إن كرامة المسلم مبعثرة في كل ناحية، للأسف عندما يكون الولاة ظلمة، وعلماء السلطان خونة، يجردون الناس من كرامتهم، فيتحولون إلى لقمة سائغة للأعداء، يتكالبون عليهم كما تتكالب الأكلة إلى قصعتها، ولقد أوضح النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن ذلك سببه "حب الدنيا وكراهية الموت".

يصر الإنسان على أن يهدر كرامته، ويجرح عزته، ويقوّض كيانه عندما يتخذ لله شريكًا، فيخافه ويخشاه، ويعمل له ألف حساب، وربما يصل إلى تقديسه من دون الله!!، مع أنه في جنب الله قويٌّ وبعون الله غنيٌّ، وفي جوار الله عزيز وبفضل الله كريم.

أنت في كنف الله قوي كريم ولو كنت ضعيفًا أسيرًا، وأنت في التجافي عنه هيّن حقير ولو ملكت جيوش الدنيا. من كتب الله عليه الهوان نزع الكرامة عن نفسه وفي بيته وفي أهله وفي عمله وفيمن حوله؛ لأنه اختار لنفسه هذه الحياة، وارتضى لنفسه هذه المعيشة (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى*وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه).

إذا بطش الله بإنسان فإن أقرب الناس إليه سوف يتخلى عنه، وإذا رحم لله إنسانًا سَخّر له أعداءه يخدمونه.. هذه قاعدة ربانية ثابتة، إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان الله عليك فمن معك؟! أسعد الناس هو الذي يمشي برضاء الله ويعتز بطاعته ويفخر بانتسابه للإسلام (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) (فصلت). لا كرامة إلا بإكرام الله ولا عزة إلا بعزة الله، وقد ذل وهان من دان لغير الديان، قال الله تعالى: (ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء) (الحج).

إن أعلى مقام للإنسان عندما يكرمه الله بعبوديته، وأن يترجم ذلك بالسجود له، والخضوع لأمره والتذللِ بين يديه، يفعلُ ذلك اعترافًا بحق الله، ورجاءً لفضله، وخوفًا من عقابه، يخشى عذابه ويرجو رحمته!!. وغاية الهوان والذلّ أن يستنكف العبد عن السجود لربه، أو يشرك مع خالقه إلهًا آخر؟! وتكون الجبال الصم والدواب البُهمُ خيرًا منه حين سجدت لخالقها وسبحت بحمده.. (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) (الإسراء)، لذا كان من دعاء بعض السلف: "اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك".

إن الذين يتجردون من العزة الحقيقية فيميلون للشيطان ويستقوون بأموال الصلبان ويتعرضون لعباد الرحمن في الإعلام والأزلام، لا يعرفون الأعز من الأذل بنص القرآن (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (المنافقون: 8)!!

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:: "الكرامة في لزوم الاستقامة، واللهُ تعالى لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه وهو طاعته وطاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال فيهم: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) الذين يحاربون الله في دينه وبلاده وعباده وأوليائه "لن يفلحوا إذن أبدًا".

ليس لهم كرامة، وليس عندعم شهامة، وسينالون عقابهم يوم القيامة، وسيندمون هناك يوم الحسرة والندامة!! (أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين) (الزمر).

إذا أراد الله إهانة إنسان فلن يجديه شرقي ولا غربي، ولن تنفعه أموال ولا أطيان، أما إذا إراد الله إكرام إنسان فإنه يكون عزيزا في جلوته وخلوته، في سجنه وحريته، في حركاته وسكناته، في ضعفه وقوته، في غناه وفقره، في يسره وعسره!!

ومن أمارات الهيّن على الله أَنْ يرفع الله عز وجل مهابته من قلوب الخلق، ويهون عليهم، ويستخفون به، كما هان عليه أمره واستخف به، فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس، وعلى قدر خوفه من الله يخافه الخلق، وعلى قدر تعظيمه لله وحرماته يعظمه الناس، وكيف ينتهك عبد حرمات الله، ويطمع أن لا ينتهك الناس حرماته أم كيف يهون عليه حق الله ولا يهونه الله على الناس؟ أم كيف يستخف بمعاصي الله ولا يستخف به الخلق؟ وقد أشار سبحانه إلى هذا في كتابه عند ذكر عقوبات الذنوب، وأنه أركس أربابها بما كسبوا، وغطى على قلوبهم، وطبع عليها بذنوبهم، وأنه نسيهم كما نسوه، وأهانهم كما أهانوا دينه، وضيعهم كما ضيعوا أمره، ولهذا قال تعالى في آية سجود المخلوقات له: (ومن يهن الله فما له من مكرم) [سورة الحج: 18]

ومنها: أَنَّ غيره من الناس والدواب يعود عليه شؤم ذنبه، فيحترق هو وغيره بشؤم الذنوب والظلم. فلا يكفيه عقاب ذنبه، حتى يلعنه من لا ذنب له.وكان أبو هريرة يقول: إن الْحُبَارَى لتموت في وكرها من ظلم الظالم. والْحُبَارَى نوع من الطيور، قال ذلك حين سمع رجلاَ يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه. وقالها مرة اخرى حين سمع آخر يقول: كل شاة معلقة برجلها.

ومنها أن يجعل الله صاحبَها من السِّفْلة بعد أن كان مُهَيًّأ لأن يكون من العِلْية. فإنّ الله خلق خلقَه قسمين: عِلية وسِفلة، وجعل أهل طاعته أكرمَ خلقه عليه، وأهلَ معصيته أهونَ خلقه عليه ، وجعل العزّة لهؤلاء ، والذلّة والصغار لهؤلاء. فكلّما عمل العبد معصيةً نزل إلى أسفل درجة، ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين. وكلّما عمل طاعة ارتفع بها درجة، ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلَين. وها هنا أمر وهو أنّ العبد قد ينزل نزولًا بعيدًا أبعدَ مما بين المشرق والمغرب ومما بين السماء والأرض، فلا يفي صعودُه ألفَ درجة بهذا النزول الواحد، كما في الصحيح : "إنّ العبد لَيتكلّم بالكلمة الواحدة، لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في النار أبعدَ مما بين المشرق والمغرب".فأيُّ صعود يوازي هذه النَّزْلَةَ؟

ومنها ما يقوله ابن القيم أن المعصية سببٌ لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه، قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم!. وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}! وإنْ عَظّمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم، أو خوفًا من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه.

إلى أن قال: وهو يتحدث عن بعض عقوبات المعاصي: "أن يرفع الله عز وجل مهابته من قلوب الخلق، ويهون عليهم، ويستخفون به، كما هان عليه أمر الله، واستخف به، فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس، وعلى قدر خوفه من الله يخافه الناس، وعلى قدر تعظيمه الله وحرماته يعظم الناس حرماته! وكيف ينتهك عبدٌ حرمات الله ويطمع أن لا ينهك الناس حرماته؟! أم كيف يهون عليه حق الله ولا يهونه الله على الناس؟! أم كيف يستخف بمعاصي الله ولا يستخف به الخلق؟!

ومنها أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف، وتكسوه أسماء الذم والصغار، فتسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن والمتقي والمطيع... ونحوها، وتكسوه اسم الفاجر والعاصي والمخالف والمسيء، وأمثالها فهذه أسماء الفسوق وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان التي توجب غضب الديان، ودخول النيران، وعيش الخزي والهوان، وتلك أسماء توجب رضى الرحمان، ودخول الجنان، وتوجب شرف المتسمي بها على سائر أنواع الإنسان، فلو لم يكن في عقوبة المعصية إلا استحقاق تلك الأسماء وموجباتها لكان في العقل ناهٍ عنها، ولو لم يكن في ثواب الطاعة إلا الفوز بتلك الأسماء وموجباتها؛ لكان في العقل أمرٌ بها ولكن لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع، ولا مقرب لمن باعد، ولا مبعد لمن قرب، ومن يهن الله فماله من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء".