المؤامرات صنعة عبد الناصر

يقول محمود أبو الفتح - السياسي والصحفي المصري -: إن عبد الناصر قد برع في المؤامرات براعة منقطعة النظير، وكان يدبر الحوادث ليصل منها إلى ما يريد، من ذلك تدبيره للمظاهرات التي تطالب بعدم رجوع الحياة النيابية أو الدستور، والمطالبة بحكم رجال الثورة، ومن ذلك أن عبد الناصر دبر بليل المظاهرات للمطالبة بذلك، وأصبح الصباح وانتشرت فرق من ضباط الحرس الوطني الذي شكله عبد الناصر في الطرقات يقودون مظاهرات متفرقة، وعقد ضباط من أنصار جمال اجتماعات رسموا فيها خطط الإخلال بالأمن، وإحداث فتنة يتمكن عن طريقها جمال من إلغاء القرارات الدستورية وفرض نظام دكتاتوري سافر، وألقي ضباط الحرس الوطني أربع قنابل انفجرت في أنحاء القاهرة، فأحدثت دويًّا هائلاً أفزع الناس وأدخل الرعب في النفوس.

والحرس الوطني كان عبارة عن تجمع لأعداد من الشباب يرأسهم ويشرف على تكوينهم أحد أعضاء مجلس القيادة.

وخصصت الحكومة قطارات وسيارات من سيارات الجيش لنقل أعضاء الحرس الوطني من الأقاليم وجمعهم في القاهرة لتنفيذ المؤامرات.

وقد ظلت القاهرة دون حكومة، وقد سيطر الرعب وانتشر أعضاء الحرس الوطني يعتدون على الأهالي ويفجرون القنابل، ونجيب في خطر الاغتيال. وكانت تجمعات أفراد الحرس الوطني قد وصلت إلى مدينة القاهرة، وفي تلك الليالي أي مساء يوم 26 من مارس كانت فرق الحرس الوطني تتلقى التعليمات بالأعمال التي يناط بكل فرقة من هذه الفرق أن تقوم بها.

ولم ينم جمال ورجاله طوال الليل، بل كانوا يتصلون ببعض زعماء العمال ويصدرون إليهم تعليماتهم ويوزعون عليهم المال ببذخ شديد.

ونشط أعضاء هيئة التحرير.

ولم ينم الناس طوال الليل فقد بات كل إنسان يشعر أن حياته في خطر وأنه مهدد بأن يهاجمه في منزله بعض رجال الحرس الفاشتي أعوان عبد الناصر.

وتفاصيل ما حدث يوم السبت 27 من مارس أن عمال الأوتوبيس والترام كانوا قد حددوا هذا اليوم للقيام بإضراب، معلنين بذلك احتجاجهم على عدم إجابة الشركة لمطالبهم، فانتهز جمال ذلك اليوم لتنفيذ مؤامرته، وفي الصباح الباكر وزع أنصار جمال منشورات تقول: إن إضراب عمال النقل قد قام احتجاجا على إعادة الدستور، وأن العمال قرروا:

ا - عدم السماح بقيام الأحزاب.

2 - استمرار مجلس قيادة الثورة في مباشرة سلطاته.

3-تأليف جمعية وطنية استشارية.

4 - عدم الدخول في المعارك الانتخابية.

وانتشرت في البلد سيارات الجيش تمنع سائقي الأجرة "التاكسيات" من العمل وتلزمهم بالإضراب.

ومن الصباح الباكر ذهبت قوات الجيش لمخازن الترام والأوتوبيس ومنعت خروج مركبات الترام وعربات النقل "الأوتوبيس" بعد أن تبين لعبد الناصر أن العمال قد عدلوا عن إضرابهم حتى لا يستغله عبد الناصر في تحقيق أطماعه السياسية.

ومرت سيارات الجيش على المحال التجارية تأمرهم بغلق حوانيتهم وتنذرهم بأن الحكومة غير مسؤولة عما سيقع للحوانيت التي تفتح أبوابها.

وهكذا أقبل الصباح على مدينة القاهرة وقد لفها صمت رهيب لا صوت فيها ولا حركة، والمحال مغلقة والحزن يخيم على المدينة، وأصبحت القاهرة بلدا هجره سكانه وفرد الموت جناحيه عليه.

وبعد فترة أخذت بعض المظاهرات تطوف أرجاء القاهرة. مظاهرات تنتقل بسيارات الجيش اسري وفي كل سيارة عدد من شباب الحرس الوطني وبعض الأهالي. ومرت إحدى السيارات أمام فندق سميراميس فهب الناس إلى النوافذ والشرفات يسمعون ما تردده هذه المظاهرات من هتافات، ولم يصدق الناس ما يسمعون فأعادوا الإنصات فإذا بها نفس الهتافات، هتافات لم يهتف بها من قبل بشر:”تسقط الحرية.. تسقط الديمقراطية.. يسقط البرلمان.. يسقط المتعلمون”.

كانت الهتافات تردد بحماية الضباط ورقابة الحرس الوطني: "يسقط المتعلمون. تسقط الحرية".

ومرت القوات الحربية على جميع محطات بيع البنزين فأغلقتها وعلى دواوين الحكومة ومنعت الموظفين الذين حضروا سيرا على الأقدام من دخولها، وخلت الشوارع إلا من سيارات الجيش التي حملت المرتزقة من أعضاء هيئة التحرير ومنظمات الشباب والحرس الوطني.

واتجهت المظاهرات إلى دار جريدة المصري وأخذت تهتف قائلة: "تسقط المصري". ثم هتفت: "يسقط أحمد أبو الفتح الخائن.. وأخذت تلقي الحجارة على مبنى الدار وهشمت بعض الألواح الزجاجية، ثم تصدى لها الأهالي ففرت ثم عادت تقذف الناس بالحجارة وأخذت تهتف: بسقوط الدستور.. وسقوط المتعلمين.. وسقوط الحرية. وذهبت قوات أخرى من الجيش إلى محطة مصر وأوقفت القطارات عن السير وأمرت القطارات التي كانت قد بدأت سيرها بالوقوف وأمرت بإغلاق جميع المزلقانات كي تتعطل حركة القطارات.

وأخذت محطة الإذاعة التي يشرف عليها الصاغ صلاح سالم تردد من الصباح الباكر أنباء مختلفة وبيانات كاذبة مضللة تدعي أن النقابات أرسلت احتجاجا على قرارات 5وه 2 من مارس وتطالب فيها باستمرار مجلس الثورة في الحكم وعدم إجراء انتخابات.

وقد أرسلت هذه "النقابات" برقيات إلى محطة الإذاعة وإلى جميع دور الصحف وإلي الرئيس نجيب تحتج فيها على البيانات المختلفة التي تنسبها لها محطة الإذاعة، وتؤكد نصرتها للرئيس نجيب وتمسكها بقرارات مارس، ولكن محطة الإذاعة لم تعر هذه البرقيات أي اهتمام!، بل راحت تكرس جهودها في تشجيع الإضراب والترويج له، وإذاعة البيانات الكاذبة المختلفة.

ورغم ذلك استمرت المظاهرات تجوب طوال النهار وجزءا كبيرا من الليل أرجاء القاهرة في سيارات الجيش تهتف بسقوط الحرية وسقوط الدستور وسقوط المتعلمين.. وسقوط.. وسقوط.. وفي الساعة الثانية عشرة من مساء هذا اليوم المشؤوم 28 من مارس أبلغ نجيب بأن حياته باتت يخشى عليها وأن المؤامرة قد أحكمت لاغتياله هذه الليلة، فخرج من داره مسرعا، وذهب إلى قصر الطاهرة حيث في للملك سعود، وفي ساعة متأخرة من الليل استدعي الملك سعود البكباشي جمال عبد الناصر وطلب منه تأمين حياة نجيب فأبدي جمال لطفا وتوددا لنجيب، وقال إنه لا يمكن أن يسمح بالاعتداء على حياته، وأنه لا ينسئ الأيام التي اشتركا فيها في العمل سويا، وهكذا بحديث ناعم وكلام معسولي راح جمال يسأل: "لماذا تتمسك بإعادة الدستور؟"، وقال نجيب: "إن كل البلد تتمسك بالدستور"، فقال جمال: "أبدا.. إن البلد لا تريد الدستور".

ثم واصل حديثه قائلا: "إننا نريد أن نصفي كل أسباب الخلاف معك، ولن يكون ذلك إلا بعد أن يكشف كل واحد منا ورقه للآخر ويفتح قلبه، وأنا أريد أن أعه لم من الذي يحبذ عودة الدستور، وانطلت الحيلة، فقال: "كل رجال البلد الكبار عاوزين الدستور"، فقال جمال: "مثل من ؟" فقال نجيب: "السنهوري، وهو رجل عاقل". وفي صباح يوم 29 من مارس انتشرت المظاهرات مرة أخري تجوب القاهرة بواسطة سيارات الجيش تواصل هتافاتها المشينة، وكان السنهوري في مجلس الدولة ففوجئ بوصول ضابط شاب عليه في مكتبه يقول له: "إن مظاهرة قادمة صوب مجلس الدولة، وأرى أن تخرج إلى المتظاهرين تخطب فيهم لتهدئهم”، فقال الدكتور عبدالرزاق السنهوري: "أنا أخطب في المتظاهرين، ليس من المعقول – وأنت ضابط أن تلجأ إلي أنا لأهدئ المتظاهرين – وبإمكانك باستعمال التليفون أن تستحضر قوة تفرق المظاهرات وتحمي المجلس من أي مظاهرة".

ولكن الضابط جادل السنهوري، وكانت في هذه اللحظة قد وصلت المظاهرة إلى فناء مجلس الدولة، فدفع الضابط السنهوري دفعا وطلب منه أن يخطب في المتظاهرين وحاول السنهوري الإفلات من يد الضابط، فما كان منه إلا أن أخرج مسدسه وأطلق طلقتين في الهواء.

ويبدو أن هذه كانت الإشارة التي اتفق عليها لبدء الهجوم ولتحديد شخصية السنهوري للمتظاهرين الذين كانوا جميعا من الدهماء الذين لا يعرفونه من قبل، إذ هجم المتظاهرون فجأة على الرجل وانهالوا عليه ضربا، وتطاير دم السنهوري وعلق بحائط المبني تسجيلا للجرم الفظيع، ورغم تألم الرجل وتوجعه لم يرحمه المتظاهرون بل بروه! نزلوا به إلى فناء المجلس.

وبعد هذا الاعتداء الوحشي على أكبر حصن للعدالة في مصر وعلى أكبر شخصية قضائية، وأعلم علماء القانون توجه الصاغ صلاح سالم إلى المجلس، وادعى أنه ذهب ليحمي السنهوري وقال: لولا حضوره لأجهز المتظاهرون عليه، والمفهوم أنه ذهب ليمتع نظره، ويشفي حقده بما أصاب الرجل الذي تجرأ على تحريض محمد نجيب على المطالبة بالدستور.

مؤامرة تفجير القاهرة

ثم يقول أحمد أبو الفتح - وهو من الشاهدين على عصر عبد الناصر وأحد أصدقائه -: وقام عبد الناصر بعد هذه المظاهرات بإلقاء القنابل في القاهرة، وأوحي إلى بعض كتاب صحفه أن يردوا على المطالبين بالحريات بأن البلد بهذا ليست آمنة، فما معنى المطالبة بالحريات؟ وضحكت عند قراءة هذا الرد للسيد المكافح لأنه كان قد شاع وعرف أن جمال عبد الناصر هو الذي دبر أمر تفجير القنابل واعترف لزملائه بذلك، وأنه طلب تفجيرها جميعا في وقت واحد كي يسيطر الرعب على الناس ويطالبون ببقاء حكم حركة الجيش.

وكانت جريدة المصري خلال شهر مارس تنشر تحذيرات للشعب في صفحاتها المختلفة مثل ذلك الذي نشرته يوم 27 مارس، إذ قالت: من المصري إلى الشعب المصري: احذر أيها الشعب العظيم ما قد يدبر لك في هذه الأيام من مؤامرة لدفعك إلى القيام بأعمال شغب”.

مؤامرة حرق جريدة المصري

بقي أن أضيف أن الدكتور صليب بطرس - مدير المصري - الذي كان أحد العمد الرئيسة التي ارتكز عليها المصري في نجاحه ووصوله إلى أن يصبح أوسع جرائد مصر انتشارا فوجئ ذات يوم بأحد عمال ورشة الجمع بالجريدة يدخل عليه مكتبه ويخرج من جيبه ورقة بمائة جنيه ثم ينفرط في البكاء.

يقول العامل أن بعض الضباط قابلوه بعد انصرافه من عمله وأركبوه سيارة جيش ثم راودوه أن يحرق مبني المصري وأعطوه هذه الورقة ذات المائة جنيه كمكافأة ابتدائية وأنه خاف أن يرفض فيعتقلوه.

طلب من الدكتور صليب أن يأخذ المائة جنيه وأن يسمح له بإجازة ليختفي عن الأعين، وأخذ منه الورقة وكتب عليها التاريخ ووضعها في خزينه الجريدة، ثم أخرج منها مائة جنيه أخرى وأعطاها للعامل مكافأة له ومنحه إجازة مفتوحة.

وهذه الواقعة حدثت خلال شهر مارس سنة 1954 م.

ثم يقول أحمد أبوالفتح: إن عبد الناصر كان يملك كل مقومات المتآمر، فهو كتوم بصورة نادرة حقود، استطاع أن يتخلص من زملائه: من رشاد مهنا، ومن محمد نجيب ومن زملائه حتى أخلص الناس إليه عبد الحكيم عامر الذي مات مسموما، واستطاع أن يمكر بقادة مصر وأصحاب النفوذ فيها بعد قتل الحريات وإنشاء محاكم القهر من أمثال محكمة الغدر والجنايات، ومحكمة الثورة، ومحكمة الشعب، والمحاكم العسكرية، كما أنه كان من صفاته انعدام العواطف، وقساوة القلب، وانتهاز الفرص، وما ترك عبد الناصر شيئا إلا وتآمر عليه، حتى جيش مصر الذي كان يهلكه ويشغله في حروب دائمة لا ناقة له فيها ولا جمل، في الكنغو، وفي اليمن، وفي سيناء بغير استعداد، وتآمر على الأغنياء فشردهم وأفقرهم، وبدد أموالهم.. إلخ.

هذا هو عبد الناصر الذي تآمر ودبر حادث المنشية ليتخلص من أشرف وأنبل من في مصر وهم الإخوان المسلمون.