منذ أن ضعفت الخلافة الإسلامية ونهش العالم الغربي لحمها، ونصب سهامه المسمومة تجاه الدول الإسلامية؛ فاجتاحت فرنسا مصر عام 1798م، ولم تخرج إلا بسبب ضعفها وتناحرها مع إنجلترا على اقتسام الكعكة، غير أنها خرجت بعد أن غرست معانيَ الانحلال والإباحية وسط أبناء الأمة الإسلامية، وازدادت الحملة شراسةً بعد أن اجتاحت إنجلترا مصر في سبتمبر 1882م، واجتاحت فرنسا تونس والجزائر والمغرب، ثم اجتاحت إيطاليا ليبيا.

عمِل المحتل على طمس الهوية الإسلامية؛ فأهمل الأزهر والتعليم فيه، وحاول القضاء على اللغة العربية وإحلال كل ما هو غربي؛ فنشروا التنصير وسط الأمة وساعدهم على ذلك حالة الجهل التي كانت تحياها الأمة وسَيْر كثيرٍ من رجال الثقافة في ركاب الحضارة الغربية، لكن الله تعهَّد بحفظ دينه وقرآنه، وسخَّر له من يدافع عنه، وما كاد الاحتلال يستقر ويهنأ بالعيش في مصر حتى هبَّ أبناؤها يدافعون عنها بقلوب صادقة، وما كاد عام 1928م يحل حتى ظهرت وسط الأمة جماعة الإخوان المسلمين، والتي أنشأها الإمام البنا لتعرِّف الناس دينهم الصحيح ، ولتكون حائطَ صدٍّ ضد الغزو الغربي والصهيوني.

بدأ الإمام البنا دعوته بتربية المجتمع على المعاني الإسلامية التي طمسها الاحتلال، فرسَّخ الفرائض وأحيا السنة في نفوس الأمة، ومن هذه السنن التي أحياها الإمام البنا سنة صلاة العيد في الخلاء، والتي كان المسلمون قد تناسوها ، فكان الإمام يحرص على إحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم دون أن تخلق شقاقًا في صفوف الأمة؛ فبدأ بتعريف الناس أحكام صلاة العيد، وكان يقوم بتدريس بعض الأحكام الإسلامية عقب صلاة الفجر بالمسجد العباسي، وقبيل انتهاء شهر رمضان يتناول أحكام صلاة العيد في الخلاء، وأن من السنة أن يُصلَّى العيد في ظاهر البلد، وأن يخرج الناس رجالاً ونساءً ويشهدون الخير ، وأن الأئمة اتفقوا جميعًا على أفضلية صلاتها في الصحراء ما عدا الإمام الشافعي الذي أفتى بأن صلاتها في المسجد أفضل.

يقول الإمام البنا: "بينما نحن نقرر الأحكام إذ اقترح أحد المستمعين أن نحييَ هذه السنة ونقوم بصلاة عيد الفطر في الصحراء، خاصةٍ انه ليس بالإسماعيلية حينذاك إلا مساجد صغيرة؛ لا تتسع لبعض أهل البلد، ومن حولها صحراء اتسعت لجنود الاحتلال، وتحمَّس السامعون لهذا الاقتراح، فاشترطت ألا نخطوَ خطوة حتى نستشير العلماء ونتفق معهم على أسلوب التنفيذ؛ فإن وافقوا فذاك، وإلا فإن اجتماع الآراء على خلاف خيرٌ من افتراقها وتشتيت الكلمة على ما هو أفضل".

وتحمَّس الناس لهذا الاقتراح ؛ إلا أن بعض المتفيهقين حاولوا شق الصفوف، وأفتوا بأن هذا ابتداع في دين الله، وتعطيل للمساجد، ومحاربة للإسلام، يقول الإمام البنا: "تصادف أني كنت معتكفًا العشر أيام الأواخر من رمضان في المسجد العباسي، فتقاطر الناس عليَّ عقب كل صلاة يسألونني عن هذه البدعة الجديدة، وأنا أوضح لهم الحكم بما جاء به الدين، وأعمل على توحيد الكلمة وأتجنب الجدال".

وأيَّد العلماء الراسخون في العلم ذلك ، وتحمَّس الجمهور للحق وللسنة، وأعلنوا أن الصلاة ستكون في ظاهر البلد، وأعدوا المُصلَّى ، وتم ترتيب الأمر على أن يقوم الشيخ محمد مدين إمام مسجد العراشية بإمامة الناس، وكان لهذه الصلاة وقْعٌ عظيم في نفوس الناس، وانشرحت صدورهم بهذا المظهر الإسلامي العظيم، وحلَّت في نفوسهم بركة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعندما عاد الإمام الشهيد من إجازة العيد التي قضاها مع أهله في القاهرة وجد العاصفة قد خمدت، وأن السنة قد قُرِّرت واستمرت صلاة العيد في الخلاء.

وفي العيد التالي اقترح الإمام البنا على مجلسه الذي كان يعقده في بيت الحاج حسين الزملوط أن يخرج الناس إلى الشوارع ليكبِّروا تكبيرة العيد، فوافق الناس وخرجوا ليطوفوا بحي العرب بالإسماعيلية في مظاهرة حافلة يشق تكبيرها عنان السماء، ولكن تلك المسيرة لم يكن لها أن تسير أو تقترب من الحي الإفرنجي الذي يسكنه الأجانب، لكن الإمام البنا أراد أن يكسر الحاجز النفسي عند أهل الإسماعيلية فاقترح أن تعبر المسيرة شارع الثلاثيني لتجوب شارعًا أو شارعين من الحي الإفرنجي.

وفي العام التالي امتدت مسيرات العيد إلى داخل الحي الإفرنجي؛ مما أزعج الإنجليز، فما كان منهم إلا أن طلبوا نقل الإمام الشهيد حسن البنا من الإسماعيلية، وفوجئ أهل الإسماعيلية بذلك وأعلنوا رفضهم، واعتبروا نقل الأستاذ حسن البنا نوعًا من التحدي لشعبها؛ ولذلك سافر معظم كبار رجالها إلى القاهرة مع نائبها في البرلمان المرحوم سيد حسين المحامي، وعرضوا الأمر على السلطات المختصة في وزارة المعارف العمومية ورفضوا العودة إلا ومعهم حسن البنا، وتمت الاستجابة لمطلبهم، ولكنها كانت معلقةً على شرط ألا تتخطَّى مسيرة حسن البنا حي العرب، وألا تمتد إلى الحي الإفرنجي.

وبذلك يكون الإمام البنا قد أحيا سنةً كانت تُرعب المحتل؛ لأنها تعمل على تجميع الأمة على كلمة واحدة، وهذا ما لم يكن يرجوه، لكن السنة استمرت حتى الآن.