ عِدَّتِهِنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ..." الحديث.

قال ابن رجب في فتح الباري: "هذا الحديث نص في أن العمل المفضول يصير فاضلاً إذا وقع في زمان فاضل، حتى يصير أفضل من غيره من الأعمال الفاضلة؛ لفضل زمانه، وفي أن العمل في عشر ذي الحجة أفضل من جميع الأعمال الفاضلة في غيره. ولا يستثنى من ذلك سوى أفضل أنواع الجهاد، وهو أن يخرج الرجل بنفسه وماله، ثم لا يرجع منهما بشيء.

وقد سئل صلى الله عليه وسلم: أي الجهاد أفضل؟ قالَ: "مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ، وَأُهْرِيقَ دَمُهُ".

وسمع رجلاً يقول: اللَّهُمَّ اعطني أفضل ما تعطي عبادك الصالحين، فقالَ لهُ: "إِذَنْ يُعْقَرُ جَوَادُكَ، وَتُسْتَشْهَدُ".

فهذا الجهاد بخصوصه يفضل على العمل في العشر، وأما سائر أنواع الجهاد مع سائر الأعمال، فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل منها. انتهى كلام ابن رجب.
ومن ثم اجتهد الموفقون في صالح الأعمال في هذه الأيام، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ- راوي الحديث عن ابن عباس- إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ (أخرجه الدارمي).

وكان يدعو إلى عدم إطفاء السرُج، كناية عن طول القيام وكثرة الأعمال الصالحة في هذه الأيام المباركة.

فأين أنت من هذا الخير العظيم؟!

(1) أين أنت من التعرض لنفحات رحمة الله في أيام العشر؟

أخرج الطبراني في الكبير وفي الدعاء، والبيهقي في الشعب وفي الأسماء والصفات، وأبو نعيم في معرفة الصحابة، والقضاعي في مسند الشهاب عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "افْعَلُوا (وفي رواية: اطلبوا) الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ (زاد في رواية: كله)، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ".

قال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني وإسناده رجاله رجال الصحيح غير عيسى بن موسى بن إياس بن البُكير وهو ثقة.

وأخرجه الطبراني في الدعاء والبيهقي في الشعب وابن أبي الدنيا في (الفرج بعد الشدة) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اطلبوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ" فذكره بمثله.

وأخرج الطبراني في الكبير وفي الأوسط عَنْ مُحَمَّدِ ابن مَسْلَمَةَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، لَعَلَّهُ أَنْ يُصِيبَكُمْ نَفْحَةٌ مِنْهَا، فَلا تَشْقَوْنَ بَعْدَهَا أَبَدًا".

قال الهيثمي في المجمع: وفيه من لم أعرفهم ومن عرفتهم وُثِّقوا.

وأخرج الدولابي في الكنى والأسماء نحو ذلك عن ابن عمر رضي الله عنه.

وأخرج الرامهرمزي في المحدث الفاصل عن محمد بن سعيد قال: لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري، وجدنا في ذؤابة سيفه كتابًا: بسم الله الرحمن الرحيم، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي بَقِيَّةِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، لَعَلَّ دَعْوَةً أَنْ تُوَافِقَ رَحْمَةً يَسْعَدُ بِهَا صَاحِبُهَا سَعَادَةً لا يَخْسَرُ بَعْدَهَا أَبَدًا".

والتعرض لنفحات رحمة الله يكون بكثرة الدعاء والسؤال في هذه الأوقات الفاضلة باعتبارها أوقات إجابة وتفضل من الله تعالى، فهل تحرص أيها الأخ الحبيب على ورد من الدعاء فيها؟

وهل تحرص على أن تجعل لدعوتك ولإخوانك ولأمتك نصيبًا موفورًا من الدعوات المباركة في هذه الأيام؟ وهل تخص بمزيد من صادق الدعوات إخوانك المجاهدين أهل الرباط في فلسطين وغيرها من ديار الإسلام؟ أسأل الله أن يوفقنا وإياك لما يرضيه، وأن يستر عوراتنا ويؤمن روعاتنا وينصر مجاهدينا، إنه على كل شيء قدير.

(2) أين أنت من التوبة النصوح في الأيام العشر؟

فهذه أيام يقبل الله فيها على خلقه، ويقبل التوبة ممن تاب، فهل تكون مع أولياء الرحمن المؤمنين الذين استجابوا لنداء الله ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (النور: من الآية 31) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ (التحريم: من الآية 8).

ها هو الحق سبحانه ينادي على المذنب الذي يئس من رحمته ﴿إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ﴾ (يوسف: من الآية 87).

ويقول لمن قنط من رحمة ربه ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ﴾ (الحجر: من الآية 56).

يقول للذي ملأت الذنوب حياته، وشغلت الشهوات أيامه، وغرق فيها غرقا إلى أذنيه: "لَوْ أَتَيْتَنِي‏ ‏بِقُرَابِ ‏ ‏الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ ‏ ‏بِقُرَابِهَا ‏ ‏مَغْفِرَةً".

فلنبادر إلى اغتنام نفحات رحمة الله في هذه الليالي والأيام المباركة، بدءًا بالاصطلاح مع الله والتوبة الصادقة إليه، والله يتولى توفيقنا جميعًا لما يحب ويرضى.

(3) أين أنت من الذكر في أيام العشر؟

أخرج أحمد وأبو عوانة وأبو نعيم في الحلية عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ". وهو حديث حسن بمجموع طرقه.

وأخرج البيهقي في الشعب نحوه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا ِمْن أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ وَلا الْعَمَلُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ، فإنها أيام التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَذِكْرِ اللهِ، وَإِنَّ صِيَامَ يَوْمٍ مِنْهَا يَعْدِلُ بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَالْعَمَلُ فِيهِنَّ يُضَاعَفُ سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ".

قال البخاري: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا، وَكَبَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ خَلْفَ النَّافِلَةِ.

وهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم إنما يفعلون ذلك امتثالاً لقوله تعالى﴿لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الحج: من الآية 37).

فلنكثر من التكبير والتهليل والتحميد والذكر، وبخاصة أذكار الصباح والمساء والأحوال المختلفة، وفي أدبار الصلوات.

(4) أين أنت من الصيام في أيام العشر؟

الصيام من أفضل الأعمال التي ندب إليها الإسلام وحض عليها، فقد أخرج الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلا بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا".

وأفضل ما يكون صيام النوافل في الأيام الفاضلة المباركة، وأعلاها فضلاً وأكملها أجرًا هذه الأيام العشر المباركة، ومن ثَمَّ كان صيامُها من أفضل الأعمال، وحديث ابن عباس رضي الله عنه في فضل الأيام العشر أورده الأئمة تحت عنوان (باب فضل صيام العشر) وقال ابن حجر في فتح الباري: "اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى فَضْلِ صِيَامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لانْدِرَاجِ الصَّوْمِ فِي الْعَمَلِ، وَاسْتَشْكَلَ بِتَحْرِيمِ الصَّوْمِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ".

وأما الحديث الذي أخرجه مسلم وغيره عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ.

فقد قال النووي في شرح مسلم: "قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا الْحَدِيث مِمَّا يُوهِم كَرَاهَة صَوْم الْعَشَرَة، وَالْمُرَاد بِالْعَشْرِ هُنَا: الأَيَّام التِّسْعَة مِنْ أَوَّل ذِي الْحِجَّة، قَالُوا: وَهَذَا مِمَّا يُتَأَوَّل فَلَيْسَ فِي صَوْم هَذِهِ التِّسْعَة كَرَاهَة، بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّة اِسْتِحْبَابًا شَدِيدًا لا سِيَّمَا التَّاسِع مِنْهَا، وَهُوَ يَوْم عَرَفَة... فَيَتَأَوَّل قَوْلهَا: لَمْ يَصُمْ الْعَشْر، أَنَّهُ لَمْ يَصُمْهُ لِعَارِضِ مَرَض أَوْ سَفَر أَوْ غَيْرهمَا، أَوْ أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ صَائِمًا فِيهِ، وَلا يَلْزَم عَنْ ذَلِكَ عَدَم صِيَامه فِي نَفْس الأَمْر، وَيَدُلّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيل حَدِيث هُنَيْدَة بْن خَالِد عَنْ اِمْرَأَته عَنْ بَعْض أَزْوَاج النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَصُوم تِسْع ذِي الْحِجَّة، وَيَوْم عَاشُورَاء، وَثَلاثَة أَيَّام مِنْ كُلّ شَهْر: الإثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْر وَالْخَمِيس وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَهَذَا لَفْظه وَأَحْمَد وَالنَّسَائِيُّ وَفِي رِوَايَتهمَا (وَخَمِيسَيْنِ). وَاَللَّه أَعْلَم".

وزاد ابن حجر تأويلاً آخر لحديث عائشة، وهو "احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ، كَمَا رَوَاهُ الصَّحِيحَانِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْضًا".

ويؤيد فضيلة صيام هذه الأيام ما أخرجه الترمذي وابن ماجه بسند فيه ضعف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ".

قال ابن حجر: "وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ فِي اِمْتِيَازِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِمَكَانِ اِجْتِمَاعِ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ فِيهِ، وَهِيَ الصَّلاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ، وَلا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ".

(5) أين أنت من قيام الليل في أيام العشر؟

يقول الصالحون: دقائق الليل غالية، فلا ترخّصوها بالغفلة. وأغلى ما تكون دقائق الليل في الأيام والليالي الفاضلة.

في هذه الأيام والليالي المباركة ينادي رب العزة المتأخرين ليتقدموا، والمقصرين لينشطوا، ومن فاتته الحسنات فيما مضى ليدرك نفسه ويعوض خسارته في هذه الأيام بقيام الليل، ﴿وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)﴾ (الإسراء) ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)﴾ (المزمل) ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ (المزمل: من الآية 20)، فهل تحب أن تكون مع الطائفة التي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

هل تحب أن تدخل في هذه الآية التي خُتمت بالمغفرة والرحمة؟

كلما أوغلت في الليل كان القيام بين يدي الله ألذَّ لك، حيث يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: "مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ"؟ (أخرجه الشيخان).

إذا وجدت قدميك خفيفتين إلى صلاة الليل؛ فاعلم أن هذه علامة حب الله لك، إذ لولا أنه يحبك لما جعلك أهلاً لمناجاته.

أخرج ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَا تَوَطَّنَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ الْمَسَاجِدَ لِلصَّلاَةِ وَالذِّكْرِ إِلاَّ تَبَشْبَشَ اللَّهُ لَهُ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ".

الله ينتظرك في شوق، ويلقاك بحب، فأين أنت؟!

يا رجال الليل جدوا  رب داع لا يرد

لا يقوم الليل إلا   من له عزم وجد

فليكن لنا نصيب موفور من هذا الخير في هذه الأيام المباركة. ولا بأس أن يجتمع الناس لقيام الليل في جماعة، تشجيعًا للخامل وتنشيطًا للكسول.

وهنا أجد من المناسب بيان حكم صلاة النوافل عمومًا في غير رمضان في جماعة ليلاً أو نهارًا، في المساجد أو في غيرها:

الأصل في النوافل أن يصليها العبد منفردًا، وأن يصليها أو يصلي أكثرها في البيت، وقد كان هذا أكثرَ فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا مانع شرعًا عند جمهور العلماء أن يصليها في جماعة، مثلما يحدث في قيام رمضان، وقد أخرج الشيخان قصة مبيت ابن عباس رضي الله عنه عند خالته ميمونة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته خلف النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وقد كان ذلك تطوعًا، كما جاء صريحًا في رواية عند مسلم عن عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: بِتُّ ذَاتَ لَيْلَةٍ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مُتَطَوِّعًا مِنَ اللَّيْلِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْقِرْبَةِ فَتَوَضَّأَ، فَقَامَ فَصَلَّى، فَقُمْتُ لَمَّا رَأَيْتُهُ صَنَعَ ذَلِكَ فَتَوَضَّأْتُ مِنَ الْقِرْبَةِ، ثُمَّ قُمْتُ إِلَى شِقِّهِ الأَيْسَرِ، فَأَخَذَ بِيَدِي مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ يَعْدِلُنِي كَذَلِكَ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ إِلَى الشِّقِّ الأَيْمَنِ.

قُلْتُ: أَفِي التَّطَوُّعِ كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ.

وفي الموطأ سئل الإمام مالك عن الرجل يؤم الرجل في النافلة؟ فقال: ما أرى بذلك بأسًا.

وقال مالك: لا بأس أن يصلي القوم جماعة النافلة في نهار أو ليل. قال: وكذلك الرجل يجمع الصلاة النافلة بأهل بيته وغيرهم لا بأس بذلك.

وخالف في ذلك أصحاب الرأي، فكرهوا أن يصلي الناس التطوع في جماعة في غير رمضان، وصلاة الكسوف.

وهذا الحديث المذكور حجة عليهم، ففيه التصريح بأن صلاة ابن عباس رضي الله عنه خلف النبي صلى الله عليه وسلم كانت تطوعًا، وهناك أحاديث أخرى في ذلك، منها حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عند الشيخين أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَت ْرَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: "قُومُوا فَلأُصَلِّ لَكُمْ" قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ أسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَصَفَفْتُ وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ.

ولا ريب أن ذلك كان في نافلة؛ إذ الفريضة كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها جماعة في المسجد. ويدل على أنه لم يكن يصلي بهم المكتوبة ما رواه مسلم عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا، وَمَا هُوَ إِلا أَنَا، وَأُمِّي وَأُمُّ حَرَامٍ خَالَتِي، فَقَالَ: "قُومُوا فَلأُصَلِّيَ بِكُمْ" فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلاةٍ، فَصَلَّى بِنَا... الحديث.

والصحيح رأي جمهور العلماء، وقد فعله كثير من الصحابة رضي الله عنه، منهم عمر وابن مسعود وابن الزبير وغيرهم:

فقد أخرج مالك عن عبد الله بن عتبة قال: دخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يصلي في الهاجرة (وهي نصف النهار قبل الظهر أو بعده) تطوعًا-  في رواية: فوجدته يسبح (أي يصلي نافلة)-  فأقامني حذوه عن يمينه، فلم يزل كذلك حتى دخل يَرْفَأ مولاه فتأخرتُ، فصففنا خلف عمر رضي الله عنه.
وعن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت مع أبي المسجد، والناس صفوف في صلاة الصبح، فخنَس دونهم فأقامني عن يمينه، فصلى ركعتين، ثم لحق بالصف.

وعن هشام بن عروة قال: رأيت عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يؤمهم في المسجد الحرام بالنوافل، ووراءه شيوخ من أهل الفقه والصلاح، يرون أن ذلك حسن.
قال هشام: إن الإمام كان يؤمهم في المكتوبة، ثم يدخل الدار فيسبح (أي يتنفل) ويسبحون بصلاته، وهو يؤمهم.

فهذه الأحاديث والآثار كلها وغيرها دالة على مشروعية صلاة النوافل في جماعة في غير رمضان، وبخاصة في مثل هذه الأيام المباركة التي يضاعف فيها الأجر، ويغفل عنها كثير من الناس.

ولا بأس بالاعتكاف بعض هذه الأيام في المسجد، أو حتى اعتكاف بعض الساعات، فقد أخرج عبد الرزاق عن يعلى بن أمية قال: "إني لأمكث في المسجد الساعة، وما أمكث إلا لأعتكف".

وأخرج عن عطاء قال: "هو اعتكاف ما مكث فيه، وإن جلس في المسجد احتساب الخير فهو معتكف، وإلا فلا".
فمن تيسر له فضاء بعض الوقت أو الجلوس بضع ساعات في المسجد فليستحضر نية الاعتكاف، والله نسأل أن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه.

نستكمل في المرة القادمة أين أنت من أيام العشر؟

--------------------

* أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر الشريف.