في السودان، يدرك الثوار الذين أطاحوا بالرئيس "عمر البشير" الخطر الذي تمثله الدول العربية المجاورة. وتظهر جداريات تصور المتظاهرين يرفضون أي تدخل من قبل السعودية والإمارات العربية المتحدة، وتعد إحدى أكثر الأغاني شعبية في هذه الانتفاضة هي "النصر وإما مصر"، التي تعبر عن تصميم الناشطين على عدم الخضوع لثورة عسكرية مضادة كما حدث في جارتهم الشمالية.

وتعد هذه المخاوف بشأن التدخل الخارجي واقعية، فبعد أن أطاحت شخصيات عسكرية رفيعة في السودان بـ"البشير" في أبريل الماضي، تدخلت ممالك الخليج على الفور لدعم المجلس العسكري الانتقالي الجديد، وقامت السعودية والإمارات بتحويل 500 مليون دولار نقدًا للمجلس، ووعد البلدان بـ2.5 مليار دولار إضافية على هيئة سلع أساسية.

ويعتقد الكثير من السودانيين أن حملة 3 يونيو، التي قُتل عشرات المتظاهرين خلالها، لم تأت إلا بعد الضوء الأخضر من السعودية والإمارات ومصر.

وتتحدى هذه "الترويكا" العربية ​​المعايير والمؤسسات الديمقراطية للاتحاد الإفريقي علنًا، وعندما رفض مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي عملية استيلاء المجلس العسكري على السلطة وطالب بنقل السلطة إلى المدنيين على سبيل المثال، قوضت مصر هذه الخطوة بالإصرار على تمديد الموعد النهائي لتسليم السلطة من 15 إلى 90 يومًا، وبعد عمليات القتل التي وقعت في 3 يونيو، حاولت القاهرة إيقاف قرار من المجلس بتعليق عضوية السودان.

وفي هذا الصراع بين الاتحاد الإفريقي والسلطوية العربية، ليس هناك شك في أن الديمقراطيين لديهم اليد الأضعف، لكن ذلك لا يعني أن كل شيء يسير وفق هوى الترويكا العربية.

الاستبداد العربي

وتقاوم الدول الإفريقية بالفعل الاستبداد العربي، وإن كانت مقاومة ضعيفة، فبعد مذبحة 3 يونيو على سبيل المثال، تحدى مجلس السلم والأمن الإفريقي الضغط المصري وأوقف عضوية السودان، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى الرئاسة النيجيرية القوية للمجلس.

وبعد ذلك، عين رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي "موسى فقي"، مستشاره منذ وقت طويل، "محمد حسن لابات"، مبعوثًا للتحقق مما إذا كان السودان يستوفي شروط إعادة القبول.

ويعد أسلوب "لابات" سريًّا؛ حيث لم يشارك مقترحاته مع أحد، أما ما يتم تهامسه حول الاتحاد الإفريقي فهو أن "فقي"، وزير الخارجية التشادي السابق، يتماشى مع تفضيل الرئيس التشادي "إدريس ديبي" لدور قوي للجيش في الحكومة السودانية، وأنه تم صياغة جدول أعمال "لابات" وفقًا لذلك.

ثم في أوائل يونيو ، تدخل رئيس الوزراء الإثيوبي "آبي أحمد" شخصيا لمحاولة التوسط في تسوية بين المجلس العسكري السوداني وقوى "الحرية والتغيير" المعارضة.

وافتقرت مبادرة "آبي" للحد الأدنى من الإعداد أو التشاور، واستخدم الدعوة إلى الحب الأخوي كحل لمشكلة سياسية، ومع ذلك، فقد أتاح ذلك فرصة للجانبين للحديث، وفي النهاية تم التوصل لاتفاق لمشاركة السلطة بين العسكريين والمدنيين في 5 يوليو.

غير أن دور الاتحاد الإفريقي في هذه الصفقة كان محدودًا ورمزيًّا إلى حد كبير، فقد تم العمل الحقيقي وراء الكواليس من قبل الدبلوماسيين الأمريكيين والبريطانيين، وفي أبريل ومايو، بالكاد تجاوزت الدول الغربية البيانات الروتينية لدعم الديمقراطية، ولكن بحلول وقت مذبحة 3 يونيو، كانوا قد بدأوا يستوعبون مخاطر الأمر.

ومنذ عام 2018، كان المسؤولون الأمريكيون والبريطانيون يناقشون كيفية تنسيق استراتيجياتهم تجاه دول الخليج والقرن الإفريقي، وبدأت هذه المشاورات الداخلية تؤتي ثمارها الآن.

ويوجد روتين ثابت للاجتماعات الدورية بين كبار الدبلوماسيين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وفي يونيو كان التركيز - لأول مرة على الإطلاق - على السودان.

وفي سلسلة سريعة من الاجتماعات في العواصم العربية ولندن، وضع الشركاء الغربيون المشكلة نصب أعينهم، وأثناء استعراضها، عرض القمع الدموي في الخرطوم سمعة السعودية والإمارات لخطر إضافي.

وفي أعقاب توبيخ الكونجرس الأمريكي للسعودية بسبب الحرب في اليمن، وقرار المحكمة العليا البريطانية الذي أقر بأن مبيعات الأسلحة إلى المملكة تنتهك القانون، ظهر رأي عام في الدول الغربية مستعد للتظاهر ضد الأعمال الوحشية في السودان أيضًا.

صمود السودانيين

وإلى جانب هذه الإشارات التحذيرية، من المرجح أن القادة في السعودية والإمارات قد فوجئوا بقدرة المتظاهرين السودانيين على الصمود، وبعد فترة وجيزة من مذبحة 3 يونيو، عاد الناس إلى الشوارع، وخططوا لـ"مسيرة مليونية" في 30 يونيو.

ولم يتبع السودان ما حدث في البحرين، حيث تفرق المتظاهرون بعد حملة واحدة أو مصر؛ حيث سيطر الجيش على مقاليد الأمور عبر مزيج من الحيل السياسية والقمع.

وكان لدى الولايات المتحدة وبريطانيا سبب للدفع باتجاه التوصل إلى اتفاق في السودان، فعلى عكس ثورات الربيع العربي، التي شكل فيها الإسلاميون جزءا كبيرا من حركات الاحتجاج، كانت انتفاضة السودان ضد نظام إسلامي، ويشترك كل من المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير في الخصومة مع الإسلاميين، علاوة على ذلك، يخاطر انهيار النظام في السودان بفتح الباب للمتطرفين.

وأدت هذه الدوافع المشتركة إلى عقد اجتماع شبه سري في الخرطوم أخيرا شارك فيه قادة الطرفين، مع ممثلين من المملكة المتحدة والولايات المتحدة والسعودية والإمارات، وفي هذا التجمع، استخدم المشاركون الصيغة الإثيوبية التي سبق صياغتها للتوصل إلى اتفاق تم توقيعه في 5 يوليو وكان مبعوثا الاتحاد الإفريقي "لابات" والإثيوبي "محمود ديير" حاضرين لتوفير شرعية عامة للاتفاق.

انشقاقات "الترويكا"

وتشير هذه القصة إلى أن تأثير "الترويكا" العربية ليس مهيمنًا، وتشير ديناميكيتان أخريان إلى أن نفوذ دول الشرق الأوسط قد أصبح ضعيفا في السودان.

وتعد الديناميكية الأولى هي الانقسامات داخل "الترويكا" العربية، وكان هناك انقسام كبير بين السعودية والإمارات في شهر يوليو ، عندما سحبت الأخيرة فجأة معظم قواتها من اليمن دون موافقة السعودية التي ما زالت متورطة في الحرب المستعصية على الحل.

ويظهر قرار الانسحاب من اليمن أيضا أن سياسات الإمارات تجاه القرن الأفريقي قد تكون أقل استراتيجية وأكثر انتهازية مما افترض المراقبون.

وهناك أيضا انقسام أعمق بين مصر وممالك الخليج، وتفخر مصر بفهمها لشؤون السودان، وترى السعودية والإمارات كوافدين جديدين يسعيان فقط إلى التأثير من خلال صرف الأموال، وحصرت مصر مطالبها للسودان بتسليم الإسلاميين المصريين في المنفى، وتعليق صفقة تطوير القاعدة البحرية مع تركيا، والتنازل عن مطالباتها الإقليمية بمثلث "حلايب".

ويجمع العديد من الجنرالات المصريين والسودانيين، الذين لهم علاقة وثيقة طويلة الأمد، على كراهية قوات الدعم السريع شبه العسكرية التي يقودها الجنرال "محمد حمدان دغلو"، المعروف أيضا باسم "حميدتي"، الذي يشغل منصب نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي، وهم لا يستطيعون فهم السبب وراء استعداد السعودية والإمارات لدعمه على نحو متهور.

وبينما تجد الدول العربية نفسها منخرطة في المنازعات الداخلية بين السودانيين، فإنها تواجه نقطة خلاف أخرى محتملة، ولا يحتاج السودان فقط إلى الديمقراطية، ولكن إلى السلام، ويعني هذا الوصول إلى توافق حول دور الإسلاميين في الخرطوم وباقي المحافظات.

وعلى مدار عقد من الزمان، كانت قطر راعية عملية السلام في "دارفور"، وسيكون من المستحيل تجاهل دور قطر أو دور الدوائر الانتخابية المتنوعة للإسلاميين في السودان، وبدأت بعض هذه الديناميات تظهر بالفعل، ما كشف عن عدم وجود استراتيجية مشتركة بين الترويكا العربية.

وكان معظم الضباط العسكريين والسياسيين الذين تم اعتقالهم في الفترة من 27 إلى 28 يوليو في أعقاب محاولة انقلاب مزعومة من الإسلاميين المخضرمين وضباط الجيش الذين ليس لديهم ميول سياسية واضحة.

وكان ما وحد هذه المجموعة المتباينة هو الخوف المشترك من حكومة يديرها "حميدتي"، ومن المحتمل أن كبار الضباط المصريين يشاركونهم هذه المخاوف، ومباشرة بعد الحادث، طار "حميدتي" إلى القاهرة في محاولة واضحة لتهدئة مخاوف "السيسي".

صدام اقتصادي

أما الديناميكية الثانية فهي اقتصادية، بدأت تظهر للتو، ويتلخص لب المشكلة على النحو التالي:

بعد انفصال جنوب السودان عام 2011، فقد السودان 75% من حقوله النفطية، والنسبة الأكبر من عملته الصعبة، وكان الذهب يوفر 40% من صادرات السودان، ومع ذلك، تم تهريب حوالي ثلثه إلى ليبيا أو تشاد، أو مباشرة بالطائرة إلى أكبر سوق للذهب في المنطقة في دبي.

وردت الحكومة في الخرطوم، التي كانت يائسة للسيطرة على الذهب، بتعيين بنك السودان المركزي كوكيل وحيد لشراء الذهب ودفعت أعلى من سعر السوق لتجار الذهب، وطبعت النقود لتغطية هذه النفقات، وأصبح شراء الذهب لتحويله إلى عملة صعب المحرك الأساسي للتضخم المرتفع في السودان.

وبحلول عام 2018، كان سعر السلع الأساسية مثل الخبز والوقود مرتفعا جدا مقارنة بالأجور الراكدة، ما دفع الناس في جميع أنحاء البلاد إلى الشوارع للاحتجاج.

وكان الفائز الأكبر في هذا الانهيار الاقتصادي هو "حميدتي"، وتسيطر ميليشيات قوات الدعم السريع التابعة له على مناجم الذهب، ويملك شخصيا عددا من العقود، ومن خلال السياسة النقدية للسودان، تم تحويل موارد هائلة من وسط البلاد إلى رجال الميليشيات وتجار الذهب في أطرافها.

كما استفاد "حميدتي" بشكل كبير من توفير المرتزقة الذين يعدون ثاني أكبر مصدر للنقد الأجنبي في السودان اليوم، وبعد بضعة أشهر من شن السعوديين حربهم في اليمن في مارس 2015، تطوع السودان لإرسال قواته لدعم التحالف.

كانت الكتيبة الأولى كتيبة تابعة للجيش النظامي، ولكن بعد ذلك أبرم "حميدتي" صفقة موازية لإرسال عدة ألوية من مقاتلي قوات الدعم السريع، وفي غضون عام، كانت قوات الدعم السريع صاحبة أكبر وحدة أجنبية تقاتل في اليمن، مع ما لا يقل عن 7 آلاف من رجال الميليشيات.

وتم دفع الأموال لـ"حميدتي" مباشرة من قبل السعودية والإمارات مقابل هذه الخدمة، ويقول "حميدتي" إنه أودع 350 مليون دولار في البنك المركزي السوداني، لكنه لم يوضح المبلغ الذي احتفظ به لنفسه.

وباختصار، أصبح بنك السودان المركزي أداة لتمويل "حميدتي" سياسيا، ومنذ أن أصبح الممثل الرئيسي في المجموعة الحاكمة في السودان، في أبريل ، مارس "حميدتي" قبضة أشد على إنتاج الذهب وصادراته، بينما كان ينتقل بقوة إلى مناطق تجارية أخرى، كما زاد من انتشار قوات الدعم السريع في اليمن، وأرسل لواء للقتال في ليبيا إلى جانب الجنرال "خليفة حفتر" المدعوم من مصر والإمارات في مقابل مكافآت مالية إماراتية.

ويقوم "حميدتي" أيضا بتوسيع مجموعة شركاته العائلية، شركات "الجنيد"، ويدير أعماله السياسية بتوزيع النقود شخصيا على الأشخاص الرئيسيين، مثل زعماء القبائل والشرطة وعمال الكهرباء.

لكن المسألة هي أن أيا من هذا لا يعالج أزمة الاقتصاد الكلي في السودان، التي تتلخص في التضخم المتزايد، ومتأخرات الديون الدولية، ونبذ السودان من قبل ​​النظام المالي الدولي القائم على الدولار، وفي الواقع، لا يؤدي أسلوب التمويل السياسي لـ"حميدتي" إلا إلى تفاقم مشاكل الاقتصاد السوداني.

وفي الوقت الحالي، يقوم رعاة الخليج في السودان بمحاولة إنقاذ البلاد من خلال إعانة شهرية قدرها 200 مليون دولار نقدا، فضلا عن السلع الأساسية، لكن مبالغ الإنقاذ المطلوبة ستصبح كبيرة أكثر حتى مما تستوعبه الجيوب العميقة لدول الخليج الغنية بالنفط.

وما يحتاجه السودان حقا هو مجموعة شاملة من إجراءات تخفيف عبء الديون، ومعالجة اختلالات الاقتصاد الكلي في البلاد. ويتطلب هذا بدوره اتفاقا مع صندوق النقد الدولي يشمل تشغيل البنك المركزي بطريقة تقليدية تعيد الانضباط إلى السياسات المالية والنقدية للبلاد.

وما يعنيه هذا هو أن هناك صداما يلوح في الأفق بين منطق "السوق السياسي" الذي يتبعه "حميدتي" والمنطق التقليدي المطلوب لإنقاذ الاقتصاد السوداني، ويدرك الفنيون السودانيون المرتبطون بـ"قوى الحرية والتغيير"هذا الأمر تماما، وهذا هو السبب وراء دعوة الاقتصاديين للتقدم لشغل مناصب مجلس الوزراء، لذا سوف يبرز السباق بين محاولات "حميدتي" توطيد سلطته، ومحاولات قوى الحرية والتغيير إعادة تعمير الاقتصاد لحل الأزمة التي قادت إلى الاحتجاجات التي أدت إلى سقوط "البشير".

صندوق النقد الدولي

وسوف تظهر دينامية هذه الصراعات في شوارع المدن السودانية. لكنها ستبرز أكثر في المناقشات بين مستشاري ولي العهد السعودي في الرياض ونظيره الإماراتي في أبوظبي.

وقامت السعودية والإمارات باستثمار سياسي كبير في المجلس العسكري الانتقالي من منظور أمني، ولكن الحسابات الاقتصادية ستدخل المعادلة بشكل متزايد، وسوف يواجه القادة العرب ضغوطا إضافية من مستشاريهم الاقتصاديين، ورجال الأعمال العالقين في الاستثمارات السودانية.

وحتى الآن، لم تواجه دول "الترويكا" تداعيات التناقض بين سياساتهم في السودان، ومع تعمق الأزمة الاقتصادية في البلاد، سيتعين على السودانيين اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، والدائنين الغربيين، للحصول على المساعدة، وسوف يظهر مرة أخرى مدى حدود تأثير الدول العربية.

ولا تعد الأزمة الاقتصادية هي التحدي الهيكلي الوحيد الذي يواجه داعمو الديمقراطية في السودان، وتحتاج "قوى الحرية والتغيير" أيضا إلى التعامل مع التحدي المتمثل في وضع جدول أعمال مشترك مع المجموعات المسلحة، التي تمثل في معظمها الدوائر الانتخابية في "دارفور" ومنطقتي "كردفان" و"النيل الأزرق" في الجنوب، وسيتعين عليهم العمل على وضع آلية للتعامل مع قطاع الأمن المتضخم والمجزأ في البلاد وليس لدى الترويكا العربية أجندة على الإطلاق للتعامل مع هذه التحديات الأساسية.