فتح تأجيل المفوضية العامة لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة تنظيم مؤتمر "تجريم التعذيب" الذي كان مقررا عقده بالقاهرة في يومي 4و5 سبتمبر المقبل "2019"م، الباب  واسعا أمام مناقشة جذور الأزمة الحقوقية في مصر، وبشاعة الانتهاكات الممنهجة في مقار الاحتجاز والسجون والمعتقلات وأقبية الأمن الوطني وأجهزة المخابرات منذ انقلاب 3 يوليو 2013م.
وفي عرضها خبر تأجيل مؤتمر"التعريف بالتعذيب وتجريمه في المنطقة العربية"، اختارت صحيفة الجارديان البريطانية أن تضع صورة لسفاح الانقلاب عبد الفتاح السيسي، ومعها كلمات وردت على لسانه، في مؤتمر صحفي جمعه بالرئيس الفرنسي، ماكرون، في زيارة الأخير القاهرة يناير الماضي "2019"م، يقول فيها السيسي "لا ينبغي أن يطبق المنظور الغربي للحريات ‏المدنية على مصر". وهي العبارة التي تشير إلى مدى التصورات المشوهة لمفهوم ومعني حقوق الإنسان في عقلية طاغية مصر وفرعونها الذي استباح دماء أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر بإردة الشعب الحرة والآلاف من أنصاره وزج بعشرات الآلاف في السجون والمعتقلات بتهم مفبركة ويحاكم ضحايا مذابحه أمام منصات مسيسة ترفع لافتة "القضاء" زورا وبهتانا.
وكان سفاح العسكر في لقائه المذكور مع الرئيس الفرنسي قال نصا:«لن تعلمونا إنسانيتنا.. فهي غير إنسانيتكم»!. وهي عبارة تجسد وافر احتقاره الإنسان المصري، والعربي، وتصنيفه له في درجة أدنى على سلم الإنسانية، بقوله وهي تساوي بالضبط  أن إنساننا يختلف عن إنسانكم.. الإنسان عندنا أرخص من الإنسان عندكم، فلا تحدّثونا عن معايير وقيم إنسانية واحدة.

نظام بوجهين
فلسفة النظام وتوجهاته الجديدة تستهدف صناعة وجه جديد يخاطب به العالم الخارجي والمنظمات الدولية و الحقوقية، مع بقاء الانتهاكات في الداخل كما هي، والعمل على التستر مع الضباط القتلة والمجرمين الذين يمارسون أبشع صور الانتهاكات بحق المواطنين الأبرياء.
ومن أجل صناعة هذا الوجه الجديد لتحسين صورة النظام، قرر في نوفمبر 2018م، بإنشاء  اللجنة الحقوقية الدائمة، وبذلك بات  لدى نظام العسكر نحو 8 هيئات لتحسين صورة مشوّهة لم تفلح 7 هيئات سابقة في تحسينها"، وهي المجلس القومي لحقوق الإنسان، ولجنة حقوق الإنسان في البرلمان، ووحدة حقوق الإنسان في الهيئة العامة للاستعلامات، ووحدات أخرى بوزارة الداخلية، ووزارة العدل، ومكتب النائب العام، "فضلا عن دعم إنشاء وتشجيع منظمات حقوقية متواطئة أو شكلية، مما يعكس طبيعة النظام الحالي، والمنهجية الشكلية للدولة في التعاطي مع ملف حقوق الإنسان بالتجميل، وليس باحترام حقيقي لحقوق الإنسان".
 هو ــ إذا ــ نظام بوجهين: الأول لطيف وديع يتزلف به للعالم الخارجي بمظاهر توحي بمراجعة مواقفه السابقة الخشنة والتظاهر باحترام حقوق الإنسان، والالتزام بالمعايير الدولية والحقوقية. والثاني وجه عبوس شرير للداخل، يملك جميع أدوات البطش والتنكيل ويمارس أبشع صور الظلم والانتهاكات من قتل وتعذيب واختطاف وتأميم لحرية والتعبير وتلفيق للتهم ومحاكمات مسيسة وسلطة تنفيذية تهيمن على جميع السلطات الأخرى التشريعية والقضائية التي تلاشت وباتت تحت وصاية الجنرال يحركها كيف يشاء دون اعتراض أو احتجاج.

تصورات مشوهة
تقوم فلسفة نظام العسكر في مصر على تصورات مشوهة لقيم حقوق الإنسان والمنظمات المدنية العاملة في هذا الملف الحساس لارتباطه الوثيق بسياسات وتوجهات النظام الأمنية والاقتصادية، والاجتماعية، ولذلك فإن هذه التصورات تعكس عدة إشكاليات تكشف أبعاد الخطوط والضوابط التي يتعامل بها مع هذا الملف الحساس.
أول الإشكاليات  أن مبادئ حقوق الإنسان في بلادنا ترتبط بالسياسة، عبر اعتقاد متجذر فى عقلية النظام أن هؤلاء الذين يتخذون اتجاهاً سياسياً مغايراً للنظام يجب أن يحرموا من حقوق الإنسان، بوصفهم مجرمين، ناقصى الأهلية.
أما الإشكال الثانى فيتصل بربط الحديث عن حقوق الإنسان بالتدخلات الخارجية، عبر اعتبار أى ملاحظة أو تعليق أجنبى على حالة حقوق الإنسان الوطنية  تمثل في  عرف النظام وتصوراته المشوهة استهدافاً يمس الكرامة الوطنية، ومحاولة لاستغلال المبادئ الحقوقية لتحقيق أهداف سياسية تقوض الأمن والاستقرار.
ويختص الإشكال الثالث بشيطنة معظم العاملين فى مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، وخصوصاً إذا كانوا ينتمون إلى منظمات المجتمع المدنى، وفى هذا الصدد تتوالى الاتهامات عن التمويلات والعطايا التى يحصل عليها بعض هؤلاء من أجل القيام بأدوارهم، وهو أمر يتفاقم فى أوقات التوتر وتصاعد الأزمات السياسية، ليحول معظم العاملين فى هذا المجال إلى خونة وعملاء مأجورين.
ويتمثل الإشكال الرابع الذى تتعرض له حالة حقوق الإنسان الوطنية فى تسيد مفهوم «المعركة الوطنية» لآليات العمل الحقوقية، إذ ترى قطاعات  رسمية في أجهزة المخابرات والأمن الوطني وأجهزة الأمن عموما أن الدولة تتعرض لاستهداف خارجى وداخلى، يتخذ من بعض انتهاكات حقوق الإنسان مطية لزعزعة استقرار الحكم، وتشويه صورته، وصولاً إلى فرض القيود عليه، وتقويض قدرته على الوفاء باستحقاقات دوره فى صيانة الأمن الوطنى. بحسب ما ذكره الإعلامي ياسر عبدالعزيز في مقال له بصحيفة المصري اليوم تحت عنوان "الحملة على حقوق الإنسان" في أكتوبر 2017م.
وتستكمل هذه التصورات المشوهة بحالة الخلط بين مفهومي الدولة والنظام، فمن عارض النظام فهو بالضرورة ضد الدولة، رغم أن الدولة باقية والنظم زائلة، وأمام هذه التشوهات الفكرية يخوض النظام معركته ضد المنظمات الحقوقية باعتبارها عدوا يتوجب القضاء عليه، بذريعة حماية الدولة ومؤسسات الدولة التي تستخدم كقميص عثمان من أجل تمرير الفظائع والانتهاكات الآثمة التي تمارسها الأجهزة والسلطة بحق العاملين في المنظمات الحقوقية أولا وجميع فئات الشعب ثانيا.
فدور المنظمات في عقلية النظام هي أن تصطف مع النظام مثلها مثل الإعلام والمؤسسة الدينية سواء الأزهر والكنيسة وكذلك جميع المؤسسات والأحزاب بما يضمن في نهاية المطاف صوتا واحدا ورأيا واحدا ونظاما يقودم مستبد أرعن أو ديكتاتور معتوه.