تعاني المستشفيات التابعة لحكومة الانقلاب من نقص حاد في عدد الأطباء؛ بما يجعل المرضى لا يحصلون على الخدمة الصحية المطلوبة، وبالتالي يواجهون الموت ويُرجع البعض العجز إلى عدة أسباب؛ منها تطفيش الأطباء من جانب وزارة الصحة بحكومة الانقلاب، وتدني الرواتب بصورة لا يشهدها أي بلد في العالم، وهذا دفع الأطباء إلى الاستقالة والهجرة إلى الخارج أو ممارسة العمل الحر داخل مصر.

وتشير الإحصائيات إلى أن عدد استقالات الأطباء خلال السنوات الثلاث الأخيرة بلغ نحو 6 آلاف استقالة، وهو رقم غير مسبوق.

ظاهرة هروب الأطباء أدت إلى عجز شديد في الكوادر الطبية بالمستشفيات، وهو ما دفع مجلس وزراء الانقلاب إلى منع الإجازات بدون راتب للأطباء، كما صدرت قرارات لمديري مديريات الصحة بالمحافظات بوقف الإجازات.

ووفقًا لأحدث الإحصائيات لنقابة الأطباء يقلُّ عدد الأطباء في مصر عن المعدل العالمي لعددهم، مقارنة بالسكان؛ إذ يوجد 103 آلاف طبيب لـ100 مليون مواطن، أي 10 أطباء لكل 10 آلاف مواطن، بينما المعدل العالمي 32 طبيبًا لكل 10 آلاف مواطن.

ويرجع تدنّي هذا المعدل إلى عدة عوامل؛ منها عدد الخريجين من كليات الطبّ، والذي لا يتناسب مع عدد السكان, كما أن أكثر من 70% من أطباء مصر يعملون في الخارج, إلى جانب استقالة عدد كبير من الأطباء.

ووفقًا لتقرير حديث للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن عدد الأطباء بالقطاع الحكومي نحو 103 آلاف و337 طبيبًا بشريًا، بينما المسجلون فى النقابة 233 ألف طبيب، وإذا تم استبعاد المتوفين ومن هجروا المهنة، فإن عدد الأطباء فى الخارج 100 ألف طبيب على أقل تقدير.

وقدرت مؤسسة "الحق في الصحة" حجم العجز في عدد الأطباء بنحو 30%، والتمريض بنحو 55%، مشيرة إلى أن عدد الأسِرّة المتوفرة أقل من 50% من المتوسط العالمي الذي يبلغ 2.9 سرير لكل ألف مواطن، رغم وجود 103 آلاف طبيب في مصر.

استقالات الأطباء

نقابة الأطباء حذرت من خطورة الأزمة على المدى البعيد، وقال د. محمد عبد الحميد، أمين الصندوق بالنقابة: إن عدد استقالات الأطباء خلال السنوات الثلاث الأخيرة اقترب من 6 آلاف استقالة، وهو رقم غير مسبوق.

وأضاف عبد الحميد - في تصريحات صحفية - أن إحصائيات موثقة داخل النقابة تشير إلى استقالة 1,044 طبيبًا عام 2016، واستقالة 2,549 طبيبًا عام 2017، فيما بلغ عدد الأطباء المستقيلين خلال عام 2018 نحو 2397 طبيبًا.

وتابع: "لا نستطيع القول إنها حالات فردية، ولكنها ظاهرة خطيرة، وأتوقع أنه خلال عدة سنوات لن يكون هناك أطباء بمصر".

وأرجع أمين صندوق نقابة الأطباء أسباب تلك الظاهرة إلى "أسباب كثيرة جدًّا، منها ضعف الأجور، والاعتداء المستمر على الأطباء في معظم المستشفيات جرَّاء نقص الإمكانيات الذي يغضب المرضى وذويهم؛ لينصبَّ هذا الغضب على الأطباء وحدهم، إضافةً إلى ضعف فرص الدراسات العليا وتكاليفها المرتفعة مقارنةً بدخول الأطباء، وحتى الآن لا يتم تطبيق القانون الصادر عام 2014، والذي ينص على تحمل جهة العمل مصاريف الدراسات العليا للطبيب".

وأشار إلى أن المشكلات ليست بجديدة على القطاع الطبي، ولكن الظروف الاقتصادية تسببت في تفاقمها، وقال: "مع التضخم وغلاء المعيشة أصبح راتب الطبيب لا يكفي شيئًا، وهناك أطباء يتجهون حاليًا للعمل بالدول الإفريقية التي تمنح رواتب تصل لـ3 آلاف دولار".

70 ألف طبيب

وكشف د. هشام شيحة، وكيل أول وزارة الصحة الأسبق، عن أن الأطباء المصريين العاملين في الخارج عددهم أكبر من عدد الأطباء العاملين بالداخل، وأوضح أن عدد الأطباء البشريين المصريين العاملين بالمملكة العربية السعودية يبلغ حوالي 70 ألف طبيب، إضافةً إلى عدة آلاف في بقية دول الخليج، وأن ما لا يقل عن 25 ألف طبيب يعملون بالولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية وكندا.

وأكد شيحة - في تصريحات صحفية - أن تلك الأعداد مرشحة للزيادة إذا لم تتحسن ظروف عمل الأطباء وأوضاعهم المادية داخل مصر، موضحًا أن هذه الظاهرة لم تحدث من قبل، وقال: "موجة استقالات الأطباء ورفضهم النيابات وإلغاء التكليف التي تحدث حاليًا لم تحدث من قبل، وكان نادرًا ما يستقيل طبيب أو يلغى تكليفه".

وأشار إلى ارتفاع الأسعار وعدم زيادة رواتب الأطباء، قائلًا: "ثبات رواتب الأطباء المتدنية أصلًا مع موجة ارتفاع الأسعار، ضاعف معانتهم، خاصةً شباب الأطباء والفرق الطبية المعاونة (التمريض والتخصصات الفنية)، إضافةً إلى أن 80% من شباب الأطباء لا يمتلكون عيادات خاصة، وحتى العيادات الخاصة أصبحت لا تعمل كما في السابق نتيجة لسوء الأوضاع الاقتصادية".

وحمَّل حكومة الانقلاب مسئولية الاعتداءات المتكررة على الأطباء، وقال: "التصريحات الرسمية التي تُصدّر معلومات غير صحيحة للناس بأن كل شيء متوفر، تتسبب في صدام بين الأطباء الذين يكونون في مواجهة المرضى الغاضبين من عدم توفر الأسرة والمستلزمات الطبية والأدوية، ويؤدي ذلك إلى تكرار حوادث الاعتداءات على الأطباء، وهي أحد أسباب الأزمة".

الطوارئ والتخدير

كما تشهد نيابات أقسام الطوارىء والتخدير والجراحات الدقيقة بكليات الطب والمستشفيات الجامعية، هروب الأطباء, على عكس ما كان يحدث سابقا من سباق للالتحاق بنيابات الجراحات الدقيقة، ويتم اختيار أوائل الدفعة، والآن أصبح يقبل أطباء ترتيبهم الدراسي متأخر وأحيانًا لا يتقدَّم أحد.

وتعليقًا على هذا العزوف قال د. خالد سمير، أستاذ جراحة القلب بكلية الطب جامعة عين شمس: إن مستشفيات جامعة عين شمس شهدت أزمة هذا العام في قسمي المسالك البولية والتخدير؛ لتقدُّم أعداد قليلة من الأطباء للالتحاق بنيابات تلك الأقسام، وحدثت مشكلة مماثلة في أقسام الطوارئ والتخدير بمستشفيات جامعتي الإسكندرية وأسيوط.

وعن هروب الأطباء من تلك الأقسام، أضاف سمير - في تصريحات صحفية - : "بخلاف أن عمل هذه الاقسام مرهق، فهي تُعرّضهم لمتاعب كثيرة، وفي حالة وفاة مريض يتعرَّض الطبيب للحبس، ويتعرَّض أطباء الطوارئ للاعتداءات المتكررة، فأصبح الأطباء يُفضّلون تخصصات مثل الجلدية والأشعة والتحاليل، تُوفّر لهم دخلاً جيدًا، وتُعرّضهم لمشاكل أقل".

رواتب هزيلة

وقالت الدكتورة منى مينا، الأمين العام لنقابة الأطباء: إن حال الطبيب المصري يُرثى له في ظل تدني الرواتب التي يتقاضاها الطبيب الحكومي، مؤكدةً أن أكثر من نصف أطباء مصر يعملون بالخارج، ولا تزال النسب في ازدياد يومًا تلو الآخر، في ظل تعنت حكومة الانقلاب في تحسين الظروف المادية للعاملين بالقطاع الصحي.

وأضافت أن راتب الطبيب حديث التخرج يبدأ من 400 جنيه (200 جنيه أساسي و200 جنيه حوافز)، ليصل الراتب الأساسي إلى 900 جنيه بعد مدة عمل 36 عامًا عند بلوغه سن المعاش، مشيرةً إلى أن هذا الأمر يدفع بالآلاف من الأطباء إلى السفر للعمل بدول الخليج، وأيضًا أوروبا للعمل برواتب مضاعفة، وسط مناخ عمل يرقى لمهنة الطب.

وحذرت من أن رفض الموافقة على إجازات الأطباء للعمل بالخارج لا علاقة له باحتياج العمل؛ لأن الطبيب الساعي للسفر لتحسين دخله لن يغير خططه بناءً على رفض الحكومة طلب الإجازة، فمن السهل أن يتقدم باستقالته أو ينقطع عن العمل وينتظر الفصل.

وحذَّرت مينا من تداعيات قرار وقف الإجازات؛ حيث إنه سيزيد العجز بشدة؛ لأن جهة العمل الحكومية ستفقد الطبيب للأبد وليس لفترة محدودة يحل فيها مشاكله المالية، مشيرةً إلى أنه إذا كانت هناك رغبة حقيقية فى حل مشاكل عجز الأطباء الشديد والمتزايد، فكان من الضروري أن تهتم وزارة الصحة بتحسين أجورهم أولاً، وتحسين معاملاتهم، أو حل مشاكل الدراسات العليا والتدريب، أو توفير مستلزمات العلاج لتقليل المشكلات والاعتداءات التي يتعرض لها الأطباء يوميًّا، أو حتى حل مشاكل سكن الأطباء، مع السماح بإجازات العمل في الخارج لفترة محدودة.

إحصاءات دقيقة

وأوضحت أنه وفقًا لسجلات النقابة فإن إجمالي عدد الأطباء في سن العمل بالقطاعين الحكومي والخاص 212 ألفا و835 طبيبا، بمعدل 2.1 طبيب لكل ألف مواطن، أما عدد الأطباء بالمعاشات 54012 طبيبًا، وإذا قدرنا أن منهم على الأقل 20 ألف طبيب ما زالوا يمارسون العمل في القطاع الخاص بعد انتهاء الالتزام بالعمل الحكومي، يصبح الأطباء المؤهلون القادرون على العمل في مصر 232 ألفا و835 طبيبا، بمعدل 2.3 طبيب لكل ألف مواطن.

وأشارت إلى أن منظمة الصحة العالمية ترصد أن 45% من الدول نسبة الأطباء بها أقل من طبيب لكل ألف مواطن، وتتجه أغلب الأبحاث لاعتماد طبيبين لكل ألف مواطن كنسبة مقبولة، لذلك يتضح أن عدد الأطباء المتخرجين من كليات الطب حاليا يوفر 2.3 طبيب لكل ألف مواطن وهي نسبة كافية جدا، ولا يوجد أي احتياج لزيادة عدد كليات الطب ولا لزيادة عدد الخريجين.

وأشارت مينا إلى أن مجلس نقابة الأطباء لا يملك إحصاءات دقيقة لعدد الأطباء على رأس العمل بالقطاع الحكومى، لكن الملاحظات العامة تشير إلى أن أكثر من نصف الأطباء، البالغ عددهم نحو 230 ألفا، نزحوا للخارج، بسبب صعوبة العمل في مصر.

وقللت من فائدة إنشاء كليات طب خاصة، مؤكدةً أن ما يزيد الأوضاع سوءًا أن هذه الكليات المزمع إنشاؤها لا تملك إمكانيات التدريب العملي والإكلينيكي الضرورية، وعلى رأسها المستشفى الجامعي الذي يعدُّ العمود الفقري لكلية الطب، وبذلك يتضح أننا نتجه لتخريج أعداد غفيرة من الخريجين بدون تدريب، لندخل بالمنظومة الصحية في منحدر غير مسبوق من فوضى الممارسة الطبية.

نظام العسكر

وأرجع استشاري أمراض القلب د. عادل عارف هجرة الأطباء من مصر إلى عدة عوامل، منها: "عدم استكمال تجهيزات عدد كبير من المستشفيات، وهو ما يجعل شريحة واسعة من الأطباء عاجزين عن أداء مهنتهم بكفاءة عالية، وثانيها الضعف الشديد في رواتب الأطباء، حتى أصبح راتب الاستشاريين والأخصائيين لا يتجاوز رواتب صغار العاملين في الخارجية أو القضاء، فضلاً عن الداخلية والجيش"، مضيفًا أن "راتب طبيب في الخارج في يوم أو يومين يعادل راتب شهر كامل في مصر".

وقال عارف - في تصريحات صحفية - إن "الطب كمهنة إنسانية، والطبيب كصاحب رسالة، كان يشبع هذا الجانب في أداء مهنة الطب في العمل الخيري، والمستشفيات الخيرية التي تقدم خدمات حقيقية لا شكلية، ولكن مع غياب هذه المنظمات وضعفها في السنوات الخيرة افتقد الأطباء الجانب الإنساني الذي كانوا يؤدونه".

وحمل استشاري أمراض القلب نظام العسكر مسئولية هروب الكوادر الطبية بسبب سياساته البوليسية، قائلا: "لا ننسى انتشار التدين بين عدد كبير من الأطباء، واضطهاد الدولة لتيار ديني معين، وفصلهم من عملهم، سواء في المستشفيات أو الجامعات، ومع انتشار البلطجية في السنوات الأخيرة أصبح عدد كبير من الأطباء غير آمنين على أنفسهم، سواء في عملهم أو في بيوتهم؛ كل ذلك دفع الأطباء ويدفعهم للعمل بالخارج".