تحت عنوان "سؤال" كتب فضيلة الإمام الشهيد حسن البنا فقال:

"ما السبب في أننا نرى الشعوب المسلمة مستعمرة ذليلة ونرى ما استقل منها أخذ يندفع في طريق الخروج على التقليد والأخذ بما يسمونه التفرنج"؟ هذا هو السؤال الذي وجهه إليّ صديق أعلم عنه التمسك بدينه والغيرة على أمته، ألقاه في لهجة تنمُّ عن ألم دفين ويأس من صلاح حال المسلمين وما عرفت عنه من قبل إلا قلبا مفعما بالأمل مغمورا بالرجاء.

فأما أن المسلمين الآن مستعمرون أذلاء، ليس لتعاليم دينهم في ذلك جريرة، وعلم الله وشهد التاريخ أنهم يوم تمسكوا بها سادوا وشادوا وعمروا الأرض، وأناروا للإنسانية طريق الفلاح وأسعدوا الدنيا بحضارة لم تزل وستظل بهجة الحياة وحديث الدهر وعنوان الفضيلة، بعد ذلك تنكروا لدينهم وجهلوه وأهملوه ولبسوه كما يلبس الفرو مقلوبا، وأمامك الإسلام بتعاليمه القرآنية وسماحته الفطرية وغرره النبوية، وأمامك ما يعيث به هؤلاء القوم ويسمونه إسلامًا. أتراه يمتُّ إلى الإسلام الصحيح بصلة قليلة أوكثيرة؟

خذ أي تشريع وتشريع الإسلام القويم وانظر بعد ذلك هل كان حظ قومنا منه إلا أنهم درسوه وحللوه وقسموه وحددوه وذرعوه وشبروه ثم تركوه وفارقوه؟ ومن ظريف المفارقات المبكية أن تدخل معهدًا من معاهد طلب العلم الديني في مصر فترى الطلبة يتذكرون دروسهم وفيهم من يتذكر أحكام الصلاة فيؤذن للوقت وتقام الصلاة وهم جلوس يتذكرون أحكام الصلاة؟! فحظ هؤلاء وأمثالهم من الإسلام أنهم درسوا الإسلام . أما أنهم أسلموا فذلك ما لا أستطيع أن أسلمه لهم ولأمثالهم.

الإسلام دين يتسامى بنفس المسلم إلى أعلى حدود الكرامة، ويجعل له السيادة والعزة. فهل فهم المسلمون هذا وعملوا به أم استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فصار إسلامهم ذلا ومهانة وضعفًا واستكانة؟

الإسلام ينادي بالجهاد في سبيل الحق ويبوئ المجاهدين مقام درجات الدين، فصرفه المسلمون عن معانيه السامية إلى معانيه الدنيّة، وقنعوا من الجهاد بجهاد النفس، كما وضعوا لأنفسهم لا كما أمرهم الله أن يكونوا.

الإسلام خلق وفضيلة وإيمان ورجولة، فأين أخلاق المسلمين من تعاليم هذا الدين؟ يطول بي القول إذا أوردت لك ما يمر بك الدقيقة تلو الدقيقة من مفارقات القوم وخروجهم على ما سنّ لهم هذا الدين الحنيف من أخلاق.

كل خير في تعاليم الإسلام، فيوم كان المسلمون مسلمين كانوا سادة، ويوم نبذوا هذا الإسلام وشرعوا لأنفسهم ما لم يأذن به الله وصلوا إلى ما هم فيه، وسيظلون كذلك حتى يعودوا إلى دينهم (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) "الرعد: 11", وصدق رسول الله القائل: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتهم بأذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا يرفعه حتى ترجعوا إلى دينكم".

وأما أن الشعوب التي استقلت اندفعت في طريق نبذ التقليد والأخذ بالتفرنج، فذلك لجهل قادة النهضة بتعاليم الإسلام، وبعدهم عنها، ولرغبتهم في تقليد الأمم الغربية ومسايرتها، ولضعفهم عن الوقوف أمامها والاعتزاز بما تراه هي حربًا عليها، ولأن كثيرًا منهم لا يمتُّ إلى الشرق إلا بصلة الولد، وكثير منهم حرم حتى هذه الصلة، وإنما هم شرقيون مولدًا تربوا في أحضان الغرب وكرعوا من بؤرة ثقافته وعاداته وأخلاقه وأفكاره، ثم رمى بهم الشرق، فكانوا أشد عليه من الأجانب ولأن المتدينين الذين صادفوا هؤلاء كان كثير منهم سبة على الدين ومعوانًا لهؤلاء على هدمه ومحاربته في أشخاصهم وأشخاص أعمالهم التي لا تمت إلى الإسلام، فهؤلاء المجددون أحد رجلين: إما ماكر بالإسلام على علم وإما مخدوع لأنه يجهل تعاليم الإسلام وكلاهما خطر.

وهم وإن ظهروا بمظهر القوة في بادئ نهضاتهم فسيكون لذلك الأمر ما بعده وسيكشف الزمن ما في ذلك من تزييف.

لو أتاح الله لهؤلاء القادة من يبصرهم الرشد ويزعهم عن التورط في مثل هذه المهاوى السحيقة، وتريثوا وأخذوا يسيرون بأمتهم في طريق تجديد إسلامي صحيح يعود بها إلى كتاب الله وسنة رسوله لكان لهم في العالم الآن شأن آخر، ولضمنوا لأنفسهم ولأمتهم نهضة موطدة الأركان ثابتة الدعائم ولقدموا للإنسانية أجلّ خدمة تلهج بها الأجيال وينير سناها ما بين المشرق والمغرب، ولكن حمّى الاندفاع شديدة وثورة التقليد غالبة وسلطان الشهوات جبار والأهواء تتجارى بأصحابها كما يتجارى الكلب بصاحبه وهي تجربة قاسية ستكشف عن مر الثمر وسيأتي اليوم الذي يعود فيه إلى نصابه ويأبى الله إلا أن يتم نوره.