الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومَنْ والاه.

 

وبعدُ؛ فإنَّ العاقلَ هو مَنْ يُنْعِمُ النظرَ في الواقعِ ويُحسنُ قراءتَه في ضوءِ حقائقِ القرآنِ ووقائعِ التاريخِ وتجارِبِ الأجْيال، ومن ثَمَّ يتَّخذُ المواقفَ الصحيحةَ، ويطمئِنُّ قلبُه لطريقِ النَّجاةِ في الدُّنيا والآخرة، وذلك ما يُرَبِّي القرآنُ الكريمُ الأمةَ عليه، لتطمئنَّ في مسيرِها، وتمضيَ في طريقِها، في مواجهةِ الإفكِ، ومقارعةِ الباطلِ الذي يجتمعُ عليه أعداؤُها والمتربِّصون بها، فتُبدِّدَه بالحقِّ الذي تُمَثِّلُه والنورِ الذي تحملُه بإذن الله.

 

وهذه نظراتٌ في حديثِ القرآنِ عن المكرِ والكيدِ والخداعِ وعاقبةِ الماكرين.

 

المَكْرُ: هو صرفُ الغيرِ عما يقصدُه بحيلةٍ خفيَّةٍ، بحيثُ لا يشعرُ الممكورُ به بما دبَّره الماكر، بل ربما اطمأنَّ إلى عكس ما يُدَبَّرُ له، وهو الخداعُ والكيْد، وهو محمودٌ ممدوحٌ حين تمارسُه الأمةُ مع أعدائِها المتربِّصين بها الدوائر، وممقوتٌ مذمومٌ حين يستعملُه الأفرادُ فيما بينهم، أو يستعملُه المؤتمنون فيما ائتُمنوا عليه، ولذلك كان عقابُه واضحًا، ففي الحديث: «المَكْرُ والخِيَانَةُ والخَدِيعَةُ في النَّارِ»، وفي الحديث أيضا: «مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُؤْمِنًا أَوْ مَكَرَ بِهِ»، وفي الحديث: «وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ» وذكر منهم: «وَرَجُلٌ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِى إِلاَّ وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ».

 

ولله درُّ قيسِ بن سعدٍ، الذي قال : لولا أني سمعتُ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: « المَكْرُ والخَدِيعَةُ في النَّارِ» لكنتُ أَمْكَرَ هذهِ الأُمَّة.

 

العَدَاءُ والمَكْرُ للحقِّ وأهلِه قَدَرٌ إِلَهِيٌّ وسنةٌ ماضيةٌ في المُجرِمين:

 

ولذلك لم تمرَّ رسالةٌ لنبيٍّ ولا دعوةٌ لمصلِحٍ إلا وتعرَّض لها أعداؤُها بالمكْر ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.

 

ولهذا قال تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ﴾.

 

شياطينُ الجنِّ والإنسِ يتعَاونون على المَكْرِ بالحقِّ وأهلِه:

 

فهم يَغُرُّ بعضُهم بعضًا بالنجاح في الكيدِ، ويُزَيِّنُ بعضُهم الشرَّ لبعضٍ، حتى يندفِعوا في المكر والغِواية، قال تعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾.

 

وفي حديث أبي ذرٍ أن النبيَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَوَّذْ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَهَلْ لَلْإِنْسِ شَيَاطِينٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا».

 

تَزْيينُ المكرِ للماكِرين:

 

من تأمَّلَ في آياتِ القرآنِ وجدهُ يتحدثُ عن أممٍ مَكرتْ، فمدَّ الله لها أسبابَ المُهلة، واستهواها المكرُ، فضربتْ في التيهِ واستغرقتْ في الضَّلال، ولم يجدوا مَنْ يُنقذهم ﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾.

 

يستجيبُ لهذا المَكْرِ مَنْ فقَدوا حقيقةَ الإيمان:

 

ذلك أنَّ الغافلَ عن لقاءِ الله يتنكَّبُ سبيلَ الحقِّ والخير دائمًا ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ﴾ (المؤمنون 74) ولهذا فهم لا يكتفُون بالسماعِ لزُخرفِ القول والخططِ المدبَّرَةِ من الماكرين، بل يرضَوْن بمكرهم، بل يسْعَوْن في تنفيذِ مخططاتهم ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ﴾.

 

مَكْرٌ مَرْصُودٌ، وكيْدٌ مكشوفٌ، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ:

 

يتصوَّرُ الماكرون الكائدون للحقِّ أنهم قد أجمعُوا كيدَهم، واستوعَبوا في مكرِهم كلَّ أسبابِ النجاح، واستوْفَوْا خططَهم، ووفَّرُوا تمويلَهم، وأعدُّوا قوتَهم، وضبطوا حساباتِهم، وجهَّزوا بدائلَهم، بحيث لم يتركوا شيئًا لما يسمونه (الصُّدفة)، ووضعوا لكلِّ احتمالٍ ما يناسبُه، ويمضُون في كيدِهم فرِحِين، يقولون لكل من يذكِّرُهم بعواقبِ المكر ﴿قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ﴾، وينسَوْن في غمْرتِهم أنه لا أحدَ في هذا الكون ينطقُ كما يشاءُ بلا قيدٍ ولا ضابطٍ، أو يصيبُ من يشاءُ بلا معقِّبٍ ولا رادعٍ، وأنهم مهما بلغتْ قوتُهم وإرادتُهم، فهي مقيدةٌ بمشيئةِ اللهِ ومحدودةً بقدرِ الله ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾.

 

صحيحٌ أنَّ الممكورَ به لا يكون عالمًا بما يدبِّرُه الماكرون ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾، ولكنَّ اللهَ يكون هناك، ويحيطُ علمُه بما يمكرون ﴿وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ﴾.

 

ومهما ظنُّوا بأنفسِهم من مهارةٍ في الكيْدِ والمكرِ وقُدرةٍ على الظلمِ والإفسادِ، فإنَّ اللهَ يُطَمْئِنُنا ﴿قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾.

 

الماكِرُ مُسْتَدْرَجٌ وممكورٌ به مِنْ حيثُ لا يشعر:

 

إنَّ من الأسبابِ التي يُهْلِك الله بها الماكرين: الْأَمْنَ الَّذِي يتوهَّمُونَه مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، فيُبَالِغُونَ فِي مكرهم، ظانِّينَ أنَّ اللهَ راضٍ عن عمَلِهم، أو أنَّ اللهَ غافِلٌ عما يعملُون، أو كما يتصوَّرُ كثيرٌ من العلمانيِّين أنه –سبحانه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا- لا شأنَ له بمعايشِ الخلقِ وما يجري بينهم من صِرَاع؛ فيستحِقُّون الخُسْران ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ. أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾. قَالَ الْحَسَنُ في مثل هؤلاء: «مُكِرَ بِهِمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، أُعْطُوا حَاجَتَهُمْ ثُمَّ أُخِذُوا».

 

إنَّهم يعيشُون في وهْمِ الأمْنِ من مكرِ اللهِ، حتَّى ينزلَ بهم عذابُه فجأةً في صورٍ مختلفةٍ ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ يعني: أَوَ أَمِنَ هَؤُلاَءِ أَنْ يَأْخُذَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَثْنَاءَ تَقَلُّبِهِمْ فِي مَعَايِشِهِمْ، وَاشْتِغَالِهِمْ بِهَا، فَهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ اللهَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانُوا؟ أَوْ أَمِنُوا أَنْ يَأْخُذَهُمُ اللهُ بَعْدَ أَنْ يُثِيرَ فِي نُفُوسِهِم الخَوْفَ وَالرُّعْبَ.

 

بل قد يُخَيَّلُ إلى الماكرين أنَّ تَرْكَهم في هذا العبَثِ هو إكرامٌ من الله لهم، ولا يدركونَ أنَّ الإمهالَ اسْتِدْرَاجٌ لهُمْ بِالنِّعَمِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، فَكُلَّمَا أَحْدَثُوا ذَنْبًا أَحْدَثَ اللهُ لَهُمْ نِعْمَةً، وَفِي الحَدِيثِ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُحِبُّ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَتِهِ؛ فَاعْلَمْ أَنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ».

 

وقال عليٌّ رضي الله عنه: «مَنْ وُسِّعَ علَيْهِ دُنْيَاهُ وَلَمْ يَعْلَمْ أنَّه مُكِرَ به فهُو مَخْدُوعٌ عَنْ عَقْلِه».

 

ولهذا حذَّر اللهُ تعالى من مكرِه واستدراجِه فقال ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾، وقال تعالى ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، وقال عز وجل ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا. وَأَكِيدُ كَيْدًا. فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾.

 

وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ:

 

إنَّ مكرَ المفسدين في الأرضِ مهما بلغ إحكامُه وإتقانُه فهو مكرٌ فاسدٌ لن يبلغَ غايتَه، وسيعامِلُهم اللهُ بنقيضِ مكْرِهم، وهو القائل سبحانه ﴿وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾.

 

فاللهُ سبحانه هو الذي يُضْعِفُ كيدَ المجرمين ويُبْطِلُ آثارَ مكرِهم ﴿ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ﴾.

 

ذلك أنَّ المؤمنينَ لا يخوضون هذه المعركةَ مع الباطلِ وحدَهم، إنما يقفُ الحقُّ سبحانه فيها مدافِعًا عن أوليائِه، وهو حسبُهم وناصرُهم، والمدافعُ عنهم والمنتقمُ من أعدائهم ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾.

 

فهم إذْ يخادعون المؤمنينَ إنما يخدعون أنفسهم في الحقيقة ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.

 

ولئِنْ كانوا قادرينَ على الاستخفاءِ عن أعينِ الناس، فلا سبيلَ للاستخفاءِ من الله ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾.

 

وها هم يجتمِعون فيأتمِرون برسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فماذا حدَث؟ ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.
وها هم يسْعَوْن لخِدَاعِه وخيانتِه، فيقولُ له ربه سبحانه ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾، ويقول له ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.

 

وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ:

 

فمن سننِ الله الماضية: أنْ يختنقَ الظالمُ بحبْلِ ظُلمِه، وأنْ تدورَ على الباغي الدوائر، وأنْ لا يقعَ في بئرِ الكيدِ إلا الحافر ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾.

 

وفي أمثالِ العربِ: « «منْ نَصَبَ للغِوَايةِ شَرَكًا اختنقَ بحبله»، و«منْ سَلَّ سَيْفَ البَغْيِ قُتِل به».

 

وكَمْ مِنْ حَافِرٍ لِأَخِيهِ لَيْلًا    تَرَدَّى فِي حُفَيْرَتِهِ نَهَارا

 

وفي الحديث: «لَا تَمْكُرْ وَلَا تُعِنْ مَاكِرًا؛ فإِنَّ اللهَ يقُولُ ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾، ولَا تَبْغِ ولَا تُعِنْ بَاغِيًا؛ فإِنَّ اللهَ تَعَالى يَقُولُ ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾، ولَا تَنْكُثْ ولَا تُعِنْ نَاكِثًا؛ فإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾».

 

وهل الانقلابيُّون على اختلافِ مواقعِهم وأدوارِهم إلَّا ماكرٌ أو مُعِينٌ على المكْر، وبَاغٍ أو مُعِينٌ على البغيِ، وناكِثٌ أو مُعِينٌ عَلى النكثِ؟.

 

عاقِبَةُ البَغْيِ والمَكْرِ أسرعُ ممَّا يتصوَّر الماكرون:

 

لقد قرنَ اللهُ البغيَ بأكبرِ الكبائرِ والفواحِشِ، فقال سبحانه ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقال سبحانه ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.

 

وهذه الكبيرةَ أسرعُ عقوبة، ففي الحديث: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ»، وفي الحديث أيضا: «لا يُؤَخِّرُ اللَّهُ عُقُوبَةَ الْبَغْي، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾».

 

بَغَيْتَ فَلَمْ تَقَعْ إِلَّا صَرِيعًا   كَذَاكَ البَغْيُ مَصْرَعُ كُلِّ بَاغِي

 

وقد حذرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، احْذَرُوا البَغْيَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عُقُوبَةٍ هِيَ أَحْضَرَ مِنْ عُقُوبَةِ البَغْيِ»، وقال ابن عباس: «لو بَغَى جبَلٌ على جبلٍ لجعلَ اللهُ عزَّ وجلَّ الباغِيَ منهما دَكًّا».

 

ذلك أنَّ اللهَ قد وعد –ووَعْدُه حقٌّ- بنصرِ مَنْ بُغِيَ عليه ﴿ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾.

 

قَضَى اللهُ أنَّ البَغْيَ يَصْرَعُ أَهْلَه   وأنَّ علَى البَاغِي تَدُورُ الدَّوَائِرُ

 

عاقِبَةُ الماكِرين هي الإهلاكُ في الدُّنْيا والعذابُ الأليمُ في الآخِرة:

 

حدَّثنا القرآنُ أن عاقبةَ المكرِ عذابٌ في الدنيا، بقوارعَ تصيبُهم أو تحُلُّ قريبًا من دارِهم، أو بحَيْرَةٍ تستولي على قلوبهم، وقلقٍ يُطْبِقُ على نفوسِهم، وضيقٍ وتوتُّرٍ يمسكُ بخِناقِهم، بحيث لا يطمئنُّ لهم في الحياة قرارٌ، ولا يهدأُ لهم بالٌ، ولا يهنأُ لهم عيشٌ، ثم عذابٌ أشقُّ في الآخرة ﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾.

 

فاللهُ يُمْلِي للظالمِ، ويمُدُّ في حبْل المُهلةِ للماكِرِ، حتى يطمئنَّ لمكره، ويستسلمَ لغُرورِ الأمنِ من العقوبة، ثم يكونُ أخذُه فجأةً هو عذابُ الدنيا الذي يسبقُ عذابَ الآخرة، وفي الحديث: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.

 

والقرآنُ يحكي لنا صورةً من صور المكرِ الذي أحكمه قومُ صالحٍ لقتلِه وقتلِ أهله، ورتَّبُوه بليلٍ، ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ. قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ. وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾.

 

ومن لطيفِ ما تَهْدِي إليه هذه الآياتُ أنَّ التدميرَ لم يُصِب التسعةَ المفسدين فحسْبُ، بل أصاب معهم قومَهم الذين رَضُوا بمكرِهم وسكتُوا على ظلمِهم ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾.

 

وقصصُ التاريخِ البعيد والقريبِ شواهدُ الصدقِ على إهلاكِ اللهِ لكل ظالمٍ، مهما جمعَ اللهُ عندَه من أسبابِ القوَّةِ والغلَبةِ، وهذا ربُّ العزة والجلال بعد أن ذكر مصارعَ الظالمين ومكرَه بالمعتَدين في الأممِ السابقةِ يقول لأحفادِهم الجُدد ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ. أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾، وللعِلْمِ، فهذه الآياتُ نزلتْ بمكةَ والمسلمُون مستضعَفُون خائِفُون، ولم يعرفوا تَأْوِيلَهَا إلا يوم بدر، حين رأوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ، وَهُوَ يَقُولُ: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ».

 

بين ضعفِ الكيْد وضخامتِه:

 

تصفُ بعضُ الاياتِ كيدَ المجرمين ومكرَهم بالضعفِ، كقوله تعالى ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً﴾، وقوله تعالى ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ﴾ أي: في ضياع، ولا قيمةَ له ولا بقاءَ له، وتتحدثُ آياتٌ أخرى عن عِظَمِ الكيْدِ وضخامةِ المكر، كقوله تعالى ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾، وقوله تعالى ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا﴾.

 

ولا تناقضَ في ذلك على الإطلاقِ، فهو ضخمٌ كبيرٌ عظيمٌ من حيثُ تدبيرُهم وترتيبُهم وتخطيطُهم وحساباتُهم، وما يُوَفِّرونه من إمكاناتٍ ماديةٍ لنجاحِ مكرهم، وما يرصُدونه من بدائلَ لكل الاحتمالاتِ والتوقُّعات، وما يبتكرونَه من حِيَلٍ وألاعيبَ للتمويهِ، وما يمارسونه من ألوانِ الخداعِ الخفيةِ والدقيقة والمحكَمةِ، كلُّ ذلك يجعلُه في أعينِهم وفي أعينِ الناس عظيمًا مهولًا، لو قُدَّر له أنْ يُحقِّقَ أثرَه لزالت الجبالُ به عن مواقِعها، ولكنَّه من حيثُ مواجهتُه لأمرِ الله تعالى وقَدَرِه ضعيفٌ يكادُ يكون غيرَ مؤثر، وذلك بتَوْهِينِ الله إياه. وإنْ شئتَ فانظرْ في تاريخِ الدنيا كلِّها إلى جولاتِ الصراعِ بين الحقِّ والباطلِ؛ لتدركَ ضخامةَ الكيدِ الذي طالما أعدَّه المبطِلون في كل جولةٍ، وهُزالَ النتائجِ النهائيةِ لهذا الكيدِ في نهايةِ كل جولة ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾.

 

ولهذا فنحنُ مستبشِرون بأنَّ الكيدَ العظيمَ الذي يتعاون عليه المفسِدون في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها على المشروعِ الإسلاميِّ لنْ ينتهيَ إلا إلى ما انتهى إليه كيدُ السابقِين من الضلالِ والتَّبابِ والزوالِ والزُّهُوق ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾.

 

المُؤْمِنون على يقينٍ من نصرِ الله وهلاكِ الماكِرين:

 

إنَّ بشائرَ النصرِ كثيرة، ومكرَ الله بالمجرمين حاصلٌ، فلْنَثِقْ بوعْدِ الله، ولْنَنْتظِرْ فرجَه القريبَ، ولْنَكُنْ على يقينٍ من مكرِه بالماكرين وقُرْبِ أخذِه للظالمين، مهما بدَا أنهم يملكون من أسبابِ البقاءِ والتَّمكين، وقد قال الله تعالى ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾.

 

والمهمُّ أن نكون نحن أهلًا لنصرِ الله تعالى، وأن نتَّخِذَ من الأسبابِ ما بوُسْعِنا، ثم ندَعَ الأمرَ لربِّ العالمين ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وقد أخبرنا الله عن نجاة وفلاح مؤمن آل فِرعون الذي قالَ بعد أنْ بلَّغ دعوتَه وصدَع بالحق ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ. فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾.

 

وإذا أصرَّ المجترئُون على طُغيانهم ومكرِهم، وحقَّقُوا في الظاهرِ بعضَ مآرِبِهم، فلعلَّها أن تكونَ بدايةَ النهايةِ، وعساها أن تكونَ مرحلةً لضعفِ القوةِ ونهايةَ الظلمِ والغطرسةِ بإذن الله، وسننُ اللهِ ماضيةٌ في الفناءِ والهلاكِ على كلِّ مستكبرٍ ماكرٍ غشوم، جاحدٍ بآيات الله ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾.

 

قُلْ لِلَّذِي فِي الْوَرَى أَضْحَى يُعَادِينَا    احْذَرْ فَأَمْرَكَ رَبُّ الْعَرْشِ يَكْفِينَا

 

اللهم أَعِنّا وَلا تُعِنْ عَلَيْنا، وَانْصُرْنا وَلا تَنْصُرْ عَلَينا، وَامْكُرْ لنا وَلا تَمْكُرْ بنا، وَلا تَمْكُرْ عَلَينا، وَانْصُرْنا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَينا، واجْعَلْ مَكْرَ السَّوْءِ يَحِيقُ بالماكِرِينَ، واجْعَلْ دَائِرَةَ السَّوْءِ تَدُورُ علَى البَاغِين.

 

وَيَا رَبِّ لَا تَبْعَثْ إِلَيَّ مَنِيَّتِي    إِلَى أَنْ أَرَى الْوَعْدَ المُؤَمَّلَ وَالنَّصْرَا

فِي نَهْضَـةٍ بَكْـرِيَّةٍ عُمَـرِيَّةٍ    تُعِيدُ إِلَيْنَا مَجْدَنَا تَارَةً أُخْرَى