تعيش مصر أسوأ نكسة اقتصادية في تاريخها بسبب مافيا فساد نظام العسكر والتي انتشرت في أنحاء البلاد، ويتزعمها قائد الانقلاب الدموي عبدالفتاح السيسي، وأدت إلى تجويع المصريين وتشريدهم.

وتكشف الأرقام الرسمية عن أن السيسي خلال السنوات الست الماضية ورّط مصر في مستنقع من الديون ستعاني منها أجيال من المصريين ربما لقرون قادمة، وأطاح بدور القطاع الخاص لصالح المؤسسة العسكرية في مختلف المجالات؛ ما أفرز حالات صارخة من الفساد فجَّرت غضب الكثيرين ليقرّروا الخروج إلى الشوارع مساء الجمعة الماضي؛ استجابةً لدعوة رجل الأعمال محمد علي الذي أربك نظام العسكر بتسجيلات مصورة كشفت عن فساد السيسي ورجال الجيش المحيطين به.

ويرى خبراء اقتصاد أن السنوات الست الأخيرة كأنها أعوام النكسة التي شهدتها مصر بعد هزيمة 1967 أمام الاحتلال الصهيوني وضياع سيناء، قبل أن ينتفض المصريون ويزيلوا مرارة الهزيمة بعبور الخط المنيع الذي أقامه الاحتلال في أكتوبر 1973.

المؤشرات الاقتصادية - منذ انقلاب السيسي على أول رئيس مدني منتخب الشهيد محمد مرسي وحتى الأشهر الأخيرة من العام الحالي - تُظهر أزمة مالية حقيقية وترديًا في مستوى معيشة المصريين، وتراجعًا غير مسبوق في القدرات الشرائية بفعل الغلاء المستمر؛ الأمر الذي انعكس على حركة الأسواق وأصابها بالركود.

كما تفاقم الفقر ليطاول نحو ثلثي سكان البلاد، الذين يتجاوز عددهم 100 مليون نسمة، ووصول الديون إلى مستويات غير مسبوقة؛ حيث جلب السيسي في ست سنوات فقط ديونًا تتجاوز قروض 5 رؤساء تولّوا رئاسة مصر في 60 عامًا.

ديون وإفلاس

ويحذر الخبراء من أن شبح الإفلاس يلاحق البلاد، في ظل مخاوف متصاعدة من عدم القدرة على سداد أقساط الديون والفوائد المترتبة عليها، بينما أقدم النظام الانقلابي على طباعة مئات مليارات الجنيهات لتوفير السيولة المالية في حالة غير مسبوقة.

وأظهرت بيانات صادرة عن البنك المركزي في سبتمبر الجاري أن الدين المحلي (الداخلي) قفز على أساس سنوي، في مارس 2019 بنسبة 18.8 في المائة، وذلك بعد أيام قليلة من إعلانه عن ارتفاع الدين الخارجي بنحو 20 في المائة في الفترة ذاتها، في تصاعد غير مسبوق للديون من دون توقف منذ انقلاب السيسي الخائن.

وأشار البنك المركزي إلى أن إجمالي الدين العام المحلي وصل إلى نحو 4.204 تريليونات جنيه، في مارس الماضي، مقابل 3.538 تريليونات جنيه في نفس الشهر من 2018.

وقفز الدين المحلي منذ انقلاب السيسي بنسبة 147 في المائة؛ حيث استدان من البنوك المحلية أكثر من ضعف ما استدانه خمسة رؤساء سابقين تعاقبوا على حكم مصر منذ أكثر من 60 عامًا، وكان الدين المحلي 1.7 تريليون جنيه منتصف 2014 بينما بلغ في يونيو 2011 نحو تريليون جنيه.

يأتي الكشف عن الدين الداخلي بعد أقل من أسبوعين على إفصاح البنك المركزي عن حجم الدين الخارجي، الذي قفز هو الآخر إلى 106.2 مليارات دولار في نهاية مارس 2019، مقابل 88.16 مليار دولار في نفس الفترة من 2018؛ ما يجعل إجمالي الدين العام الداخلي والخارجي نحو 6 تريليونات جنيه.

وفي 28 أغسطس الماضي، كشفت مؤسسات اقتصادية عن أن حجم الديون الخارجية قفز خلال سنوات السيسي بنسبة 130 في المائة.

وفي إطار التسلسل الزمني لتاريخ مصر في الديون الخارجية بدأت البلاد في الاستدانة منذ عهد جمال عبد الناصر الذي ترك ديونًا بقيمة 1.7 مليار دولار، تزايدت في عهد أنور السادات إلى 21 مليار دولار، قبل أن تزيد في عهد المخلوع حسني مبارك إلى 34.9 مليار دولار.

وخلال فترة حكم المجلس العسكري - الذي تولّى مقاليد البلاد بعد نحو شهر من اندلاع ثورة يناير 2011 حتى منتصف 2012 - انخفض الدين الخارجي بنحو 200 مليون دولار، مسجلاً 34.7 مليار دولار.

وواصلت الديون الخارجية الصعود في عهد الطرطور عدلي منصور، الذي عيّنه الجيش بعد الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب مرسي، إلى 46 مليار دولار.

ويُتوقع أن يصل الدين الخارجي بنهاية العام المالي الجاري (يونيو 2020) إلى نحو 113 مليار دولار، في ظل برنامج حكومة الانقلاب نحو جلب المزيد من القروض لسداد ديون مستحقة.

ويتعين على مصر سداد نحو 28 مليار دولار خلال العام المالي الحالي 2019/2020، بحسب تقرير الوضع الخارجي للاقتصاد المصري الصادر عن البنك المركزي المصري، منها 17.5 مليار دولار عبارة عن أقساط وفوائد الدين الخارجي، ونحو 10 مليارات دولار ودائع مستحقة.

ومن أقساط الودائع المستحقة 6 مليارات دولار للسعودية، من إجمالي ودائع للمملكة تبلغ 7.5 مليارات دولار، بخلاف الفوائد، ونحو 2.7 مليار دولار أقساط ودائع مستحقة للكويت، من إجمالي ودائع بقيمة 4 مليارات دولار، بخلاف الفوائد، ونحو 1.2 مليار دولار أقساط ودائع للإمارات، من إجمالي ودائع بقيمة 5.9 مليارات دولار، بخلاف الفوائد.

وأمام مصر جدول سداد ديون خارجية صعب للعامين القادمين أيضًا، وهي تحاول البحث عن مقرضين جدد، وتمديد آجال استحقاق ديونها، وتأتي الزيادة غير المسبوقة في الديون رغم تنفيذ نظام المنقلب الخائن عبدالفتاح السيسي برنامجًا اقتصاديًّا بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي منذ نوفمبر 2018، تضمّن إجراءات مؤلمة للفقراء، منها رفع أسعار الوقود والكهرباء والغاز والكثير من السلع والخدمات، ضمن خطط لإلغاء الدعم.

كذلك حرّرت حكومة الانقلاب سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية؛ ما أدى إلى تهاوي العملة المحلية لتصل حاليًّا إلى 16.5 جنيه للدولار الواحد مقابل 8.8 جنيهات قبل هذه الخطوة؛ ما أدى إلى موجات غلاء غير مسبوقة فاقمت الأعباء المعيشية للمصريين.

طباعة النقود

ورغم الديون غير المسبوقة التي ورّط فيها السيسي مصر، كشفت مصادر مسئولة عن لجوء نظامه الانقلابي إلى طباعة النقود بشكل غير مسبوق خلال السنوات الست الأخيرة. وبلغت قيمة النقد المصدَّر في يونيو من العام الجاري - وفق نشرة البنك المركزي الصادرة في أغسطس الماضي - نحو 539.2 مليار جنيه، بينما كانت قيمة النقد المصدر في الشهر نفسه من عام 2014 نحو 289.8 مليار جنيه، ما يشير إلى أن هذه الفترة شهدت طباعة حوالي 249.4 مليار جنيه، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ البنك المركزي.

وفي تتبّع لحركة النقد المصدر، تبيّن أن ما جرى طباعته في الفترة من يونيو من العام الماضي وحتى نفس الشهر من العام الجاري يصل إلى نحو 52.5 مليار جنيه؛ حيث كانت قيمة النقد المصدر في يونيو 2018، نحو 486.7 مليار جنيه.

وقال مسئول كبير في أحد البنوك الحكومية: إن القيمة الكبيرة في النقد المصدر ليست مجرد إحلال عملات تالفة أو قديمة بأخرى جديدة، فالأرقام تشير إلى ما يقرب من 250 مليار جنيه منذ منتصف يونيو 2014 وحتى الشهر نفسه من العام الجاري.

وأضاف المسئول أن "الكل يعلم أن هناك أزمة حقيقية ناجمة عن تراجع موارد الدولة وتباطؤ مختلف أنشطة القطاع الخاص، وهو ما يتنافى مع الصورة التي يصدّرها الإعلام المحلي".

600 مليار جنيه فساد

يرى محللون أن طباعة النقود تمثل نوعًا من التحايل؛ إذ يغطي النظام على مشاكل نقص الموارد بطرق ملتوية، مثل الكثير من حالات الفساد التي انتشرت في الآونة الأخيرة.

ومنذ يونيو  2018 بداية واصل السيسي المجرم حديثه عن الفساد، ففي كلمته أثناء "إفطار الأسرة المصرية"، في مايو الماضي، أطلق تصريحه الشهير: "الدولة أطلقت يد المؤسسات الرقابية على الفساد"، مضيفًا: "مبنهزرش ولن نقبل بأي حد يتجاوز ولازم المجتمع يساعدنا".

وبعدها بشهور قليلة، فجّرت التسجيلات المصورة التي أطلقها رجل الأعمال محمد علي الذي كانت له تعاملات واسعة مع الجيش أن السيسي وزوجته أهدرا مئات الملايين في بناء قصور جديدة وتأثيثها على نفقة الدولة.

وعلى الرغم من الحديث المستمر عن مكافحة الفساد والإعلان عن عمليات مختلفة لمكافحته إعلاميا، تتراجع مصر على مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية منذ عام 2014 وحتى اليوم؛ إذ تراجع الترتيب المصري على المؤشر بمقدار خمس درجات منذ انقلاب السيسي؛ لتسجل 32 نقطة في تقرير عام 2017 والذي صدر في فبراير الماضي، مقابل 37 نقطة في تقرير عام 2014.

وترتيب مصر على المؤشر يؤكد تراجع ترتيب مصر في مؤشر مدركات الفساد بمقدار درجتين في 2017، إذ سجلت 32 نقطة، مقابل 34 درجة عام 2016.

الحديث عن حجم الفساد في الدولة دفع نظام المنقلب عبدالفتاح السيسي إلى شن حرب على رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات السابق هشام جنينة.

وفي يوليو 2017، أصدرت محكمة جنح القاهرة الجديدة حكمًا بحبس جنينة عامًا وتغريمه 20 ألف جنيه بتهمة نشر أخبار كاذبة عن الفساد وكفالة 10 آلاف جنيه لوقف التنفيذ.

وجاء الحكم على خلفية اتهامات جنينة بترويج شائعات تضر بسمعة مصر، بعد إعلانه عن نتائج دراسة عن "تحليل تكاليف الفساد بالتطبيق على بعض القطاعات في مصر"؛ إذ كشفت الدراسة عن أن تكلفة الفساد تجاوزت خلال الفترة من عام 2012 وحتى عام 2015 الـ600 مليار جنيه، وهو التصريح الذي أثار غضب مؤسسات الدولة.

وبعد صدور الحكم، استخدم السيسي قانون إعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم، وأعفي جنينة من منصبه، ليدخل الجهاز المركزي للمحاسبات في سبات عميق منذ ذلك الحين.

وعلى الرغم من أن التسجيلات المصورة، التي بثها محمد علي، تشير إلى بعض عمليات الفساد داخل بعض أجهزة الجيش، على رأسها الهيئة الهندسية التي تم إسناد مئات المشروعات لها بالأمر المباشر، فإن محللين اقتصاديين يؤكدون أن حجم الفساد أكبر كثيرًا من الذي جرى الكشف عنه.

مشروعات ضخمة

من جانبه يتهم المحلل الاقتصادي أحمد إبراهيم قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي بإقحام الجيش في مئات بل آلاف المشروعات الضخمة التي تصل تكلّفتها إلى مئات مليارات الجنيهات، بينما لا يعلم أحد شيئًا عن كيفية إدارة الأموال التي تم ضخها في هذه المشروعات والرقابة عليها، بل لم يجرؤ أحد أن يسأل عن جدوى هذه المشروعات اقتصاديًّا، فالجيش كما قال السيسي "مؤسسة مغلقة".

ويؤكد أن السيسي لم يقصد إطالة الأذرع الاقتصادية للجيش لتطاول مختلف المناحي الاقتصادية في الدولة لتحقيق منافع، بل ورّطه وجعله في فوهة المدفع؛ إذ إن الحديث عن فساد داخل هذه المؤسسة يهز ثقة المصريين كثيرًا فيها، وهذا خطأ فادح، معربًا عن اعتقاد أن الجيش لن يستمر في نفس اللعبة التي رسمها السيسي، وسيحدث تغييرً كبير الأيام المقبلة .

ويشير إبراهيم إلى أن مشروع العاصمة الإدارية الجديدة يُعد أكبر علامات الاستفهام لدى الكثير من المصريين بعد شق تفريعة قناة السويس الذي استنزف حفرها نحو 60 مليار جنيه دون جدوى اقتصادية حقيقية.

معدلات الفقر

في مقابل مئات مليارات الجنيهات التي يجري إنفاقها في العاصمة الجديدة، تظهر بيانات صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في يوليو الماضي، زيادة الفقراء إلى ما يقرب من ثلث السكان، بينما يشكك خبراء اقتصاد في شفافية هذه البيانات، مؤكدين أن نسبة الفقر تطاول نحو ثلثي المصريين، في مؤشر على تدهور الأوضاع المعيشية، وسط غلاء متفاقم وتآكل في قيمة الأجور ونقص في الخدمات.

ووفق بيانات جهاز الإحصاء، فإن معدل الفقر خلال العام المالي 2017/2018 ارتفع إلى 32.5 في المائة، مقابل 27.8 في المائة خلال العام المالي 2015/2016، وألغى السيسي الدعم الموجه للفقراء في الكثير من السلع والخدمات على مدار السنوات الست الماضية، وفرض المزيد من الضرائب؛ ما أنهك ملايين الأسر.

ووفقًا لمشروع موازنة العام المالي الجاري 2019/2020، تمثل الضرائب بمختلف أنواعها نحو 75.5 في المائة من إجمالي الإيرادات العامة.

وتستهدف حكومة العسكر تحقيق إيرادات ضريبية بقيمة 856.6 مليار جنيه، بزيادة 96 مليار جنيه عن العام المالي الماضي، ويأتي ما يقرب من نصف هذه الزيادة من الضرائب على الاستهلاك (ضريبة القيمة المضافة)، بينما يتوزع النصف الآخر على باقي البنود.