قضية المياه تشكل مسألة حياة أو موت للشعب المصري، والذي بات مهددًا بالفقر المائي بعد استمرار إثيوبيا في استكمال بناء سد النهضة، والذي من المؤكد أنه سيكون له آثار سلبية على مصر، فضلاً عن تهديد رئيس وزراء إثيوبيا بجاهزية بلاده للدخول في حرب ضد أي معوّق لاستكمال مشروع سد النهضة.

لم يكن هذا الصراع بين الدولة الإثيوبية وحكومة الانقلاب وليد السنوات الأخيرة، لكنه يعود لسنوات مضت منذ أن فكر الصهاينة في إنشاء وطن قومي لهم ووقع اختيارهم على فلسطين، ومن ثم وضعوا خططهم الاستراتيجية على منابع المياه التي لا يستطيع وطن أن يقوم بدونها.

ولذا كانت أحلامهم في مياه نهر النيل؛ حيث سعى "هرتزل" لتحقيق هذا الحلم في ظل المحتل البريطاني، غير أن الإنجليز في مصر والمصريين رفضوا بناء على تقرير اللجنة الإنجليزية التي تشكلت لذلك، ومع ذلك لم ييأس "هرتزل" ومن خلفه كل صهيوني من الحصول على المياه من نهر النيل.

ولهذا عمد الكيان الصهيوني إلى تغيير سياسته الخارجية، واتجه مباشرةً صوب دول المنبع بإفريقيا، ووطّد العلاقات معهم، وأقام علاقات واتفاقيات ومنحًا واستراتيجيات مع هذه الدول، وتبنَّ مشاريع لهم للاستفادة بمياه الأنهار والتي تجري في نهر النيل، وعرض إقامة السدود وتمويلها، كل ذلك في خطوة استباقية للضغط على المصريين للسماح بتدفق المياه عبر نيلهم ليصل إلى الأراضي الصهيونية.

محاولة بناء سدّ على نهر النيل حلم يراود الإثيوبيين منذ زمن طويل، غير أنه لم تأت الفرصة المناسبة لهم لتحقيق ذلك، إلا بعد أن انقلب على كرسي الحكم في مصر خائن عمد إلى ذلك متعمدًا لأسباب قد يعزوها البعض إلى أنها خيانة كبرى للشعب الذي يحكمه.

وعلى الرغم من كونه أعطى إثيوبيا الحق الشرعي في ذلك، فإنه أوعز إلى إعلامه ورجال نظامه الانقلابي الترويج بأن الشعب هو السبب تارة، أو أن الرئيس الشهيد محمد مرسي هو السبب تارة أخرى، أو أن ثورة 25 يناير كانت السبب في تشجيع إثيوبيا، حتى فوجئنا ببعض علماء الانقلاب، كأمثال سعد الدين الهلالي، يحمِّلون المصريين السبب لكونهم يسرفون في الماء، وكأن هذا الأمر حدث الآن، أو أن هؤلاء لم يشعروا بذلك إلا الآن.

محطات الخيانة

يتملَّك المجتمع المصري حالة من القلق والفزع حول مصير مياه نهر النيل، والتي تعد الشريان الوحيد للحياة؛ حيث من المتوقع أن تشهد البلاد حرب المياه - ليس بين الحكومات بعضها بعضًا - لكن ستكون حربًا بين أفراد المجتمع في سبيل الحصول على كوب من المياه له ولأولاده، خاصة مع إعلان الانقلاب فشل المفاوضات مع إثيوبيا والتي تقف على أرض ثابتة في رفضها، حتى وصل الأمر بوزارة الخارجية الإثيوبية أن تصرح بأن مصر اتبعت "تكتيكًا تخريبيًا" خلال مشاورات سد النهضة الأخيرة.

لا يستطيع أحد أن يفصل بين ما يجري في سد النهضة وبين أطماع الصهيونية في مياه نهر النيل منذ نشأة عام 1897م، والتي تكلّلت بالنجاح بعد توقيع السيسي الخائن وثيقة إعلان مبادئ سد النهضة مع إثيوبيا والسودان عام 2015م والتي بموجبها اعترف بأحقية إثيوبيا في إقامة سد لتخزين المياه.

ولو تتبعنا تاريخ محاولات الصهاينة الداعمة للموقف الإثيوبي لوجدناه قديمًا، غير أنه تطور عام 1974م حينما طرح أليشع كالي، وهو مهندس صهيوني، تخطيطًا لمشروع يقضي بنقــل مياه النيـــل إلى الكيان الصهيوني، ونشر المشروع تحت عنوان: (مياه الســلام) والذي يتلخص في توسيــع ترعة الإسماعيلية لزيـــادة تدفـق المياه فيها، وتنقل هـذه المياه عن طريــق سحــارة أسفل قناة السويس.

وقد كتبت صحيفة "معاريف" في سبتمبر 1978م تقريرًا بأن هذا المشروع ليس طائشًا؛ لأن الظروف الآن أصبحت مهيأة بعد اتفاقيات السلام لتنفيذ المشروع، خاصةً أن المهندسين المصريين كانوا قد اكتشفوا سرقة الكيان الصهيوني المياه الجوفية بسيناء، وعلى عمق 800 متر من سطح الأرض، وكشف تقرير أعدته لجنة الشئون العربية بمجلس الشعب المصري في يوليو1991م عن أن الكيان الصهيوني تعمد خلال السنوات الماضية سرقة المياه الجوفية في سيناء، عن طريق حفر آبار ارتوازية سحب المياه منها.

وحينما خرج الرئيس الإثيوبي "منغستو هايله مريم"، في 16 فبراير 1978، بتصريح يتحدى حق مصر التاريخي في مياه النيل، وأن معظم تلك المياه تأتي من النيل الأزرق في إثيوبيا؛ ما دفع بأنور السادات، في 1 مايو 1978، أن يرد على تهديد منغستو، بأن مصر ستشنُّ حربًا إذا تعرضت حقوقها المائية للخطر، قائلاً: "نحن لا نحتاج إذنًا من إثيوبيا أو الاتحاد السوفييتي لتحويل مياه نيلنا (إلى إسرائيل) إذا اتخذت إثيوبيا أي فعل ضد حقنا في مياه النيل، فلن يكون أمامنا بديل عن استخدام القوة. التلاعب بحق أمة في الماء هو تلاعب بحقها في الحياة، والقرار بالذهاب للحرب من أجل ذلك لن يكون موضع جدل في المجتمع الدولي".

ومن ثم سعى الكيان الصهيوني في التغلغل الدبلوماسي مع دول حوض النيل وتقديم المساعدة لها، يقول محمد سيد أحمد: "إن للخبراء الإسرائيليين لغة في مخاطبة السلطات الإثيوبية تتلخص في ادعاء خبيث، هو أن حصص المياه التي تقررت لبلدان حوض النيل ليست عادلة، وذلك أنها تقررت في وقت سابق على استقلالهم، وأن إسرائيل كفيلة أن تقدم لهذه الدول التقنية التي تملكها من ترويض مجرى النيل وتوجيهه وفقًا لمصالحها، من أجل ذلك تتوارد الأنباء والأخبار عن مساعدات إسرائيلية لإثيوبيا لإقامة السدود وغيرها من المنشآت التي تمكنها من السيطرة والتحكم في مياه النهر".

وحينما اندلعت ثورة 25 يناير - والذي يحاول السيسي الآن إلصاق التهمة بها - أعلنت إثيوبيا أنها سوف تُطلع مصر على مخططات السد لدراسة مدى تأثيره على دولتي المصب مصر والسودان، وعقب ذلك تم تنظيم زيارات متبادلة لرئيسي وزراء البلدين لبحث الملف، حيث تم تشكيل لجنة في نفس العام لهذا الغرض.

وفي عهد الرئيس مرسي - الذي يحاول السيسي أيضا إلصاق التهمة به - وفي مايو 2013م أصدرت لجنة الخبراء الدوليين تقريرها بضرورة إجراء دراسات تقييم لآثار السد على دولتي المصب.

حتى كانت المفاجأة في مارس 2015م حينما وقع عبدالفتاح السيسي ونظيره السوداني عمر البشير ورئيس وزراء إثيوبيا هايلي ديسالين في العاصمة السودانية الخرطوم وثيقة "إعلان مبادئ سد النهضة"، وتضمنت الوثيقة 10 مبادئ أساسية تتسق مع القواعد العامة في مبادئ القانون الدولي الحاكمة للتعامل مع الأنهار الدولية.

الغريب أنه في سبتمبر 2015م انسحب المكتبان الاستشاريان لـ"عدم وجود ضمانات لإجراء الدراسات بحيادية"، غير أن النظام الانقلابي استمر في ترويج أن الأمور مطمئنة، وأنه لن يضار أحد من الشعوب.

لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل توجهت بعض الأحزاب في أبريل 2011م - بعد ثورة يناير - إلى إثيوبيا والتي اعتبرت هدية من هؤلاء إلى الحكومة الإثيوبية لمعرفة أين تقف مصر؛ ما جرأ إثيوبيا على المضي قدما في بناء السد.

الإخوان ونظرتهم لدول منبع النيل

أدرك الإمام البنا ومن خلفه الإخوان في وقت مبكر أهمية قضية المياه وضرورة تأمين الدولة المصرية لمنابعه، فقد أدرك أنه إذا فقدت مصر لهذا التأمين فسيتعرض أمنها القومي للخطر، ويهدد شعبها، فيعرّج في حديثه على الأخطار التي تهدد أمن مصر القومي بقوله: "ونريد بعد ذلك أن نؤمن حدودنا الجنوبية بأن نحفظ حقوقنا في الإريتريا ثم زيلع ومصوع وهرر وأعالي النيل.. تلك المناطق التي اختلط بتربتها دم الفاتح المصري، وعمرتها اليد المصرية، ورفرف في سمائها العلم المصري الخفاق. ثم اغتصبت من جسم الوطن ظلمًا وعدوانًا، وليس هناك اتفاق دولي أو وضع قانوني يجعل الحق فيها لغير مصر، وإن أبى علينا ذلك الناس، ومن واجبنا ألا نتلقى حدود بلدنا عن غيرنا، وأن نرجع فى ذلك إلى تاريخنا، ولنرى أي ثمن غال دفعناه من الدماء والأرواح في سبيل تأمين حدودنا، لا لمطامع استعمارية، ولا لمغانم جغرافية، ولكن لضرورات حيوية لا محيص منها، ولا معدى عنها، والفرصة الآن سانحة لتطالب مصر برد ما أخذ منها فى غفلة من الزمن وإهمال من الحكومات، وذلك ما نطلب لوادي النيل أولاً".

ويؤكد ذلك بقوله: "فإن مصر إذا كانت تحتاج السودان لتطمئن على ماء النيل وهو حياتها، فإن السودان أحوج ما يكون إلى مصر في كل مقومات الحياة كذلك، وكلاهما جزء يتمم الآخر ولا شك".

وحينما درس مخططات الصهيانة واختيارهم العديد من الأماكن لقيام وطنهم خاصة في أوغندا أو كينيا، أدرك البنا أن الصهاينة يريدون أن يسيطروا على منابع النيل ويضعفوا الدولة المصرية، غير أن الإنجليز اعترضوا وصرفوا وجهتهم لفلسطين، ومن ثم وضعوا الخطط للسيطرة على منابع النيل، وهذا ما تحقق لهم الآن.

ويؤكد عمر التلمساني، المرشد العام للإخوان، ذلك بقوله: "إننا لو تركنا الضفة الغربية والجولان وسيناء لليهود حفاظًا منا على الأمن والسلام، فإن هذا لا يكفيهم ولن يقتنعوا به، والدليل القاطع قائم على جدران الكنيست في تلك الخرائط التي ألصقت عليه تنادي بإسرائيل من الفرات إلى النيل، فاليهود إذن أقاموا لهم دولة على أرض المسلمين وإنها لحقيقة لا تخفى حتى على البلهاء، فمتى يؤمن بها أصحاب الحق ويدركون خطرها ويعملون لمواجهتها؟!..

لقد كان من ضمن المشاريع الاستيطانية الصهيونية مشروع توطين اليهود في أوغندا، وهو المشروع الذي أعقب فشل مشروع الاستيطان الصهيوني في العريش وسيناء، وتقع الأراضي التي وقع عليها الاختيار لتوطين اليهود فيها في كينيا، وإن عرف المشروع خطأ بمشروع أوغندا، والنقطة المهمة في هذا المشروع، والتي أشارت إليها بعض الآراء، أن الهدف من محاولة الاستيطان في هذه المنطقة هو العمل على التحكم في منابع نهر النيل، واستغلال ذلك للضغط على جميع الأطراف التي عارضت محاولة الاستيطان الصهيونية في العريش وسيناء لإرغامهم على التخلي عن معارضتها".

كانت نظرة الأستاذ البنا شاملة لكل حدود مصر بما في ذلك أمن مصر القومي في البحار، فكتب يحضُّ الحكومة على إعادة السيطرة على البحرين الأحمر والمتوسط ليكونا تحت سيطرة الدول الإسلامية، فلا يتحكم فيهما عدو، فقال: ويجب أن يعود البحر الأبيض والبحر الأحمر بحيرتين إسلاميتين كما كانتا من قبل.

كان هذا الفرق بين موقف الإخوان الوطني ورؤيتهم للأمن القومي المائي لمصر وبين موقف سلطات الانقلاب التي تسعى عن عمد إلى تعطيش الشعب المصري وتركيعه.