كشفت النتائج الرسمية للانتخابات التشريعية التونسية عن مفاجآت مدوية، ورسمت خريطة جديدة للمشهد السياسي باندثار قوى وأحزاب كان لها ثقل سياسي كبير، مثل حزب نداء تونس؛ الذي أسسه الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، وكذلك حزب الجبهة الشعبية اليسارية، بينما حافظت حركة النهضة الإسلامية على معظم قاعدتها الشعبية، وتصدرت النتائج بـ52 مقعدًا من أصل 217 هي جملة مقاعد البرلمان، لكنها في ذات الوقت ربما تقع في فخين؛ الأول: يتعلق بصعوبة تشكيل حكومة اتئلافية في ظل عدم حصولها على الأغلبية (50% +1)، وكذلك تشرذم نواب المجلس على عدة تيارات وأحزاب صغيرة، والفخ الثاني: هو مدى قدرة حكومة النهضة على إنجاز الطموحات الشعبية وتحقيق الفارق بمحاربة الفساد، ودفع الاقتصاد إلى الأمام عبر تحقيق معدلات تنمية تسهم في تحسين مستويات المعيشة.

وكشفت النتائج عن هذه الملاحظات الجوهرية:

أولاً: حصلت النهضة على صدارة الأحزاب من حيث نتائج الانتخابات التشريعية؛ إذ فازت بـ52 مقعدًا، مقابل 41 لـ"قلب تونس" في المركز الثاني، وتحتاج النهضة إلى غالبية بـ109 مقاعد من أصل 217 مقعدًا في البرلمان، لكي تتمكن من تشكيل الحكومة وفق الدستور. والمدة المحددة في الدستور ليتمكن الحزب صاحب الصدارة في نتائج الانتخابات التشريعية - الذي لم يتمكن من الحصول على الأغلبية في الاقتراع - لتشكيل الحكومة أربعة أشهر؛ من أجل إيجاد تحالف يضمن لها الغالبية، وفي حال عدم تمكن الحزب المكلف من الرئيس من تشكيل الحكومة يتم الذهاب إلى انتخابات مبكرة، إلا أن الوقت أمام النهضة متاح بشكل أكبر، لا سيما أن الرئيس لم يحدد بعد، بانتظار الجولة الثانية لحسم المنصب الرئاسي.

ثانيًا: تشير النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية التونسية، إلى حصول حزب "نداء تونس" الحاكم على مقعد واحد فقط وربما مقعدين من مجمل المقاعد البالغة 217 مقعدًا، وكان الحزب الذي أسسه الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي قد حصل على (89 مقعدًا) في برلمان 2014م، ووقتها شنّت صحف العسكر في مصر حملة "بروباجندا"، واعتبرت فوز "النداء" سحقًا للنهضة الإسلامية والإخوان، لكن سرعان ما جرت الانشقاقات على الحزب حتى تلاشى في برلمان 2019م، في ظل صمت تام من جانب صحف العسكر في مصر وتحالف الثورات المضادة في كل من السعودية والإمارات.

كما تأتي الهزيمة القاسية للنداء بعد أسابيع من هزيمة مرشحه في انتخابات الرئاسة وزير الدفاع عبدالكريم الزبيدي الذي حصل على "7.5%" فقط وحل رابعًا في ترتيب المرشحين للرئاسة بعد قيس سعيد ونبيل القروي ومرشح النهضة عبدالفتاح مورو.

ثالثًا: القاعدة الشعبية للنداء لم تندثر، ولكنها أعادت تموقعها في أحزاب وقوى متعددة انشقت عن النداء، مثل حزب "قلب تونس" الذي أسسه رجل المافيا والأعمال نبيل القروي منذ 6 شهور فقط، والذي حصل على "41 مقعدا" كما حصل حزب "تحيا تونس" المنشق عن النداء أيضًا ويرأسه يوسف الشاهد رئيس الحكومة الحالي بــ"15 مقعدا"، ثم الحزب الدستوري الحر (5 مقاعد) بزعامة المتطرفة عبير موسى التي تدعو إلى الكراهية والعنصرية ضد الإسلاميين.

رابعًا: أسفرت النتائج عن موت اليسار الراديكالي؛ حيث خسرت الجبهة الشعبية اليسارية كل نوابها (15)، ولن تكون ممثلة في برلمان (2019-2024)؛ لعدة أسباب:

أولاً: لأن مكوناتها تشتتت واختلفت إلى فرقتين اختصمتا في الرئاسية؛ إذ كان لها مرشحان وأخذ من قاعدتها مرشح يساري آخر (هو عبيد البريكي)، بينما هاجرت بعض مكوناتها إلى حزب التيار الديمقراطي، وصوت جزء منها لقوائم مستقلة تدعمها النقابة.

والثاني: أن الجبهة سجنت نفسها في إطار ضيق وركزت فقط على شن الحرب الشعواء على حزب النهضة الإسلامي، حتى كره الناس خطابها، وفقدوا ثقتهم في زعاماتها، وقد أساءت استخدام ملف قضية اغتيال زعيمها في هذه المعركة، وحاولت جني أرباح سياسية من ورائه، وكان لمحاولتها الاعتداء على قضاة التحقيق في أيام الدعاية الانتخابية أثر سلبي جدًّا دمّر آخر حظوظها.

خامسًا: أفضت الانتخابات إلى بروز ثلاث قوى جديدة حققت نتائج مثلت مفاجأة للجميع؛ أولها ائتلاف الكرامة، وهو مجموعة من الإسلاميين الغاضبين على اختيارات حركة "النهضة"؛ حيث حصل الائتلاف الذي تشكل قبل الانتخابات بشهور قليلة على المركز الثالث بعد "النهضة" و"قلب تونس" بحصوله على "20 مقعدا"، والحزب الثاني هو التيار الديمقراطي الذي حصل على "15 مقعدًا"، وكذلك حركة الشعب "15" مقعدًا، وكلاهما يفرض حتى الآن الانضواء في حكومة تقودها حركة "النهضة".

سادسًا: يرجح كثير من الخبراء والمحللين أن تجد "النهضة" صعوبة في تشكيل حكومة ائتلافية في ظل تشردم أصوات البرلمان وتشتتها من جهة، وكذلك صعوبة الائتلاف مع حزب "قلب تونس" ثانيًا، ورغم ذلك هناك من يرى أن النهضة قادرة على تشكيل حكومة ائتلافية فهي تحتاج إلى "109" أصوات من إجمالي "217"، وهي تملك 57 واتئلاف الكرامة الإسلامي يملك 20 مقعدًا، كما أن حزب "تحيا تونس" الذي يتزعمه يوسف الشاهد رئيس الحكومة "15 مقعدًا"، أبدى مرونة في الدخول في تحالف حكومي، إضافة إلى أصوات المستقلين "40" نائبًا. أما الرافضون للائتلاف مع النهضة فهم "قلب تونس 41" نائبًا والتيار القومي "15" وحزب الشعب 15 نائبًا، وعدة أحزاب أخرى صغيرة.