- المستشرقون واليهود والماركسيون وراء تشويه التاريخ الإسلامي
- فتوحات الأمويين والعثمانيين شرق أوروبا وغربها سبب كراهية الأوروبيين لهما
كتابة التاريخ عِلمٌ ينبغي أن يعتمد على الحقائق والوثائق، لا الأباطيل والأهواء، ولقد مرَّ التاريخ على اختلاف العصور بمجموعةٍ من المؤرخين الذين توزن كتاباتهم بالذهب؛ لكونهم اعتمدوا منهجًا إسلاميًّا راسخًا أشبه بما استخدمه علماء الحديث الذين نقلوا السنة النبوية المُطهَّرة، وحافظوا عليها، واعتنوا بها.
ولكن على النقيض كانت هناك كتاباتٌ تاريخيةٌ ضالةٌ ومُضلِّلةٌ نمت في عقل الأمة حتى استقرَّ الأمر على أنها الحقيقة الناصعة، وتمت صياغةُ تاريخنا من منظورٍ علمانيٍّ خدم أعداءنا في المقام الأول، واستخدموه وسيلةً من وسائلهم في تمزيق وحدة الشعوب الإسلامية.
واليوم ينكشف هذا الزيغ ويندحر بفضل جهود باحثين أرادوا تجليةَ الحقيقة والانتصار للعلم دون التحيز الأعمى الذي يبتعد بالباحث عن الصواب بإرادته أو رغمًا عنه، ربما هذه الحالة تنطبق- بما لا يدع مجالاً للشك- على كتابة تاريخ الدولة العثمانية، تلك الدولة التي كتب عنها الدكتور المرحوم عبد العزيز الشناوي "الدولة الإسلامية المُفتَرَى عليها"، وعلى الرغم من مرور السنوات على هذا الكتاب إلا أن أغلب المؤرخين ما زالوا يعتبرون فترة الحكم العثماني لمصر احتلالاً ظالمًا أسوأ من الاحتلالين الفرنسي والإنجليزي.
ومُؤخِّرًا ظهرت دراسةُ ثقافةِ الطبقةِ الوسطى في مصر القديمة للدكتورة نيللي حنا- أستاذة التاريخ في جامعة ماسا شوتست-، وبيَّنت فساد هذا الزعم، وقد اعتمدت الدراسة- التي عرضها "إخوان أون لاين"- منهجَ التوثيق العلمي، وعُقدت مُؤخَّرًا ندوةً بالمجلس الأعلى للثقافة حول نفس القضية كشفت مدى الزيف، والتلفيق الذي أصرَّ بعض الباحثين على إلحاقه بالدولة العثمانية.
وأكَّد الباحثون أنه كان هناك تحيُّزٌ في كتابة التاريخ لم يشمل الدولة العثمانية فقط، بل هناك فترات تاريخية كثيرة من صدر الإسلام وحتى العصر الحديث.
نحاول الوصول لإجابة عن السؤال التالي: لماذا التحيز في كتابة التاريخ؟!.. ومن المسئول عن تزييف عقولنا والتشويش على ذاكرة الأمة والتدليس على شبابها؟.. ولمصلحة من يتم هذا؟.. هل هو الاستشراق الذي وقع الباحثون في براثنه؟ أم السلطة التي تغوَّلت فصار التاريخ يكتب لها وبواسطة كتابها، ويتم التعتيم على الجهود التي تخالف رأي السلطة؟، أم أن هناك أسبابًا أخرى؟.
الدكتور علي محمد الصلابي- المفكر الليبي المعروف صاحب كتاب "الدولة العثمانية... عوامل النهوض وأسباب السقوط"- قدَّم في بداية كتابه مدخلاً عن مناهج كتابة التاريخ أكَّد فيه أن المؤرخين الأوروبيين واليهود والنصارى والعلمانيين الحاقدين لم يتورعوا عن الهجوم على تاريخ الدولة العثمانية، فاستخدموا أساليب الطعن والتشويه والتشكيك فيما قام به العثمانيون من خدمةٍ للعقيدة والإسلام، وسار على هذا النهج الباطل أغلب المؤرخين العرب بشتى انتماءاتهم واتجاهاتهم القومية والعلمانية، وكذلك المؤرخون الأتراك الذين تأثَّروا بالتوجه العلماني الذي تزعَّمه مصطفى كمال، فكان من الطبيعي أن يقوموا بإدانة فترة الخلافة العثمانية، فوجدوا فيما كتبه النصارى واليهود ثروةً ضخمةً لدعم تحولهم القومي العلماني في تركيا بعد الحرب العالمية الأولى.
ويحلل الدكتور الصلابي أسباب هذا العداء بالنسبة للمؤرخ الأوروبي يرجع إلى تأثره بالفتوحات العظيمة التي حققها العثمانيون، وخصوصًا بعد أن سقطت عاصمة الدولة البيزنطية (القسطنطينية).
ويضيف أن الهجمات الإعلامية المُركَّزة من زعماء المسيحية؛ بسبب الحفاظ على مكاسبهم السياسية والمادية، وكرههم للإسلام وأهله واندفاع قواتهم العسكرية للانتقام من الإسلام والمسلمين، ونزع خيراتهم بدوافع دينيةٍ واقتصاديةٍ وسياسيةٍ وثقافيةٍ، وقد ساندهم كُتَّابهم ومؤرخوهم؛ للطعن والتشويه والتشكيك في الإسلام وعقيدته وتاريخه، فكان نصيب الدولة العثمانية من هذه الهجمة الشرسة كبيرًا.
وشارك اليهود الأوروبيون بأقلامهم المسمومة ضد الدولة العثمانية خصوصًا والإسلام عمومًا، وازداد عداء اليهود للدولة العثمانية بعد أن فشلت كافة مخططاتهم في اغتصاب أي شبرٍ من أراضي هذه الدولة لإقامة كيان سياسي لهم طوال أربعة قرون هي عمر الدولة العثمانية السُنيَّة، استطاع اليهود بمعاونة الصليبية والدول الاستعمارية الغربية- ومن خلال محافلهم الماسونية- أن يحققوا أهدافهم على حساب الأنظمة القومية التي قامت في العالم العربي والإسلامي والتي وصفت نفسها بالتقدمية والاشتراكية، واتهمت الخلافة العثمانية على طول تاريخها بالتخلف والرجعية، والجمود والانحطاط، وغير ذلك، واعتبرت المحافل الماسونية والمنظمات الخفية التابعة لليهود والقوى العالمية المعادية للإسلام والمسلمين أن مسألة تشويه الفترة التاريخية للدولة العلية العثمانية من أهم أهدافها.
تبعية المؤرِّخ العربي
وسار المؤرخون العرب في العالم الإسلامي في ركب الاتجاه المهاجم لفترة الخلافة العثمانية، مدفوعين إلى ذلك بعدة أسباب:
* يأتي في مقدمتها إقدام الأتراك بزعامة "مصطفى أتاتورك" على إلغاء الخلافة الإسلامية في عام 1924م، والتحول إلى المنهج العلماني في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على حساب الشريعة الإسلامية، وتحالفت هذه الحكومة مع السياسة الأوروبية المعادية للدول الإسلامية والعربية، واشتركت سلسلة الأحلاف العسكرية الأوروبية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية- والتي رفضتها الشعوب العربية الإسلامية وبعض حكوماتها-، وقد كانت تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بقيام الكيان السياسي الصهيوني في فلسطين عام 1948م؛ مما جعل الشعوب العربية الإسلامية تندفع خلف حكوماتها القومية بعد غياب الدولة العثمانية التي كانت تجاهد كل من تُسَوِّل له نفسه بالاعتداء على شبرٍ من أراضي المسلمين.
* ويأتي سبب التبعية المنهجية لمدرسة التاريخ العربي لتاريخ المناهج الغربية كعاملٍ مهمٍّ في الاتجاه نحو تشويه الخلافة العثمانية.
وقد تأثَّر كثيرٌ من مؤرخي العرب بالحضارة الأوروبية المادية؛ لذلك أسندوا كل ما هو مضيءٌ في تاريخ بلادهم إلى بداية الاحتكاك بهذه الحضارة المادية الوافدة من الغرب، واعتبروا بداية تاريخهم الحديث من وصول الحملة الفرنسية على مصر والشام، وما أنجزته من تحطيم جدار العزلة بين الشرق والغرب، وما ترتب عليه بعد ذلك من قيام الدولة القومية في عهد محمد علي في مصر، وصحب ذلك اتجاههم لإدانة الدولة العثمانية التي قامت بالدفاع عن عقيدة الشعوب الإسلامية ودينها وإسلامها من الهجمات الوحشية التي قام بها الأوروبيون النصارى.
لقد احتضنت القوى الأوروبية الاتجاه المناهض للخلافة الإسلامية، وقامت بدعم المثقفين في مصر والشام إلى تأصيل الإطار القومي وتعميقه، من أمثال البستاني، واليازجي، وجورج زيدان، وأديب إسحاق، وسليم نقاش، وفرح أنطوان، وشبلي شميل، وسلامة موسى واليهودي الصهيوني هندي كورييل، وهليل شفارتز، وغيرهم، ويلاحظ أن معظمهم من النصارى واليهود، وأن أغلبهم من المنتمين إلى الحركة الماسونية التي تغلغلت في الشرق الإسلامي منذ عصر محمد علي، والتي كانت بذورها الأولى مع قدوم نابليون في حملته الفرنسية.
لقد رأى أعداء الأمة الإسلامية أن دعم التوجه القومي والوقوف مع دعاته كفيلٌ بإضعاف الأمة الإسلامية والقضاء على الدولة العثمانية.
واستطاعت المحافل الماسونية أن تهيمن على عقول زعماء التوجه القومي في داخل الشعوب الإسلامية، وخضع أولئك الزعماء لتوجيه المحافل الماسونية أكثر من خضوعهم لمطالب شعوبهم، وبخاصةً موقفها من الدين الإسلامي الذي يشكِّل الإطار الحقيقي لحضارة المسلم وثقافته وعلومه، ولم يتغير هذا المنهج المنحرف لدى المؤرخين العرب بشكل عام بعد قيام الانقلاب العسكري في مصر سنة 1952م؛ حيث اتجهت الحكومة العسكرية في مصر منذ البداية، والتفت حولها أغلب الحكومات العسكرية إلى دعم التوجه القومي.
كما أن معظم هذه الحكومات ارتكزت على أسسٍ أكثر علمانيةٍ في كافة الجوانب، بما في ذلك الجانب الثقافي والفكري، فنظروا إلى الخلافة العثمانية والحكم العثماني للشعوب الإسلامية والعربية بأنه كان غزوًا واحتلالاً، واسندوا إليه كافة عوامل التخلف والضعف، والجمود والانحطاط التي ألمَّت بالعالم العربي الإسلامي، واعتبروا حركات الانشقاق والتمرد التي قامت إبان الفترة العثمانية، والتي كان دافعها الأطماع الشخصية، أو مدفوعةً من القوى الخارجية المعادية للخلافة الإسلامية اعتبروها حركاتٍ استقلاليةً ذات طابعٍ قوميٍّ.
أما المؤرخون الماركسيون فقد شنوا حربًا لا هوادة فيها على الدولة العثمانية، واعتبروا فترة حكمها تكريسًا لسيادة النظام الإقطاعي الذي هيمن على تاريخ العصور الوسطى السابقة، وأن العثمانيين لم يُحدثوا أي تطورٍ في وسائل أو قوى الإنتاج، وأن التاريخ الحديث يبدأ بظهور الطبقة البرجوازية ثم الرأسمالية التي أسهمت في إحداث تغييرٍ في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية في بداية القرن التاسع عشر، والتقوا في ذلك مع المؤرخين الأوروبيين من أصحاب الاتجاه الليبرالي، وكذلك مع أصحاب المنظور القومي، وقام بعض المؤرخين والمفكرين من النصارى واليهود بالترويج للاتجاهين الغربي والماركسي بواسطة التأليف وترجمة مؤلفاتهم، والذي ساندته المحافل الماسونية، وحاولوا أن يبتعدوا عن أيٍّ من الأطر الإسلامية الوحدوية، مفضلين عليها الدعوة القومية بمفهومها المحلي أو العربي كمشروع الهلال الخصيب في الشام، أو مشروع وحدة وادي النيل بين مصر والسودان، فضلاً عن نشاطهم في ترويج الاتجاهات القومية المحدودة، كالدعوة إلى الفرعونية في مصر، والآشورية في العراق، والفينيقية في الشام.. الخ.
وأما المؤرخون الأتراك الذين برزوا في فترة الدعوة القومية التركية فقد تحاملوا كثيرًا على فترة الخلافة العثمانية، سواءٌ لمجاراة الاتجاه السياسي والفكري الذي ساد بلادهم، إلى جانب تأثر المفكرين الأتراك بموقف بعض العرب الذين ساندوا الحلفاء الغربيين إبَّان الحرب الأولى ضد دولة الخلافة وإعلان الثورة عليها سنة 1916م.
وبرغم تفاوت الأسباب وتباينها إلا أن كثيرًا من المؤرخين التقوا على تشويه وتزوير تاريخ الخلافة الإسلامية العثمانية، لقد اعتمد المؤرخون الذين عملوا على تشويه الدولة العثمانية على تزوير الحقائق والكذب، والبهتان والتشكيك والدس، ولقد غلبت على تلك الكتب والدراسات طابع الحقد الأعمى، والدوافع المنحرفة، بعيدةً كل البعد عن الموضوعية.
غضب على دولتين
الدكتور عبد الشافي عبد اللطيف- أستاذ ورئيس قسم التاريخ والحضارة بجامعة الأزهر- يقول إن هناك دولتين إسلاميتين صبَّ المستشرقون جام غضبهم عليهما، هما الدولة الأموية والدولة العثمانية؛ لأن الأموية وصلت بالفتوحات الإسلامية إلى باريس، والأخيرة لأنها وصلت إلى فيينا بالنمسا، ولم ينسَ المؤرخون الغربيون هذا على الإطلاق، فجاء واضحًا في كتابتهم. أما بالنسبة لنا فقد تأثرت المدرسة المصرية والشامية بهذا التوجه؛ بسبب تأثير القرن الأخير من الحكم العثماني، وتم اختزال تاريخها في هذه الحقبة وما فيها من مساوئ، لكن لا جدال أن ظهور الدولة العثمانية في القرن السادس عشر الميلادي منع احتلال العالم العربي، خاصةً من البرتغال، فأخَّرت احتلال العالم العربي ثلاثةَ قرونٍ؛ لذا يعترف مؤرخو المغرب العربي بذلك.
أما المدرسة المصرية والشامية فقد تأثرت بالقومية والنعرة العربية التي قوَّاها الاستعمار على حساب الخلافة الإسلامية، والآن نحن نبحث عن "شماعةٍ" لنرجع إليها تخلفنا.. والسؤال الآن: أين تركيا من حيث العلم والمعرفة؟!، وأين نحن؟!.
فالعلمانيون في بلادنا وتلاميذ المستشرقين دائمًا يلصقون الاتهام بالظلامية لما هو إسلامي دون أن يجهدوا أنفسهم عناءَ البحث في الايجابيات والسلبيات، وليست السلبيات فقط، وهذا له بعد سياسي يستفيد به الغرب؛ لأنه يمنع قيام أي وحدةٍ إسلاميةٍ قويةٍ.
غياب الوثائق أيضًا
ويوضح الدكتور عادل غنيم- أستاذ التاريخ الحديث بجامعة عين شمس- أن عدم الإطلاع على الوثائق رغم وجود آلاف الوثائق في الدول العربية التي وقعت تحت الحكم العثماني وأضعافها في تركيا، ولكن المشكلة في عدم الاطلاع؛ لأنها تحتاج إلى جهد كبير؛ لأنها على الرغم من كتابتها باللغة العربية إلا أنها مكتوبةٌ بالخط التركي، فيصعب قراءتها إلا على المتخصصين، وهي تحتاج إلى تحقيقٍ؛ حتى يستفيد بها الباحثون، وهذه الوثائق موجودةٌ في دار الكتب المصرية، والموجود في تركيا يحتاج إلى جهود وزارة الثقافة في عقد اتفاقياتٍ ثنائيةٍ؛ للاستفادة من المخطوطات، ولعل الذي أخرج أهم ما كُتب عن الدولة العثمانية كتاب الدكتور عبد العزيز الشناوي أنه استطاع الاطلاع على بعض هذه الوثائق.
ويضيف الدكتور عادل غنيم أن من الأسباب أيضًا تدخل السلطة في كتابة التاريخ، فمثلاً عندما قامت الثورة أرادت أن تقول إن التاريخ يبدأ من هنا فشوهت التاريخ لدرجة أن يُقرر في كتب التاريخ بالمدارس أن جمال عبد الناصر هو أول رئيس للجمهورية على خلاف الواقع، والذي يقرأ الميثاق يجده ينتقد جميع الزعماء السابقين، وهو ما حدث في تركيا بعد انهيار الخلافة حيث كتب التاريخ بما يوافق السلطة الجديدة.
المدرسة الاستشراقية
أما الدكتور محمد عفيفي- أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة- فيقول: "تعرض تاريخ هذه الدولة منذ البداية وحتى النهاية لتداخل الأيديولوجيا معه بحيث أصبح في نهاية الأمر مجموعة "تحيزات" ساهمت فيها اتجاهاتٌ فكريةٌ متباينةٌ، وتأتي أولى هذه الاتجاهات المدرسة الاستشراقية؛ حيث نظرت هذه المدرسة منذ البداية نظرةً معاديةً للدولة العثمانية؛ للعديد من الأسباب؛ إذ أدى سقوط عاصمة الدولة البيزنطية القسطنطينية "إستانبول" في أيدي العثمانيين في عام ١٤٥٢م، إلى تحمل العثمانيين الميراث التاريخي لصراع الشرق والغرب في العصور الوسطى.
وزاد في الأمر فتوحات العثمانيين في شرق أوروبا ووصولهم حتى أسوار فيينا، كما لا نستطيع أن ننسى مسألة كون الدولة العثمانية هي آخر خلافةٍ إسلاميةٍ.
وحرصت المدرسة الاستشراقية في معالجتها للتاريخ العثماني على تهميش هذا التاريخ، ورسم صورةٍ مُنفِّرةٍ له، صورة "الانحطاط"- أي التدهور- قبل وصول "الرجل الأبيض" إلى هذه المنطقة؛ "لالتهام" ولايات الدولة العثمانية واحدةً بعد الأخرى، لا بد من تهميش التاريخ السابق على الاستعمار- التاريخ العثماني-؛ تأكيدًا لرسالة "تحديث" البلدان التي يغزونها.
فالتاريخ "الحديث" لمصر يبدأ مع وصول الحملة الفرنسية، حملة التنوير إلى مصر، والتاريخ السابق هو فترةٌ مُهمَلةٌ؛ فالتاريخ الوسيط ينتهي بسقوط دولة سلاطين المماليك في عام ١٥١٦م، بينما التاريخ الحديث يبدأ مع الحملة الفرنسية في عام 1798م، ولتذهب إلى الجحيم هذه الفترة "الساقطة".
وتاريخ الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي- أي الفترة العثمانية- هو تاريخ "القرصنة الوحشية"، بينما ترفض المدرسة الجزائرية الوطنية الآن هذه المقولة، وترد عليها بأنه تاريخ "الجهاد البحري"؛ لتأكيد دور رؤساء البحر المسلمين في مواجهة عربدة الأساطيل الأوروبية منذ القرن السادس عشر في المياه الإسلامية في المغرب العربي، ودور الدولة العثمانية في حماية بلدان المغرب العربي من السقوط المبكر في أيدي "أوروبا الاستعمارية الجديدة" بعد سقوط الأندلس.
مدرسة القومية العربية
تأثرت المدرسة القومية العربية في كتابة التاريخ العثماني بالصدام الشديد الذي حدث بين العرب والترك منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى سقوط الدولة العثمانية ودخول الجيوش الأوروبية العالم العربي في أثناء الحرب العالمية الأولى، وصراع القومية العربية أمام محاولات الترك والمذابح الجماعية لجمال باشا في الشام، هذه الذكريات التي ما زالت تؤثر حتى الآن على علاقات تركيا والدول العربية، لا سيما المجاورة لها، كما ساعد الانتشار القوي والسريع للقومية العربية في بلاد الشام والعراق ومصر- لا سيما في الفترة التالية- على الحرب العالمية الثانية على توجيه النقد الشديد للعصر العثماني، هذا العصر الذي تم اختزال القرون الأربعة فيه إلى ما حدث من صدامٍ بين العرب والترك في العقود الأخيرة منه.
الدكتور عبد العزيز الشناوي في موسوعته عن الدولة العثمانية وضَّح تدخل المستشرقين في كتابة التاريخ، كما اشتبك الشناوي أيضًا مع التيار القومي العربي، هذا التيار الذي- كما مر بنا- يأخذ موقفًا حادًّا من تاريخ الدولة العثمانية؛ حيث يأخذ الشناوي على العديد من المؤرخين العرب التأثر بالمقولات الاستشراقية ضد الدولة العثمانية، يقول:
"تجمعت العديد من العوامل وراء ظهور مدرسةٍ جديدةٍ للتاريخ العثماني؛ إذ شهدت الفترة الأخيرة من القرن العشرين الانقلاب الكبير في ميدان الدراسات التاريخية- بشكلٍ عام- هذا الانقلاب الذي دفع إلى الصدارة التاريخ الاقتصادي الاجتماعي الذي أصبح محطَّ اهتمام الجميع، وتراجعت أهمية التاريخ السياسي "التقليدي".
وقدم الأرشيف العثماني مع بدء تنظيمه منهلاً ثمينًا، وفتحًا جديدًا في هذا الاتجاه، ومصادرٌ محليةٌ مهمةٌ تُغنينا عن الاعتماد على المصادر الأجنبية الموجهة بطبيعتها.
ومن هنا وجدت المحاولات الجارية في أكثر من جامعةٍ ومؤسسةٍ عربيةٍ لتقصي جوانب هذا التاريخ بتعمقٍ وفهمٍ على ضوء أهم المصادر المتوفرة".
كل هذه التطورات أدَّت على المستوى العالمي إلى ظهور "اللجنة الدولية للتاريخ الاقتصادي الاجتماعي للإمبراطورية العثمانية وتركيا"، هذه اللجنة التي تأسست في عام ١٩٧٧م، وتعقد مؤتمرها الدولي كل ثلاث سنوات في بلدان مختلفة، وعلى المستوى العربي ظهرت "مؤسسة التميمي" في تونس؛ حيث بدأت منذ الثمانينيات سلسلة المؤتمرات حول "تاريخ الولايات العربية في العصر العثماني".