كثير من الناس صار لديهم نفور من كلمة "لكن" التي ينسخ لاحقها سابقها، صار المرء حين يجلس لتقييم آخر يبدأ بذكر الجوانب الإيجابية ثم يختم بقوله: "ولكن.."، ثم يذكر الجوانب السلبية، إن هذه الكلمة اليوم صارت ناسفة لجميع المدح والجوانب الخيرية في الإنسان حتى لو تبعت هذه الكلمة ملاحظة واحدة صغيرة.

حول هذه الكلمة سأتحدث في ثلاثة جوانب:

الأول: لا تتحسس من النقد:

يقال: "بقدر قيمتك يكون النقد الموجه إليك"، وأثر عن الفاروق عمر بن الخطاب قوله: رحم الله من أهدى إليَّ عيوبي.

أنت أعلم الناس بنفسك، فحين يوجه إليك أحدهم نقدًا أو ملاحظة أو نصيحة فلا تضجر منها سواء كانت صادقة أو غير ذلك، فإن كانت صحيحة فلن تضطر للتبرير والتحوير، بل اشكر قائلها واعتبرها كما يقول الفاروق: هدية، وإن كانت غير صحيحة فهي لن تضيرك ولن تنزل من قدرك.

إن التعامل مع النقد بهذه الطريقة يفيدك في كثير من النواحي، فهو أولاً يدربك على تحمل النقد الصادق والآثم، وهو ثانيًا يزيدك رفعة وسموًّا، وهو ثالثًا يبعد عنك الانتقام للنفس، وهو رابعًا يحميك من الهم والغم، لقد ذكر الله تعالى لرسوله الدواء الأنجع لاتهامات المشركين فقال: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ {97} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ {98}) (الحجر)، هذا التسبيح هو بديل رباني عن الأخذ والرد والتفنيد والتبرير، وكم أمر الله تعالى بالإعراض عما يقولون.

المسألة الأخرى في هذا الجانب، ذكر الله تعالى عن صفات الفائزين في سورة العصر: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ {3}‏) (العصر)، ومن بنود البيعة لمحمد صلى الله عليه وسلم: النصح لكل مسلم.

لا تكن ممن يضيق بالنصح فيتحرج الناس من إبدائها لك خوفًا من رد فعلك.

لا تقابل النصح بهجوم على ناصحك بقولك: وأنت كذلك فعلت كذا وكذا.

لا تأخذ الأمر تحديًا شخصيًا ولا تجعل الأمر إهانة لك، كل ما في الأمر أنه كره منك شيئًا وأراد أن تتجنبه أو فقد منك شيئًا طيبًا فأراد أن تفعله، أو يحسدك على نعمة أنعمها الله عليك فلن تحتاج إلى الرد عليه، اجعل بئرك أعمق مما يظن كما قيل.

الثاني: لا تهمل البطاقة:

في حديث صاحب البطاقة أراد صاحبها أن يهملها بقوله: "وما تفعل بطاقة أمام هذه السجلات؟"، لكن الله العدل لم يتركها فوضعها في الكفة الموازية لتلك السجلات المليئة من الذنوب فرجحت بطاقة لا إله إلا الله، هذا التوازن مطلوب في تقييم الآخرين –إن كان هناك حاجة للتقييم أصلاً– فلا ينسف جهد أحد من أجل خطأ قام به جهلاً أو تأولاً أو تجرأ حتى، من الناس من يجعل الذنبَ كبيرةً حتى تغطي على كل المحاسن التي يتمتع بها ذلك الإنسان.

كن مثل ذلك العاشق الذي قال:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد         جاءت محاسنه بألف شفيع

وكذلك العكس: حين يثني امرؤ عليك ثم يعرج بذكر ملاحظة أو سلبية فلا تنسف كلامه الطيب من أجل هذه الملاحظة، لم يُنسف جهاد حاطب ابن أبي بلتعة بتلك الخطيئة التي فعلها قبيل فتح مكة، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألغى حكم الله في الجاسوس وهو القتل على حاطب بسبب جهاده في "بدر" وقوله: "لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم"، تلك حسنة كبيرة كانت كفيلة بالشفاعة.

الثالث: إلى معشر المربين:

لا تكثر من النقد وركز على الأوامر لا النواهي، ركز على السلوك الإيجابي عند ابنك، كثرة النقد تحطم تقدير الذات في نفس الطفل وتجعله يعتقد في نفسه أنه فاشل كثير الخطأ؛ وبالتالي فإنهم ينهونني عن كثير من السلوكيات.

حين يكون الهدف فعلاً معينًا، فإن وسائل الوصول إلى ذلك الفعل تتعدد، والوسيلة الحكيمة قد تندر في بعض الأحيان، حين رأى الملك رؤيا عبرها أحد له بقوله: أنت آخر أهلك موتًا، فعوقب المفسر، وعبرها آخر بقوله: أنت أطول أهلك عمرًا، فكوفئ، لم يتغير التفسير ولكن تغير الأسلوب، بدلاً من أن تقول لطفلك: لا تلعب حافيًا، قل له: ارتدِ الحذاء حين تلعب.

لا أعتقد أن الأمر بهذه الصعوبة ولكنه يحتاج إلى تدريب ومراقبة للتوجيهات.

إن كثرة "لا" ترسخ في ذهن الطفل الجوانب السلبية، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى ذلك الغلام يلعب في الطعام لم يقل له: لا تلعب في طعام، بل قال له: "وكل مما يليك".

إن التركيز على التحذير من السلبيات تجعل الطفل واعيًا بذاته السلبية؛ وبالتالي فإن صورته ستتأثر بهذا الوعي، حين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم مدح عبدالله بن عمر رضي الله عنهما في قيام الليل لم يقل له: نعم العبد عبدالله، "ولكنه" لا يقوم الليل، بل قال: "نعم العبد عبدالله لو كان يقوم من الليل"، فماذا كانت النتيجة؟ لم يترك ابن عمر قيام الليل طيلة حياته، حاول أن تتخلى عن كلمة "ولكن" في التوجيه، واستبدلها إلى كلمة "ولو فعلت كذا لكان نورًا إلى نور"، أو "وأطلب منك فعل كذا حتى تصيب الكمال البشري"، ونحو ذلك من الكلمات المحفزة الداعية إلى العمل.

وكذلك لا تكثر على طفلك العتاب حتى يفقد الطالب قيمة التوجيه، كم نرى من طفل يقول: قد تعودت من والديّ الصراخ عليَّ أو حتى تعودت على الضرب أو غيرها.

إن المربي الناجح هو الذي يستغل موقفًا قد يكون سلبيًا إلى موقف يغرس فيه قيمة في نفس المتربي، حين استهزأ أبو محذورة وهو صبي بالأذان، انتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حسن صوته، فجاء إليه وقال: "أنت مؤذننا"، فصار مؤذن مكة حتى توفي رضي الله عنه.

عن سهل بن عبدالله التستري أنه لما كان عمره ثلاث سنوات رسخ خاله فيه قيمة مراقبة الله تعالى بأسلوب رائع جدًّا، فلم يقل له: لا تكذب فالله يسمعك، أو قال: لا تفعل المعاصي لأن الله يراك، أو نحو ذلك، إنما ركز على القيمة العليا ثم تأتي الممارسات تباعًا لتلك القيمة، لقد طلب منه أن يحدث نفسه كلما أوى إلى فراشه أن يقول ثلاث كلمات: "الله معي، الله ناظر إلي، الله شاهدي"، وبعد فترة قال سهل بن عبدالله: وجدت لها حلاوة في نفسي، هو نفسه الذي اختبره شيخه بأن يذبح الدجاجة في مكان لا يراه فيه أحد، ففعل الطلاب في أماكن لم يرهم أحد من البشر، وعاد سهل بالدجاجة حية وقال لشيخه: كل مكان يراني فيه الله، ذلك الغرس وهذه الثمرة.

إن التركيز على الجوانب الإيجابية كفيلة بطرد الجوانب السلبية تلقائيًّا دون التطرق إلى النهي عنها، الطفل مثل الكوب حين يمتلئ بماء ملوث ما عليك إلا أن تزيده من الماء الصافي ثم تنظر إلى ذلك الكوب الذي سيتغير تدريجيًّا إلى ماء صاف صالح للشرب دون أن تفرغه ابتداء، إن الطفل قد يبني لقلبه بعض الأكواخ البالية فلا تهدمها، ولكن ابنِ له قصرًا من الرغائب وهو سيترك بنفسه هذه الأكواخ لذلك القصر.

-------
نقلا عن مجلة المجتمع الكويتية