في يوم السبت رحل الحاج عباس السيسي يرحمه الله عقب صلاة قيام يوم الجمعة في شهر رمضان المبارك الموافق 22/10/2004م، الداعية العبقري الذي سجل من مواقف حياته نماذج تربوية ودعوية صارت مضرب المثل لكل الإخوان.

ولد الشيخ عباس بن حسن السيسي يوم 28-11-1918م في مدينة رشيد بالبحيرة.

حصل على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية، وتطوَّع بمدرسة الصناعات الحربية، بتوجيه من فضيلة المرشد العام الإمام حسن البنا، والتحق بورش سلاح الصيانة بعد التخرج.

تعرَّف على دعوة الإخوان المسلمين سنة 1936م، وبايع الإمام البنا على الالتزام بمنهج الدعوة والجهاد في سبيل الله.

نشاطه الدعوي

اعتقل سنة 1948م مدة ستة أشهر، ثم في سنة 1954م مدة عامين، وفُصل من الخدمة سنة 1956م، ثم اعتقل مجدداً سنة 1965م، وخرج بعد تسع سنوات عام 1974م.

كان الأستاذ السيسي من دعاة الإخوان الأفذاذ، فقد كان يصل إلى قلوب الناس بحسن خلقه، وبشاشة وجهه، وجمال أسلوبه الدعوي، بالترفق بالناس، وإدخال السرور إلى قلوبهم، ومشاركتهم في مشكلاتهم، وتعميق العلاقة بهم، وإقامة أواصر الحب معهم، والتلطف بالصغير، والصبر على الجاهل، وتمتين الصلات الاجتماعية معهم، عن طريق التزاور، ومشاركة الناس في أفراحهم وأتراحهم.

وهو بسيط في مظهره، باسم الثغر، واسع الصدر، حليم على من يسيء إليه، ودود لإخوانه، رفيق بجيرانه وزملائه، وكان خفيف الظل، لا يُرى إلا مبتسماً، كثير الدعاية لإدخال السرور على من حوله، ولكن بأدب الإسلام، يروي القصص بأسلوب مشوق جميل، ويهدف من كل ذلك إلى استمالة قلوب المدعوين إلى دعوة الحق، ومنهج الحق، ودين الحق، صبَرَ في كل المحن التي تعرض لها.

له إسهام كبير في نشر الدعوة داخل مصر وخارجها، وله محبون وتلامذة في أكثر أنحاء العالم العربي، وفي الغرب.والأستاذ السيسي من الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين الذين حملوا رسالة الدعوة، وثبتوا على حملها، والتصدي لكل قوى الظلم والجور التي سعت لتعطيل المسيرة، أو إيقاف القافلة.

كان يستوعب الشباب وحماسهم، ويوجه هذا الحماس لخير الأمة والدعوة، وكان يعالج تطرف أفكارهم بالحب واللين، ويقول: سنقاتل أعداءنا بالحب.

ومن طرائفه : أنه كان يركب "الترام" مرة، فداس على قدم رجل من الركاب، فقال له الرجل: أنت حمار؟ فكان جواب الحاج عباس بمنتهى اللطف: لا أنا سيسي، فضحك الرجل، وكانت أحاديث دعوية بينهما.

ويُجمع الذين زاملوه في السجن، أو شاهدوه في حال المرض، أنه كان دائم الابتسام مع القريب والبعيد، والعدو والصديق، حتى مع السجانين الذين كانوا يعذبّونه وإخوانه في السجون، وكانوا يطلقون عليه: معلم الحب والذوق، ويعتبرون مدرسته الدعوية، مدرسة الحب في الله، لأنه صاحب البسمة والقلب الكبير، ولأنه لا يؤمن بالعنف.

وكان له دور كبير في سبعينيات القرن الماضي، في التأثير على شباب الجامعات، في الابتعاد عن العنف ونبذه منهجاً وطريقاً في الدعوة إلى الله.

وكان له أكبر الأثر في اعتدال المزاج والسلوك والإسلامي، خاصة في مدينة الإسكندرية، حيث كان يحرص على التواصل مع الشباب، ويكثر من اللقاءات بهم، من خلال الندوات والمحاضرات، فكانت جهوده هذه فتحاً كبيراً للدعوة الإسلامية في أوساط الشباب وغيرهم.

ولقد أكرم الله الكثير من شباب الجامعات المصرية في الإسكندرية والقاهرة وغيرها، بالالتزام بهذا المنهج الوسط، والبعد عن التشدد والتزمت، والانخراط في صفوف الإخوان المسلمين، باعتبارهم الجماعة التي تلتزم بمنهج الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة، بعيداً عن التزمت أو التفلت، ومن غير إفراط ولا تفريط، ولا جمود ولا تطرف: وكذلك جعلناكم أمة وسطا (البقرة:143).

من أقواله

"الدعوة إلى الله فن، والصبر عليها جهاد".

"الدعوة إلى الله حب، والحياة في سبيل الله أشق من الموت في سبيل الله ألف مرة".

إن الجهاد بالحب في الله، هو الفرصة المتاحة، والسياسة المباحة، التي لا تعوقها حدود ولا يصادرها قانون، لأنها نبض وهواتف ومشاعر وأحاسيس.. والحب في الله هو السبيل الذي ليس له نظير ولا مثيل.

الإسلام ذوق، والإسلام لطائف، والإسلام أحاسيس ومشاعر، هذا الدين يتعامل مع النفس البشرية، يتعامل مع القلوب والأرواح.

هذا الدين لم يبدأ باستعمال العضلات، ولا خشونة الكلمات، ولا بالتصدي والتحدي، ولكن بالكلمة الطيبة، والنظرة الحانية، قال تعالى: "وقولوا للناس حسنا" (البقرة:83).

لما كانت رسالة الإسلام موجهة إلى عامة الناس على الأرض، كان من الضروري أن يتصدر لهذا المجتمع الواسع دعاة على مستوى من العلم والقدرة والقدوة، والدراية بأسرار النفس البشرية، يتحلون بالصبر، وانشراح الصدر، والفراسة، والبصيرة: " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن تبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين" (108 يوسف)، ولا بد من استنهاض إمكانات الحواس الربانية في جذب القلوب، وتآلف الأرواح والمعايشة في رحاب حركة الدعوة ومجالاتها الواسعة، وهذا يكون بالكلمة الطيبة، والدعوة بالحسنى، والجدل إن اقتضى الأمر بالتي هي أحسن، والقدوة الصالحة، ذلك أن طهارة الهدف تستلزم في عرفنا طهارة الأسلوب في تحقيقها، ونبل الغاية يقتضي نبل الوسيلة حتماً، فالدعوة تقتضي فهماً دقيقاً لكل مراحلها، وأهدافها، وما تريد في المستقبل، وما طريقها في تحقيق أهدافها.

لقد ظلت العبادات عند كثير من المسلمين محصورة في شكل بدون روح، فالمسلم يؤدي عبادته، ويتقوقع في ذاته وخصوصيته، دون الاهتمام بأن الإسلام رسالة ودعوة، وبهذا انكمش دور المسلم الاجتماعي والحركي، فلم يمتد إلى جميع قطاعات المجتمع، لينقله ويصبغه بصبغة الإسلام حقيقة وعملاً، مشاعر وشعائر، لبناء الأمة الإسلامية، وتحقيق الآمال".

وقد وفقه الله إلى إصدار العديد من الكتب والرسائل التي تؤرخ للدعوة، وتتحدث عن أحداثها وشخصية قائدها الإمام الشهيد حسن البنا، ووسائل التربية والدعوة إلى الله، وكيفية مخاطبة القلوب، ودعوة الناس إلى الخير، وقد أسس "دار القبس" للنشر بمدينة الإسكندرية.

من أهم مؤلفاته

من المذبحة إلى ساحة الدعوة

الدعوة إلى الله حب

حسن البنا مواقف في الدعوة والتربية

جمال عبد الناصر وحادثة المنشية بالأسكندرية

الطريق إلى القلوب

حكايات الإخوان

الذوق سلوك الروح

الحب في الله

في قافلة الإخوان المسلمين

رشيد المدينة الباسلة

دعوة الإخوان حب

في قافلة الإخوان (4 أجزاء)

حكايات عن الإخوان (3 أجزاء).

أم معاذ في السجن.

وبالإضافة إلى هذه المؤلفات، كانت له اهتمامات بتسجيل تاريخ الجماعة عن طريق إجراء الحوارات والمقابلات مع الإخوان القدامى، بالصوت والصورة في دار القبس بالإسكندرية، ونرجو إخواننا في الإسكندرية وأبناء الفقيد أن يحرصوا على أن تخرج هذه المقابلات المسجلة، ليستفيد منها جمهور الإخوان الدعاة في كل مكان، فهي علم ينتفع به.

قالوا عنه

يقول فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين السابق الشهيد الأستاذ محمد مهدي عاكف:
"إن الجماعة فقدت برحيل الأستاذ عباس السيسي واحداً من القلوب التي كانت تنبض بحب الدعوة، وتحيا لها، مسخرة كل طاقاتها لله عز وجل.

"عزاؤنا أن الله اختاره إلى جواره في أيام الشهر الكريم شهر رمضان المبارك، واختصَّه بيوم عيد للمسلمين هو يوم الجمعة، ولئن كان قد رحل عن دنيانا، فإن سيرته تحيا ما بقيت دعوة الله، وتنبض حياته في قلب كل قارئ لكتبه التي أثرت مكتبة الدعوة، فاللهم تقبّله في الصالحين، وأنزله منازل الشهداء والصديقين، وأكرم ضيافته يا أكرم الأكرمين".

ويقول المهندس خيرت الشاطر النائب الثاني للمرشد العام:
"ودعنا رجلاً من رجالات دعوة الإخوان المسلمين البارزين، الذي كان وسيظل معلماً بارزاً في مسيرة دعوتنا، حيث كان له دور متميز في داخل هذه الدعوة المباركة، سواء في مرحلة التأسيس، وحتى مطلع الخمسينيات، أو في مرحلة المحن والسجون من الخمسينيات وحتى مطلع السبعينيات، ثم في مرحلة استئناف وإعادة التأسيس منذ السبعينيات وحتى مرضه في السنوات الأخيرة، وليس فقط على مستوى الإسكندرية، ولا على مستوى مصر بأسرها، بل مستوى العالم العربي والعالم كله، ولقد ترك آثاراً واضحة وبصمات في كل مكان ذهب إليه وارتبط اسمه بالحب والبشر".

ويقول الأستاذ جمعة أمين عبدالعزيز:
"ننعى اليوم رجلاً من رجالات الدعوة، ربى رجالاً عدة، ولو أردنا أن نكتب تاريخه، ما وسعنا سفر من الأسفار، عشنا معه عمراً، فلم نر فيه حقيقة إلا قول الله عز وجل:

"من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى" نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا" (23 الأحزاب). فكان نعم الرجل، ونعم المربي، ونعم المجاهد، تعرفه مجالس الإخوان في مصر، ويعرفه من عاش معه في أوروبا وأمريكا، ويشهد له رجال وشباب قابلهم من كل بقاع الدنيا، وله بصمة في نفوسهم.

لقد رحل عنَّا أخ حبيب، ومعلم وأستاذ، عشت معه، وكنا معاً كما قال ربنا: "أشدد به أزري 31 وأشركه في أمري" 32 (طه)، فكان نعم الرجل والأستاذ والمربي، إنه رجل لا يموت، لأن تاريخه باق فينا وأثره. لقد صُبَّ عليه البلاء صباً، وأصابه المرض فترة طويلة، ولكنه كان نعم الرجل الصابر المحتسب، كنا نزوره في مرضه، فنجد لسانه قد أثقل عليه في الكلام،

ولكنه بمجرد لقاء إخوانه وجلوسهم معه فترة، نجد لسانه وقد انطلق لمجرد رؤيته لإخوانه، كان يفيض حباً، وكان بمثابة الماء الذي يروي نبت الدعوة وزرعها، لقد كان كتاباً صفحاته مضيئة.. علمنا فيها أن الدعوة حب، وعلمنا أنه لا عنف في دعوتنا، كتبها في كتبه، وبثَّها إلينا، وربَّانا عليها، وعلقها في بيته ليراها كل زائر، سلوانا أنه ترك لبنات ولبنات يشتد بها البناء ويعلو بإذن الله.

لا نملك إلا أن نرفع أكف الضراعة إلى الله في هذه المصيبة، كما وصفها الله تعالى، مصيبة الموت، مؤكدين "إنا لله وإنا إليه راجعون" وإن كان غاب عنَّا الأستاذ عباس السيسي، فقد ترك خلفه تلاميذ ملء السمع والبصر، نسأل الله أن يتقبله في الصالحين، وأن يثبتنا على الحق ويلحقنا به على خير".

ويقول عنه الشيخ سعيد حوى:
"الأخ عباس السيسي ممن عايش الأستاذ البنا، ونهل من معينه العذب، فتجسدت فيه معاني هذه الدعوة في صفاء ورواء، ومن أعلى ما تجسد فيه:
خُلق الإخاء، فهو صافي المودة، كثير العطاء، حيثما توجه نشر من عبير روحه الحب، فلا يكاد يجتمع مع أخ حتى يشعل في قلبه نور الإخاء في الله حاراً متوقداً منيراً، لأنه هو كذلك، فتراه يغرف منه الصغير،

ويرتشف منه الكبير، وهو بطبيعته شفاف النفس، حسّاس الوجدان، مع تأمل عميق، وفراسة صادقة، وفطرة صافية، وقدرة كبيرة على أن يحيط الكبار والصغار بعطفه، وأن يتجاوز عن الأخطاء، ويغضّ الطرف عن الزلات، ويتحمّل في الله المصيبات،

مما جعل الكثيرين من شبابنا يتعلقون به بمجرد أن يعرفوه، لأنهم يجدون عنده حباً بلا مصلحة، وأبوّة بلا مطالب شخصية، وأخوة تتقارب في أجوائها فوارق السن والقدر، بسبب من تواضع لا يعرف إلا الحدود الشرعية".

لمحات ومحطات من حياته

1- من مواليد 1918م برشيد، التحق بالتعليم الصناعي، ثم تطوَّع في الجيش بمباركة الإمام الشهيد حسن البنا الذي استحسن له هذا الأمر، رغم أنه كان يشتكي من إحدى عينيه، لكنه في الكشف الطبي يكتب له قدرُ الله القبول.

2- بمجرد أن عرض عليه الأستاذ محمود عبد الحليم دعوة الإخوان المسلمين علم أن هذا الطريق هو حياته، وعلى إثرها ظل يقدِّم كل ما يملك لدعوته.

3- وفي رشيد استطاع في شعبة الإخوان أن ينشر دعوة الإخوان، معتمدًا على صفاته الفطرية التي وهبها الله إياها من البساطة والعبادة والفكاهة وأَسْر القلوب وملك المشاعر والانخراط في مشاكل الناس ومساعدتهم بخلق رفيع وذوق عالٍ.

4- تعرض لمحنة 54؛ حيث حوكم عسكريًّا وصدر عليه حكمٌ بالإعدام خُفِّف فيما بعد إلى الأشغال الشاقة المؤبدة.

5- وكان في داخل السجن هو (بسمة المحن) من كثرة ما كان يلقاه الإخوان من نكاته وفكاهاته.. حكى لي الأستاذ العريشي الذي صحبه في الزنزانة أنهم اشترطوا عليه (نكتة في كل يوم فقط)؛ إلا أنه جاء يومًا ليستأذن في عرض نكتة سلف من حساب الغد!.

6- فرضٌ على كل من يقابله الابتسامة، حتى ولو كان الشخص لا يعرفها، حتى على قائده الإمام الشهيد حسن البنا.. يحكى في إحدى زياراته لرشيد أنه كان هناك تعارف بين الجالسين من عائلات: سردينة وزيتون وسمك فقال الإمام: سفرة دائمة.

7- عقب خروجه من السجن مباشرةً رفع شعار (الدعوة إلى الله حب، والصبر عليها جهاد)، حتى إنه كتبها في مدخل شقته بالإسكندرية بميامي، وكان مثالاً حيًّا في ترجمة هذا الشعار على ثلاثة محاور:

محور الإخوان القدامى:

سواء الذين تعرَّضوا للمحن أو الذين لم يتعرضوا، وجمعهم في أنشطة وبرامج ونشر بينهم جوَّا لطيفًا، حتى ظنوا أنهم فقط هم الذين يمثلون الإخوان بالإسكندرية.

محور شباب الإخوان:

ومع أنه قد تجاوز في سنوات السجن زمن الشباب إلا أنه في أوساط الشباب كان شابًّا؛ تحمل عيناه الود، ويقدِّم قلبه الحب في حيويةٍ تقودهم برفق وفن وفي حماس يشعل فيهم لهيب الحماس، فالتف حوله الشباب، وكانت لرسائله العاطفية والرقيقة معهم إحياءً لمعنى جديد عملي هو الحب.

محور العمل الإخواني:

حيث أخذ ينظم العمل بالإسكندرية ويعيد أنشطة الإخوان في قيادة حازمة وريادة حكيمة، في نظام سلس وأسلوب مبدع، فأخذت دعوة الإخوان في الانتشار منذ أوائل السبعينيات، سواءٌ كانت في المناطق أو الجامعة.

- وبعد تأسيسه العمل الإخواني من جديد أسَّس ما عرفت آنذاك في الجماعة بمعسكرات رشيد، وكانت مجالاً تربويًّا عميقًا في التعارف وتلاقي الأفكار على مستوى القطر، ثم أعقب ذلك بمعسكرات (أبو يوسف) بالإسكندرية التي خرَّجت جيلاً من الإخوان هم اليوم الذين يتولَّون قيادة الجماعة على مستوى القطر أو في المحافظات كافة.

- عقب أحداث سبتمبر 81  سافر إلى ألمانيا، ومنها سافر إلى معظم دول العالم، وكان له دور فعَّال في إخوان العالم خارج مصر؛ حيث إنه ما حلَّ في مكان إلا وأصبحت له ذكرى لا تُنسى.

- عاد في بداية عام 85 ليستكمل المسيرة الإخوانية، وكان لي شرف العمل معه في تأسيس دار الصوتيات والمرئيات، والتي عُرفت فيما بعد باسم (اقرأ)، وفي عام 86 سافرت للعمل بالسعودية فشعرت بوحشة الغربة والابتعاد عن الحاج عباس، حتى جاءتني رسالته القلبية وكتب لي فيها: "تركت إخوانًا تحبهم ويحبونك إلى إخوان تعانقهم ويعانقونك"، فأزالت وحشتي ودفعتني إلى العمل والانطلاق والدعوة بلا توقف.

عدت في عام 92 إلى الإسكندرية، أو بالأحرى إلى الحاج عباس بنفس الروح الفتيَّة التي كان يشعل جذوتها في كياني بين الحين والآخر، وسعدت بصحبته في أعمال وأنشطة الإخوان بالإسكندرية حتى عام 1995م؛ حيث رحلت إلى المحكمة العسكرية بدءًا من يناير أول السنة، وقد تزامن ذلك باعتذاره عن المضي في مزاولة عمله كعضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين؛ نظرًا لأحواله الصحية؛ ليضرب المثل بإتاحة الفرص للشباب للعطاء والعمل، في حين ظلت دعوة إفطار الإخوان بالإسكندرية توجَّه باسمه، وكان الإفطار يزداد بهاءً بحضوره وتشريفه، رغم معاناته الصحية، والتي كانت وقودًا للإخوان وزادًا للناشطين بالإسكندرية على كافة ألوانهم الفكرية والحزبية والثقافية، ولم يكن هذا خيالاً؛ بل هذا ما كنت أشعر به وأراه أثناء تقديمي لحفلات إفطار الإخوان.

- وفي عصر يوم الإثنين زارنا بالسجن الأستاذ حسين إسماعيل الذي قام بتغسيله، وحكى لي كيف كان الحاج عباس هزيلاً وهو تحت جهاز التنفس الصناعي، وبمجرد أن وافته المنية ردَّت إليه صحته وسمن وجهه وقويَ جسمه واشتدت يداه، وكانت تعلوه بسمة سحرية، ويضيف الأستاذ حسين إسماعيل أنه كان ضحوكًا بشوشًا وهو يودعنا ويستقبل الآخرة!! عليه رحمة الله وجمعنا وإياه في جنته.. اللهم آمين.

مواقف لا تنسى

1- تعليم الجندية:

لا أنسى هذا الموقف مع الحاج عباس في معسكر أبي يوسف، وكان حريصًا على الحضور الدائم بين أفراد المعسكر؛ فقد جاء الحاج أبو قنينة مسئول البحيرة ومعه الحاج شمعة مسئول المحمودية آنذاك ليصطحبا الأستاذ جمعة أمين ليلقيَ كلمة إخوان الإسكندرية في حفلٍ كبيرٍ بالمحمودية، ولكنه اعتذر لوعكةٍ ألمَّت به، وفوجئت بأن الحاج عباس يكلفني بهذه المهمة قائلاً لي: "يللا يا عسكري قم بالمهمة"، ولكنه اشترط عليَّ أن أكون بالمعسكر قبل صلاة الفجر، وبالفعل ذهبت إلى المحمودية، وكان حفلاً مشهودًا، ولم أتصور أنهم يقدمونني لإلقاء كلمة إخوان الإسكندرية؛ فقد ظننت أن الدعوة لغيري حتى سمعت اسمي؛ فقد كنت حينذاك شابًّا في بداية العشرين من عمره، وأتْممت المهمة على خير، وكانت كلمة شبابية حماسية لاقت استحسان الحاضرين؛ حتى إنهم التفُّوا حولي بعد الحفل يتسابقون في ضيافتي ولم يكن في رُوعي وتفكيري إلا شيء واحد هو سرعة رجوعي لأكون بالمعسكر قبل صلاة الفجر، وكان رجوعي بالمواصلات العادية، وكان الطريق إلى المعسكر وعرًا، وليس مثل اليوم معبَّدًا، وكانت سعادتي القصوى حينما أخذت أبحث عن الحاج عباس، حتى كنت بجواره وهو يتوضأ لصلاة الفجر قائلاً له: "السلام عليكم"، فقال لي: "إنت جيت يا عسكري؟".

إلى هنا قد يكون الموقف عاديًّا، إلا أنني لم أفهمه إلا بعد زمن حينما أدركت ما غرسه في نفسي وما زرعه في عقلي من أن الجندية هي أساس نجاح الأعمال، مهما كان موقع الإنسان أو تمكن الداعية.

2- الحكمة:

ربما نسمع عن الحكمة أو نقرأ عنها أو نروي بعض أقوال الحكماء، ولكن أن ترى الحكمة وهي شاخصة بلحمها وعظمها أمام عينيك؛ فهذا ما لا تنساه أبدًا.

بعد أن مُنِع فضيلة الشيخ المحلاوي من الخطابة بمسجد القائد إبراهيم، وأصرَّ الشباب وروَّاد المسجد والإسكندرية على أن يخطب بالمسجد، وكان يومًا زلزل أرجاء الإسكندرية الذين جاءوا من كل حدب وصوب ليشهدوا هذا اليوم، وعقب الخطبة التي ألهبت الحاضرين كاد الناس أن يخرجوا عن صوابهم؛ بحيث لا يستطيع أحد أن يسيطر على الموقف، وكنت على مقربة من الحاج عباس الذي حاولت أن أساعده وهو يصعد فجأةً على سقف سيارة، فلم أستطع من سرعة قفزته واعتلائه السيارة مخاطبًا الجموع بلا ميكرفون:

أيها الإخوة..

لقد أديتم ما جئتم من أجله، فانصرفوا راشدين.

فما هي إلا لحظات وقد خلا المكان تمامًا من الناس، وما ذلك إلا لحكمته باختيار الوقت المناسب والأسلوب المناسب في المكان المناسب بالابتكار المناسب من الرجل المناسب، فرأيت الحكمة بعيني وغرست معانيها في نفسي.

3- التفويض:

في الأعمال الفردية التفويض يكون سهلاُ، ولكن حينما يكون التفويض أمام جموع من البشر في مؤتمر يجمع كل الإسكندرية فالتفويض يكون مغامرةً، ولكن لثقة القائد في جنوده والتفاهم المتناغم بينهما النابع من صفاء الدعوة التي تعلمها التلميذ من أستاذه يمر التفويض طبيعيًّا.

هذا ما كان في مؤتمر ميدان المساجد بأبي العباس ببحري؛ حيث كانت تجتمع الحشود سنويًّا في حفل المولد النبوي، وكان يشرِّف الحفل الأستاذ عمر التلمساني المرشد العام للإخوان آنذاك، وكنت مكلفًا بالهتافات من على المنصة، فجاءني شاب قوي البنية، وقال لي أريد أن أهتف فقلت له: "استأذن من الجالس في الصف الأول"، وأشرت إلى الحاج عباس الذي أرسل لي رسالةً مع طالب الهتاف كتب فيها: "اسمع هتافه، وإن رأيته مناسبًا فردِّده أنت"، وشعرت بفداحة القرار، وسمعت منه هتافه الذي أخذ يردِّده على مسامعي بصوت جهوري قائلاً: "أنا لا روسي ولا أمريكاني.. أنا ورا التلمساني".

وعلى الفور أدركت أن دعوتنا لا نتبع فيها أشخاصًا، بل إن هذا يُغضب الأستاذ التلمساني الذي كان يرفض الهتافات أثناء حديثه، وتعلمت من الموقف كيف تفوّض ومتى تفوّض ومن تفوّض وما السبل التي تُنجح التفويض، أرأيت كيف كان بموقفٍ يتكلم بين يديك؟!

4- الإتقان:

"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" فماذا لو كان العمل لا يخص الشخص بل يخص الجماعة،  بالطبع سيكون الإتقان على درجة أكبر، وهذا ما لمسته حينما التهبت الإسكندرية لزيارة بيجين رئيس وزراء الكيان الصهيوني لأول مرة، وكان لا بد من الاستنكار وإظهار الغضبة لهذه الزيارة الكريهة، وقد اتخذ الإخوان قرارهم بإعلان استنكارهم عمليًّا بالانطلاق بعد خطبة حماسية للشيخ المحلاوي من مسجد عمر بن الخطاب؛ حيث كان ما زال ممنوعًا من الخطابة بمسجد القائد إبراهيم، وكلفني الإخوان بإلقاء بيان الإخوان عقب الخطبة بأسلوب ناري دافعٍ لهم إلى الخروج وإظهار الغضبة بقوة، وكان ارتجاليًّا غير مقروء لضمان الحماسة والدافعية.

ولا أنسى ليلتها؛ فقد استدعاني الحاج عباس، وكان بصحبته الأستاذ أحمد حيدر وكيل المكتب الإداري آنذاك، وأخذ الحاج عباس يمثِّل لي طريقة الإلقاء وكيفية الوقفات ومواطن إشعال الحماس، وكان حريصًا على السماع مني؛ فإن خرجت كلمةٌ مني زائدة ردَّني إلى النص، فأدركت كيف حرصه على بيان الإخوان أن يكون منضبطًا ومسئولاً ومحقَّقًا الهدف؛ فليس الأمر حماسة وغضبة بقدر ما هي خطة وهدف وحرص، وهذا هو الإتقان؛ ليس إتقان عمل فردي يتحمله صاحبه، بل إتقان عمل لجماعة ينم عن حرص القائد ومسئوليته العظيمة.

5- الإبداع الدعوي:

الجمود عدو الحركة، والإبداع ضرورة دعوية اليوم للتأثير في النفوس والقلوب.. أتذكر حينما شرعنا تحت- إشراف الأستاذ محمد عبد المنعم- في عمل مسرحية (أصحاب الأخدود) واقترب موعد العرض اعترضتنا عقبات كثيرة كادت تودي بالعرض بعد تعبِ وتحملِ الفرقة التي ظلت ثابتةً رغم الصعاب، فذهبت مهمومًا إلى الحاج عباس، وكان ذلك بعد عودته من رحلة ألمانيا مباشرةً، وبمجرد ما عرف الموقف تحمَّس للمسرحية أكثر منا، وكان يتابعها بنفسه يوميًّا رغم مشاغله، وكم ذلل لنا الكثير من الوسائل المالية والفنية والإدارية حتى تم العرض على أعلى مستوى لم نكن نتخيله!، ولا أنساه في البروفة الأخيرة مصطحبًا الحاج حسن جودة مسئول قسم نشر الدعوة آنذاك، وقام الحاج عباس بالتسليم والتحية على كل أفراد الفرقة والفنيين والمعاونين؛ مما كان سببًا مباشرًا في إنجاح المسرحية التي شهدت أربعة عروض بمسرح الشبان المسلمين بالشاطبي؛ منها عرض للنساء فقط، وما زلت أتذكر الكلمة البليغة التي ألقاها الأستاذ محمد عبد المنعم في الحفل الذي أقامه الحاج عباس في مكتبه تكريمًا للقائمين على العمل، وما زلت إلى اليوم أحتفظ بهديته التي لا تقدر بثمن.

ملامح شخصيته

1- الإيمان العميق بالقدر:

جاءت حكايات الحاج عباس عن السجون كلها عن (جميل الأقدار الإلهية) والتأمل الإيماني في حكمة الله تعالى في تصريف الأيام والساعات واللحظات.

مثال: وقوفه أمام شمس بدران، ثم وهو في طريقه إلى العيادة بعد التعذيب لإخفاء آثار التعذيب يقول له العسكري: "قف" ليجد نفسه أمام زنزانة نفس الأخ الذي كان الحديث عنه، فيخبره بما يقوله وينجو الأخ من التعذيب، وكان تعليق الحاج عباس على هذا الموقف: ﴿وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ﴾ (الأنفال: من الآية 42).

مثال: حملة تفتيشية مفاجئة، وقد تخلص الإخوان من الممنوعات وفق قانون السجون، ولكن بقيت "شنطة" كانت بعيدة في حجرة الحقائب، وكان المسئول عنها الأخ محمد سليم الذي قال: "إن هذه دعوة الله، وهو صاحب الشأن؛ فإن شاء يفعل ما يشاء"، يقول الحاج عباس: "وبالفعل تفتش كل الحقائب إلا هذه الحقيبة".

مثال: حينما فوجئ بالتفتيش وكانت الأوراق في يده وأمامه الضابط فقام بتمزيق الأوراق ورميها أمام الضابط، ولم يتصرف منهم أحد بأي تصرف، وقضي الأمر!، ومرة أخرى يفاجأ وكان معه بحث مكتوب فوضعه في صدره ولم يحاسبه أحد.

2- الشعور بآيات الله:

في حديثه عن رحلة الحج مع الحاجة أم معاذ، وقد أصيب الحاج بالذبحة وظل في مستشفى المدينة المنورة، وذهبت الحاجة بمفردها في حالة نفسية صعبة، وفجأةً تجد في الطواف أبا معاذ وأكملت الرحلة.

ثم تاهت الحاجة عن معاذ فوجدت شخصًا يشبه (عبد الله حماد) فنادته: "يا حاج عبد الله.. هل تعلم أين الحاج عباس؟" فقال لها: في مستشفى المدينة المنورة، ولكني لست عبد الله حماد، أنا من إخوان الصعيد، وأوصلها إلى المطوف.

يقول الحاج عباس عن هذا الموقف: "وهكذا ترى وتسمع بأذنيك وعينيك آيات الله تعالى تترا علينا في كل طرف، وفي كل مكان، وبهذه الآيات تثبت القلوب المؤمنة، وتحيا دائمًا في رحاب الله تعالى".

3- ذكر جوانب العظمة في الناس:

الذين أيَّدوا في عام 54 كان عددهم مائة أطلق عليهم الإخوان "المائة المبشرون بالجنة"؛ لأن الحكومة اعتقلتهم في الستينيات، بل وزَّعتهم على العنابر للطعن في فكر الإخوان، وأقامت ندوة ليتكلموا، ولكن خاب ظنهم، يقول الحاج: "وكانت إرادة الله أن يدافعوا بكل جهدهم، فأحرجوا المباحث وفشلت الوقيعة بين الإخوان".

4- الإدارة بالعواطف بين القائد والجند:

مثال: في لقاء مع الإمام حسن البنا في منزل الأستاذ مصطفى مشهور وحديث عن الآمال والآلام ودور الشباب يقول الحاج عباس: "وتعانقنا، وكان الوداع والدموع تتساقط من عين الإمام حسن البنا، يا لها من لحظات أنبتت الإيمان وأزهرت القيم!".

مثال: بعد نقل الحاج عباس إلى غزة من مطروح ليشارك في الحرب يقول الحاج عباس: "جلس معي الإمام حسن البنا منفردًا، وقال بعاطفة جياشة: نأخذ بعض المعلومات عنك لنشرها إذا استشهدت في المعركة، يقول الحاج عباس واصفًا هذا المشهد: "ثم وقف يودعني بحرارة وعاطفة وظل يراقبني حتى غبت عن ناظريه، تلك هي القيادة التي تحب الجنود، وهؤلاء هم الجنود الذين يحبون القيادة".

5- كان مولعًا بجميل العلاقات الإنسانية:

مثال: كتب لنا تحت عنوان "كيف يتحدث الوجه" متسائلاً: "هل يعتبر الوجه ثروةً لصاحبه، فيمنح الذين يتكلمون أملاً ويجعلهم يتمتعون بقدر كبير من الثقة؟!".

مثال: ماتت أمه وهو ابن ثلاث سنوات, وتزوج الأب، يقول الحاج عباس أنه في صباه لم يسمع ولم يَرَ منها ما يوحي بأنها زوجة أبيه، ثم يعلِّق: "رأيت أن أسجِّلها لأنه غاية في المثالية، رغم أنها واقعية حكمة الوالد وفطنته ورعايته لأولاده رعاية تقوم على الحفظ والحرص والعناية".

6- أخوة الروح:

يحكي قائلاً: في عام 47 خرجت من المكتب الإداري واتصلت تليفونيًّا لمتابعة الأمور فإذا بشخص يقول لي: من أنت؟

فقلت: أخوك عباس السيسي.

ثم قلت: من أنت؟

فقال: لا أعطيك اسمي، وابتسم ضاحكًا.

فقلت له: طيب.. إنت لابس إيه؟

فقال: يا أخ عباس.. الرجل يعرف بروحه وحسه لا يُعرف بلبسه.

فقلت له: يظهر أنك رجل روحي قوي.

قال: أنا روحك، وأنت روحي.. أنا حسن البنا.

ثم يعلق الحاج عباس: "فألقيت السماعة على المكتب وهتفت: الله أكبر ولله الحمد، وأنا أعمل تعظيم سلام؛ حيث كانت مفاجأة".

7- السيسي.. الكاتب المتمكن:

يقول: "اغرس بذرة.. اغرس فكرة.. اترك كلمة في قلب من تلقاه؛ فلا تدري في أي القلوب يكون الخير".

ويقول: "افتح للكلمة نوافذ الهواء ونوافذ الحرية لتسمع وتقرأ، وارْوِها بالري، وريُّ القلوب هو الحب".

ويقول: "وتابعها بالعناية والاهتمام في السراء والضراء؛ فذلك هو السماد وهو الغذاء".

8- قطار الدعوة:

- أنا كراكب قطار الدعوة، وسائقه قائدها.

- قائد الدعوة كقائد القطار؛ يعيش دائمًا بين الغاز والزيت والنار.

- صفير القطار هو الآذان أو النداء.

- شريط السكة الحديد هو طريق الدعوة المرسوم ومنهاجها المعلوم.

- للقطار محطات، وللإخوان طاقات؛ فمنهم من يغادر في منتصف الطريق، ومنهم يبقى ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.

- ومن يتعبه الطريق فقد أعطانا جهد المقل فلا يُلام؛ فعساه يومًا يعود ويجود ما بقي بيننا وبينه صلة وقلب وود.

- توقيت القطار معلوم؛ فالذي يتأخر يفوته القطار، ولا تنفعه الأعذار.

رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.