سنة تلو أخرى تتبلور الأصداء الداخلية تجاه ردود الفعل نحو المحرقة التي جرت في ميدان رابعة العدوية يوم 14 أغسطس 2013م وغيره من ميادين مصر؛ في النهضة ومصطفى محمود وغيرها، وبدأت كثير من أصوات العقلاء في التيارين الليبرالي واليساري تُجاهر بحجم الكارثة التي وقعت، وأن ما جرى كان مذبحة مروّعة ارتكتبها قوات الجيش والشرطة، مع سبق الإصرار والترصّد..

فهل يكون البعد الإنساني لما جرى طريقًا نحو لمّ شمل القوى التي شاركت في الثورة المصرية العظيمة، ثورة 25 يناير، وتكوين تحالف وطني واسع يواجه الحكم العسكري الشمولي، ويعمل على استرداد ثورة يناير وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي، يقوم على الحرية والعدالة والتداول السلمي للسلطة، دون إقصاء أو تهميش، ويحرر القرار الوطني من الخضوع لقوى دولية وإقليمية أسهمت في رسم مسار انقلاب 3  يوليو 2013م؟!

هذه الأصوات العاقلة - بحسب الكاتب الكبير فهمي هويدي - تميزت بثلاثة أمور:

- الأول: التفرقة بين ما هو سياسي وما هو إنساني وأخلاقي، بمعنى أن المختلفين سياسيًّا ظلوا على مواقفهم، لكنهم أعلنوا إدانتهم للانتهاكات التي حدثت في مجزرة فض الاعتصامات التي أوقعت ذلك العدد الكبير من الضحايا.

- الثاني: رفض تعميم الإدانة والاتهام على كل المنتمين إلى الإسلام السياسي.

- الثالث: الدعوة إلى الاصطفاف الوطني واستعادة أهداف ثورة ٢٥ يناير٢٠١١، والتنبيه إلى أن الصراع في جوهره ليس بين السلطة والإخوان، ولكنه بين الثورة والثورة المضادة.

الصحيح أن هذه المعاني كانت واضحة منذ اللحظة الأولى بنظر بعض الشخصيات التي انتصرت للمبدأ ولم تساوم على الحقائق، من اليسار واليمين، مثل الحقوقي الراحل أحمد سيف الإسلام حمد؛ الذي وصف "رابعة"، منذ اللحظة الأولى، بأنها جريمة نظام، وأن (مسرحية) الثلاثين من يونيو 2013 هي انقلاب عسكري يضع على وجهه أصباغًا مدنية.

وكان الاشتراكيون الثوريون - رغم مشاركتهم في مشهد الانقلاب الآثم - أول من أدرك هذا البعد الإنساني، وأصدروا بيانًا في الذكرى الثانية للمذبحة تبنَّى ذات الأوصاف والتوصيفات التي يطلقها الإسلاميون على ما جرى في هذا اليوم المشئوم.

وكان من أبرز ما كُتب في هذا الصدد تحليل رصين كتبه سامح نجيب، أحد مثقفي اليسار البارزين، نشر على موقع "الاشتراكي" في ذكرى فض الاعتصام (١٤/٨) ومما قاله: إن شهداء رابعة والنهضة والحرس الجمهوري والمنصة وجامع الفتح.. هم شهداء الثورة المصرية، مثلهم مثل شهداء يناير ٢٠١١ وماسبيرو ومجلس الوزراء ومحمد محمود.

يتفق مع ذلك ما ذكره الكاتب الليبرالي الكبير وائل قنديل، في مقاله المنشور بصحيفة "العربي الجديد" تحت عنوان "إعادة تعريف السيسي"؛ حيث يؤكد أنه بعد ست سنوات من الكارثة "ثمة نوبة صحيان صادقة للضمير لدى مجموعات من المصريين، فعلوا بثورتهم ما فعل السيسي بجزيرتي تيران وصنافير، متوهمين أنهم بذلك ضمنوا البقاء والرخاء، ثم أفاقوا على صوت ارتطام رؤوسهم بأرض لا تشبع من الدماء، ولا تكف عن ابتلاع الأحلام. وكما قلت مرارًا: الكل يقف أمام الحقيقة العارية الآن: هذا نظام لا يصون العرض، ولا يحافظ على الأرض، نظام يريق الدم ويبيع الرمل والتراب،على قمته شخص قرّر أن يحرق كل شيء؛ كي يبقى في سلطته، يعدم معارضيه، ويقتل قضاته، ولا يتورع عن ارتكاب أي جريمة، أو حماقة، يتوهم أنها تطيل بقاءه في الحكم، وفي سبيل ذلك يهمه أن يصنع الإرهاب بيديه، إن لم يكن موجودا، كي يحيا على عوائد محاربته".

تحصين الوعي ضد الروايات المزيفة

ومن المعاني النبيلة التي يلحُّ عليها "قنديل" أن إحياء ذكرى مذبحة رابعة ليس طقسًا كربلائيًا، ولا رغبةً في البكاء على الأطلال، كما يصوّر بعض الذين ترهق مشاعرهم، المرهفة، صور ولقطات أبشع مجازر التاريخ المصري.. ليست المسألة حفرًا في أعماق الجرح، تلذذًا بالألم، وإنما هي إعادة تعريف للأشياء والأشخاص، حماية للذاكرة من التآكل الذاتي، أو تمزيق أوصالها بالروايات الكذوب. هنا يكون التذكر شكلًا من أشكال التشبث بالحياة، وفعلًا من أفعال المقاومة والدفاع عن المستقبل بتحرير الماضي من الأوهام.

وبحسب قنديل، فإن ما "يلفت النظر في التفاعل مع الذكرى السادسة للمذبحة أنها باتت وجعًا قوميًا شاملًا، وجرحًا غائرًا في وجدان الجميع، ليتسع نطاقها، كما لم يحدث من قبل، من مجرد كونها سرادق عزاء إخواني، أو مناسبة حزينة لتيار الإسلام السياسي، إلى كونها قضية الوطن كله، وفجيعة المجتمع الإنساني بأسره، إذ تأتي الشهادات، هذه المرة، من أطياف مختلفة من السياسيين، تمنح الأحداث والأشياء والشخصيات أسماءها الحقيقية".

مضيفًا: "هنا تكتسب الذكرى أهميتها من قدرتها على إعادة تعريف الشخوص والأفعال بشكل واضح.. ما جرى جريمة ضد الإنسانية، تستوجب محاكمة مرتكبيها.. عبد الفتاح السيسي جنرال دموي قاتل، وليس مجرد حاكم مستبد وصل إلى السلطة بطريقة غير شرعية.. الخلاف مع السيسي لا يتعلق بالأداء وإنما بالدماء".