بعيدا عن لطم الخدود وشق الجيوب على المعتقلين وما يعانونه، وهو يستحق أكثر من ذلك، وبعيدا عن الملاسنات التي انطلقت بين أبناء البيت الواحد بسبب التقصير بحقهم، وبعيدا عن استثمار هذا الطرف أو ذاك لتلك المعاناة لتصفية حسابات ضد آخرين لا علاقة للمعتقلين بها، فإن واجب الوقت يقتضي من الجميع البحث عن مخارج كريمة لهؤلاء المعتقلين، وليس تركهم نهبا لضباع كاسرة لن تسمح بخروجهم من أسر إلى أسر أشد حتى لو كان في بيوتهم.

قضية إجماع وطني

تمثل قضية المعتقلين إحدى قضايا الإجماع الوطني بين كل القوى الثورية، بشقيها الإسلامي والعلماني، وكذا عموم الشعب الذي ينتمي هؤلاء المعتقلون لمعظم - إن لم يكن كل - عائلاته، ولا يستثنى من هذا الإجماع سوى العصابة الحاكمة والمستفيدين منها.

تجمع السجون المصرية الآن طيفا واسعا من المعارضة الإسلامية والليبرالية واليسارية وحتى العسكرية، وبالتالي فلم يعد الاهتمام والانشغال بهذا الملف مهمة فريق دون آخر، ولكن تبقى مسئولية الكبير كبيرة ومسئولية الصغير صغيرة.

البحث عن مخرج للمعتقلين يقتضي امتلاك أدوات ضغط ضد النظام القمعي الذي لا يعرف لغة الاسترحام أو الاستغاثة، لكنه حتما ينصاع للضغوط حسب قوتها، وقد سبق له الإفراج بالفعل عن دفعات من المعتقلين تجنبا لحرج يواجهه في المحافل الدولية، خاصة في الأمم المتحدة، وتحديدا عند حلول مواعيد المراجعة الدورية لسجله في مجال حقوق الإنسان، ولا ننسى أنه انصاع لضغوط سابقة للإفراج عن معتقلين سابقين لقناة "الجزيرة"، وكذا عن بعض النشطاء، مثل محمد سلطان، صاحب أطول إضراب عن الطعام في العالم (495 يوما) والناشطة آية حجازي، والناشط حسام بهجت، صحيح أن هؤلاء النشطاء تحديدا تمتعوا بضغوط دولية لم تتوفر لغيرهم من قبل، لكن من الممكن مع تنظيم صفوف القوى الديمقراطية توفير مثل هذه الضغوط لجميع المعتقلين.

 ليس صحيحا ان المعارضة المصرية في الخارج أو الداخل فقدت كل أوراقها، وأصبحت عارية أمام الجلاد، وما عليها سوى الاستسلام التام، وهو الاستسلام الذي لا يمنحها شيئا، ولا يطلق معتقلا، أو يوقف حبس المزيد، بل الصحيح أن الفرص لا تزال قائمة في العديد من المسارات لممارسة المزيد من الضغط المؤثر على (نظام) السيسي في قضية المعتقلين، بحسبانها القضية الحالة والجامعة أولا، وبحسبانها ـ ثانيا ـ خطوة على طريق طويل للنضال ضد الاستبداد والحكم العسكري وإنقاذ البلاد منه بشكل كامل.

نتحدث تحديدا عن مسارات حقوقية وقانونية وإعلامية وسياسية لا تزال فرص العمل فيها متاحة، تنتظر المزيد من الجهد المنظم والاحترافي والمتكامل وليس المتناقض؛ ففي الملف الحقوقي هناك جهد مشكور حاليا لعدة منظمات حقوقية تعمل بإمكانيات مادية وبشرية بسيطة، وما ينقص هذا الجهد هو توحيده تحت مظلة تنسيقية تستهدف ترشيد الأداء وتوزيع الأدوار، وحسن إدارة الموارد المالية والبشرية المتاحة، وتحديد الأولويات، وتكليف كل جهة بملف محدد مع متابعتها من الهيئة التنسيقية العليا، هناك منظمات حقوقية يديرها حقوقيون ذوو خلفيات إسلامية ومنظمات يديرها ذوو خلفيات ليبرالية أو يسارية، وهؤلاء الأخيرون على وجه التحديد أكثر رسوخا في العمل الحقوقي، ولديهم علاقات عمل ممتدة مع العديد من المنظمات الحقوقية الدولية، كما أنهم معتمدون رسميا في منظمات الأمم المتحدة، ولو خلصت النوايا لخدمة الوطن وخدمة المعتقلين فإن خطوة البداية هي العمل المشترك بين جميع تلك المنظمات الحقوقية في حملات مشتركة من أجل المعتقلين، وهي قضية حقوقية بلا جدال، وفي اعتقادي أنه إذا حدث هذا العمل المشترك فإنه سيشجع المتبرعين الوطنيين الراغبين في المساهمة في حلحلة قضية المعتقلين.

ويرتبط بالعمل الحقوقي الملاحقة القانونية ضد التعذيب في السجون، فهناك الكثير من الدول الأوروبية التي تأخذ بنظام الولاية القضائية الشاملة، وتقبل قضايا التعذيب التي تقع خارج حدودها، وهناك بالطبع عشرات الحالات من السجناء الذين تعرضوا للتعذيب موجودون الآن خارج مصر، ويمكنهم قانونا رفع الدعاوى، غير أن المشكلة التي تواجههم هي التكاليف المالية الكبيرة التي لا قبل لهم بها، ومع وجود جهد حقوقي منظم يمكن توفير التمويلات اللازمة لهذه القضايا.

الإعلام المقاوم وقضية المعتقلين

الملف الثاني هو العمل الإعلامي المقاوم، والذي حقق بعض النجاحات المهمة في صناعة أو استعادة الوعي الشعبي خلال السنوات الماضية، كما أنه مثل عنصر إزعاج دائما (لنظام) السيسي، دفعه للتحرك شرقا وغربا لإسكات صوته، لكنه لم يستطع حتى الآن، والفرصة لا تزال متاحة للعمل الإعلامي لتوصيل قضية المعتقلين للرأي العام الدولي؛ بحيث تصبح إحدى مشاغله الرئيسية وتدفعه للضغط على حكوماته لرفع يدها عن (النظام) المصري، ووقف دعمها له، ومطالبته بإطلاق سراح السجناء، ولكن هذه المهمة لا تستطيع القيام بها المنابر الإعلامية الحالية المتخصصة في مخاطبة المواطن المصري والعربي، بل يحتاج الأمر لأدوات ومنابر إعلامية قوية تخاطب الرأي العام الغربي، وهنا يأتي مجددا دور أصحاب الأموال الذين يسهمون في معركة الحرية بأموالهم، وهي المعركة التي يخوضها غيرهم بأرواحهم.

المسار الأخير الذي لا يزال ضعيفا هو التواصل السياسي الدولي، فقضايا الحريات والديمقراطية هي قضايا عالمية، وتشغل بال الكثير من القوى الحية عبر العالم، وليس المقصود بالتواصل هنا التخابر مع حكومات، لا سمح الله، بل التواصل مع أحزاب ونقابات ومؤسسات مجتمع مدني ومراكز بحثية وبرلمانات إلخ؛ بهدف توضيح القمع الذي يتعرض له الشعب المصري، وخاصة السجناء، واستصدار تقارير وبيانات من هذه الجهات بإدانة (النظام)، ومطالبتها بالضغط على حكوماتها لوقف دعمها (للنظام المصري)، ورهن أي تعاون بالإفراج عن السجناء وإطلاق الحريات العامة، وإعادة المسار الديمقراطي، وحتى نضمن لهذا التواصل تأثيرا قويا فإن من الضروري أن تتشكل وفود التواصل من شخصيات متنوعة تمثل الطيف المصري، ولا تقتصر على طيف واحد كما كان الحال خلال السنوات الست الماضية.

في اعتقادي أن واجب النخبة التي تنتمي للصف المقاوم للاستبداد هو تقديم بدائل وحلول وليس نشر الإحباطات، فمقاومة الاستبداد ليست بالأمر السهل، وليست مسئولية فريق دون فريق، كما أنها ليست مهمة فئة دون أخرى، بل يتكامل الجهد فيها بين السياسيين والإعلاميين والحقوقيين والقانونيين، والنشطاء، والمتبرعين الوطنيين، وصولا إلى رجل الشارع العادي الذي سيتحرك حين يجد أمامه قيادة موحدة يثق فيها، ومشروعا سياسيا ينير له الطريق.

--------------

نقلا عن عربي 21