توطئة:

عاشت الأمة الإسلامية في كنف الخلافة فترة من الزمن ما بين القوة والضعف، حتى تكالب عليه الغرب متعاونًا مع بعض الخونة في البلاد الإسلامية حتى تمكن من بث روح الفرقة بين الجميع قبل أن يبسط نفوذه على الدول الاستراتيجية فيها، ممنيًا بعض هؤلاء الخونة بحكم البلاد والانسلاخ عن دولة الخلافة العثمانية – التي كانت في أضعف حالاتها – مقابل التبعية الكاملة لسياسات واستراتيجيات الدول الغربية التي كانت قوتها ونهضتها العسكرية قد بلغت أوجها في ذلك الوقت، في حين ظل العالم الإسلامي يرزخ في بحار الجهل والتخلف.

استغلت بعض القبائل القوية ضعف الخلافة العثمانية وسعت للفوز بأجزاء من الأراضي الواقعة تحت سيطرتها، واشتبكت مع العديد من القبائل الأخرى لبسط نفوذها على ما تحت أيديها من أراض، هذا غير بعض الجيوش القوية التي اقطعت بلادها من جسد الخلافة مثل مصر.

كانت الجزيرة العربية هي ساحة للصراعات القبلية في محاولة بعض القبائل للسيطرة الكاملة على جموع الأراضي ومنها آل سعود الذين سعوا أكثر من مرة لتحقيق هذا الحلم غير أنه فشل مرتين متتاليتين إلا أنه تحقق على يد عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود والذي تمكن من الاستيلاء على مدينة الرياض ليؤسس المملكة العربية السعودية (الدولة السعودية الثالثة)، في 5 شوال 1319هـ - 15 يناير 1902م، وذلك قبل أن يبدأ في توحيد جميع المناطق الواقعة تحت نفوذ آل رشيد وذلك بالتعاون مع آل الشيخ والدعوة الوهابية التي تلاقت رؤيتها مع منهجية عبدالعزيز في تأسيس الدولة السعودية الثالثة.

كانت بريطانيا في ذلك الوقت قد بسطت نفوذها على العديد من الدول والأماكن الاستراتيجية والحيوية سواء على البحار أو الغنية بالثروات الطبيعية، لكنها لم تجازف بالسيطرة على الحجاز لوعورتها ولفقرها، ولقدسية الحرمين بها، ولعدم ظهور البترول في بداية عهدها، لكنها كانت ضد الدولة العثمانية التي ناصرت آل رشيد ضد عبدالعزيز بن سعود، فاستجابت لطلب عبدالعزيز العون منهم عام 1904م عن طريق الميجر بيرسي كوكس، وفي 1932م أعلن عن قيام المملكة العربية السعودية وعاصمتها الرياض.

وفي الوقت الذي كان يتصارع فيه عبدالعزيز آل سعود في تكوين مملكته في الحجاز، كانت تجرى على الساحة العديد من الأحداث مثل سقوط الخلافة الإسلامية، واندلاع ثورة في مصر عام 1919م، ونشأة جماعة الإخوان المسلمين عام 1928م والتي وضعت في أول أهدافها النهوض بالوطن الإسلامي والعمل على التصدي وإخراج المحتل منه.

وزادت وتيرة الاتهامات في السنوات الأخيرة، خاصة من السعودية والإمارات وأنصار الانقلاب العسكري في مصر تجاه الإخوان المسلمين، محاولين إلصاق تهمة أن الإخوان صنيعة الغرب، مع العلم أنهم لم يستطيعوا أن يقدموا دليلاً دامغًا إلا بعض كتاباتهم، أو من زيف حقائق التاريخ، وذلك في محاولة لإظهار أنهم ورثوا ما فيه كابر عن كابر، وأنهم من بداية دولتهم – سواء السعودية أو الإمارات – وهم أهل علم وتقدم وأنهم من صنعوا دولتهم لا غيرهم.

اهتمام الإمام البنا بالسعودية

لم تنحصر دعوة الإخوان في نطاق مكاني أو زماني، لكنها اعتبرت نفسها دعوة عالمية لا حدود لها، ولذا وجدت لها قواسم وأرضية مشتركة في العديد من الدول العربية والإسلامية ومنها الدولة السعودية الناشئة.

تأسست الدولة السعودية على قاعدتين وهما القاعدة الدينية – منهج محمد بن عبدالوهاب - وقاعدة الحكم – الملك عبدالعزيز – حيث سعى الملك إلى النهوض بدولته الناشئة ومحاولته وضعها على الخريطة الإقليمية – خاصة بعدما تدفق البترول عبر أراضيه.

بدأت علاقة الإخوان بالمملكة السعودية مع بداية نشأة جماعة الإخوان حينما اتصل الأستاذ محب الدين الخطيب بالشيخ حسن البنا عارضا عليه السفر للعمل كمدرس منتدب في المعاهد السعودية، فوافق الشيخ البنا، وحينما قابل الشيخ حافظ وهبة – مستشار الملك عبدالعزيز - كان طلبه الأساسي من العمل في السعودية

ما جاء على لسانه: ألا أعتبر موظفًا يتلقى مجرد تعليمات لتنفيذها، بل صاحب فكرة يعمل على أن تجد مجالها الصالح في دولة ناشئة، هي أمل من آمال الإسلام والمسلمين، شعارها العمل بكتاب الله وسنة رسوله وتحري سيرة السلف الصالح، وأما ما عدا ذلك من حيث المرتبات والامتيازات المادية وما إليها فلم أجعله موضع حديث فيما بيننا. وكاد الأمر يتم لولا عدم اعتراف مصر بدولة السعودية الناشئة في بدايتها كان عائقا أمام انتقال الشيخ البنا للعمل بالسعودية.

وحينما بدأت الجماعة في الانتشار في القطر المصري، وأصبح يتردد اسمها على ألسنة الناس في الداخل والخارج، وعلى شأنها، أصبحت للشيخ البنا علاقات دبلوماسية مع كبار رجال الدولة في مصر وخارجها، ومنها زيارته هو والشيخ مصطفى الطير الحديدي – وكيل مكتب الإرشاد - والأستاذ فتح الله درويش أفندي والأستاذ أسعد أفندي راجح – عضوي مكتب الإرشاد – سعادة السيد عباس القطان محافظ المدينة المنورة بمناسبة نجاح العملية التي أجراها له في مصر في إحدى عينيه الطبيب محمد بك صبحي، حيث تحدثوا عن شئون الحجاز والمسلمين عامة، ثم استأذنوا من سعادته فودعهم إلى سلم الفندق شاكرًا للإخوان المسلمين على حفاوتهم به، ووعد أن يرد الزيارة لهم في مكتبهم العام بشارع سوق السلاح، كما قام الإخوان بتقديم المساعدات المادية للمستغيثين من المسلمين، من ذلك تأليف لجان لجمع التبرعات من المساجد والمصالح الحكومية لأهل المدينة المنورة حينما شعروا بحاجتهم إلى المال.

بل عمد الشيخ محمد شكر الزيني بالمدينة المنورة بافتتح مدرسة للتعليم "مجانًا" وجعل برنامجها كبرنامج معاهد حراء التابعة لجمعيات الإخوان المسلمين، وقد أرسل يطلب إلى الإخوان إرسال برامج الدراسة واللائحة، والقانون .. إلخ، ويخبرهم أنه كون مجلس إدارة يعاونه فيه صديقه حسين أفندي عزي المحامي بشارع الساحة بالمدينة يقوم على نشر تلك المبادئ والأهداف التي تبناها الإخوان.

حرص الإمام البنا على تشكيل وفد منهم للذهاب كل عام لموسم الحج رافعين راية الإخوان، ومعلنين عن أفكارهم ووسائلهم في الدعوة، ولقد استفاد الإخوان من مواسم الحج في التعرف على الوفود الإسلامية القادمة من كل أنحاء العالم الإسلامي ونشر الدعوة بينهم.

تعددت رحلات الشيخ البنا والإخوان إلى الحج في أعوام 1936 حتى عام 1948م حيث حرصوا على تدعيم أواصر الصلة مع الشعوب الإسلامية، والتعريف بفكرتهم ومنهجهم. وقد لقى الشيخ البنا والإخوان الكثير من الترحيب من الملك عبدالعزيز وأمراءه، حيث ذكرت صحيفة أم القرى – الصحيفة السعودية الرسمية آنذاك – مظاهر هذه الحفاوة أثناء الزيارات التي قام بها الشيخ البنا للسعودية.

وحينما نشب الخلاف بين الحجاز والعراق على الحدود كتب الإخوان في صحفهم يستحثوا الجانبين على نبذ الخلاف أو تحكيم طرف ثالث بينهما وهو ما حدث بالفعل حينما اختاروا مصر لتكون حكما بينهما وتم التوافق بين الجانبين. كما أشاد الإخوان بجهود المملكة السعودية في التواصل مع أشقائها العرب عن طريق إنشاء دائرة لاسلكي بينهم، وأيضا إنشاء صندوق توفير للعمال والطبقات المتوسطة، وإنشاء مشروعات للإنارة والطرق والمياه.

ظل الوضع كذلك حتى وقعت أحداث اليمن والانقلاب على الإمام يحيى بن حميد الدين والتي أدت لمقتله، والاتهامات التي ألصقت بالإخوان من أنهم يقفون خلف هذه الأحداث، وسعى الملك عبدالعزيز – ملك السعودية – لمساعدة نجل الإمام يحيى لاستعادة زمام الأمور وتعديل الأوضاع لسابق عهده وهو ما تم فعلا، حيث استطاع بمعاونة سعودية من اجهاض الانقلاب الذي جرى ومحاكمة من قاموا به، واستعادة الإمامة مرة أخرى.

جهود الإخوان في النهضة العلمية للسعودية

تسارعت وتيرة الأحداث فوقعت حرب فلسطين عام 1948م حيث شارك فيها الإخوان بكتائبهم كما شارك فيها العديد من الجيوش العربية والتي انتهت في النهاية لصالح الصهاينة واعتراف بعض الدول بهم، بل وحصار الجيش في الفالوجا

مما زاد من السخط الشعبي على الحكومات والتي مأن انتهت حرب القنال في مصر عام 1951م حتى تحرك الجيش ليعزل الملك فاروق ويطرده خارج البلاد لتدخل مصر في معترك جديد من العلاقة مع أشقائها العرب عامة والدول الملكية خاصة، حيث حرص عبد الناصر على تفكيك هذه الممالك، وهو ما أدى لكثير من التجاذب بينه وبين العديد من الدول ومنها السعودية، خاصة مع بدايات حرب اليمن.

لم تكد الأيام تمر على نجاح ثورة يوليو 1952م حتى دب الخلاف بين قادة المجلس العسكري وكل شركاء الثورة وعلى رأسهم الإخوان، حيث فتحوا الحرب على جميع الجبهات المدنية سواء من شاركهم الثورة أو من وقف ضدهم، وذلك في سبيل تدعيم سلطتهم التي حصلوا عليها بقوة الساعد والسلاح، حيث استفادوا من الفرقة التي وقعت بين القوى المدنية بعضها بعضًا.

فأصدروا قرارا بحل الأحزاب في 16 يناير من عام 1953م قبل أن يلحقوا بهم قرارا أخر بحل جماعة الإخوان المسلمين في 14 يناير من عام 1954م ليصبح الملعب فارغا أمام القوى العسكرية التي سيطرت على مقاليد الحكم والتي دخلت في صراع علني بينها وبين بعضها انتهى في نهاية المطاف بانتصار عبد الناصر وفريقه، وتمكنهم من حكم البلاد.

وهو ما أعطاه الفرصة ليوجه ضربات قوية لقواعد الإخوان وقمة هرمهم في محاولة للإجهاز عليها وذلك بعد أحداث حادثة المنشية التي جرت أحداثها يوم 25 أكتوبر من عام 1954م ليلقى بالكثير من اعضائها في آتون السجون، ويلجأ العديد غيرهم للهرب خارج البلاد في محاولة لاستنقاذ نفسه من موجات الاضطهاد التي يمارسها عبد الناصر ضد الإخوان.

فبعد نشوب ثورة اليمن 1962، بدأت السعودية في دعم النظام الملكي في مواجهة الجمهوريين الذين كان يدعمهم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، حيث لم يتوقف دعم عبد الناصر للثورة في اليمن على الدعم اللوجستي فقط وإنما أيضًا قام بإرسال ما يقارب 70 ألف جندي مصري لدعم الجمهوريين في اليمن.

حتى إن عبد الناصر صرح أمام الجموع في 23 ديسمبر 1962م - بعد أن ذكر عدد من قتل من الضباط والجنود المصريين على أرض اليمن – بقوله: كل واحد فيهم – يقصد الضباط الشهداء – جزمته أشرف من تاج الملك سعود والملك حسين، حيث ضجت القاعة بالتصفيق... وهو ما زال من التوتر بين البلدين.

بعد نكسة 1967 في القمة العربية بالخرطوم، أعلن ناصر عن استعداد مصر سحب قواتها من اليمن، وساعدت السعودية في نقل القوات المصرية من اليمن، وعلى إثر ذلك توجه الملك فيصل بنداء للعرب بضرورة الوقوف إلى جانب مصر.

وعلى الرغم من ذلك لم يفتح السعودية أراضيها للفارين من الإخوان أو قامت بنشر كتب سيد قطب نكاية في عبد الناصر على مواقفه نحو المملكة لكنها كانت انطلاقا من سياسة الملك فيصل نحو الحركات الإسلامية المعتدلة، حيث نظر لسيد قطب على كونه واحد من المفكرين المؤثرين في الحياة الفكرية لدى الكثيرين.

بالإضافة كانت السعودية تواجه الفكر السلفي التقليدي والذي كان كثيرا ما يعرقل سياستها، مما دفعها لفتح الباب للفكر الإخواني المعتدل والذي كان يتعامل بفقه الواقع والموازنات، بالإضافة لرغبة السعودية في إحداث نهضة تعليمية في البلاد وهى ما لمسته في الكثيرين ممن فروا إليه من الإخوان.

يقول خالد عباس طاشكندي – مساعد رئيس تحرير جريدة عكاظ – جاء الإخوان إلى السعودية في عهدي الملك سعود والملك فيصل، وتم قبول وجودهم في ظل الظروف السياسية والخلافات التي أحدثتها النزعة القومية والنظام الاشتراكي في مصر خلال تلك الحقبة، ولم يكن هناك عائق أمام استقبال المنتمين للجماعة بشرط أن لا يمس أي منهم بالهوية الدينية والسيادة الاجتماعية، وتم استقطابهم بكثرة في عهد الملك فيصل للعمل بالمؤسسات التعليمية في السعودية، وكذلك تم إعطاء بعض الكفاءات مناصب تعليمية.

وازدادت الهوة اتساعا بين الإخوان والسلطات المصرية بعد تنفيذ حكم الإعدام على منظر الجماعة سيد قطب، الذي كانت سببا في هروب المزيد من أعضاء الجماعة إلى المملكة، ومنح بعضهم الجنسية السعودية، ومن أبرزهم مناع القطان الذي كان أحد قيادات التنظيم في المنوفية بمصر قبل أن يهاجر إلى السعودية عام 1953، ووصف في عدة مراجع بأنه الأب الروحي وأهم قيادات الإخوان في المملكة.

ويضيف: وعلى الرغم من الانتشار السريع لجماعة الإخوان في إدارات وزارة المعارف والتعليم العالي وفي مجال التدريس في مؤسسات التعليم السعودية بكافة درجاتها، إلا أن كتب سيد قطب وحسن البنا، لم تدرس فعليا في المدارس الرسمية السعودية ولم تطبعها وزارة المعارف السعودية، إلا حين تولى الدكتور كمال الهلباوي القيادي الإخواني السابق والمتحدث باسم التنظيم الدولي منصب "رئيس لجنة مستشاري بناء المناهج المدرسية في وزارة المعارف السعودية" على مدى خمس سنوات ما بين عام 1982 وحتى عام 1987، وخلال تلك الفترة تم إدخال هذه الكتب بشكل رسمي للمدارس السعودية، ومن بينها "العقيدة الإسلامية" و"الوصايا العشر" لحسن البنا و"معالم في الطريق" لسيد قطب، "الإنسان بين المادية والإسلام" لمحمد قطب، وكتاب "الجهاد في سبيل الله" لأبو الأعلى المودودي وحسن البنا وسيد قطب، و"قبسات من الرسول" لمحمد قطب.

الإخوان والجامعات السعودية

كان للإخوان دور كبير أيضا في الجامعات حيث سمح لهم النظام السعودي بالتدريس في الجامعة الإسلامية بالمدينة والمنورة وجامعتي الملك عبدالعزيز وأم القرى وغيرهما، وكان ذلك بعلم السلطات السعودية التي شجعتهم على ذلك، والذي لم يعجب النظام السعودي الحالي ولا أقلامه وإعلامه وأنصاره من العلمانيين، الذين يحاولون أن يصوروا المشهد على أنه اختطاف وتغلغل من الإخوان وفكرهم في غفلة من السلطات السعودية في السبعينيات والثمانينيات حتى اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011م.

لكن الهجوم الواقع الان من السلطة السعودية وأذنابها هو لتخوف السلطة والعلمانيين من أسلمة الإخوان للمجتمعات العربية والإسلامية بالطابع الإسلامي الحقيقي، وهو ما ذكره قائد الانقلاب في مصر عبدالفتاح السيسي، ويذكر الباحث يوسف الديني في كتب مركز المسبار الإماراتي بقوله: "عرفت الجامعات السعودية أسماء لامعة من التيارات السلفية التقليدية كالشيخ محمد ناصر الدين الألباني وغيره، إلا أن دور هؤلاء كان مقتصرا على الفعالية العلمية والتدريس فيما يخص العلوم الإسلامية، مع بزوغ ثورة العودة إلى الحديث ونبذ التمذهب بعيداً عن الشمولية التي طرحها الإخوان، والتي انتقلت من العلوم الإسلامية والأنشطة الدعوية إلى مشروع أكبر، وهو أسلمة العلوم بمعناها العام". فالخوف من الإخوان هو خوفهم من أسلمة الإخوان للعلوم بمعناها العام.

لقد سافر الإخوان إلى السعودية إما هربا من طغيان عبد الناصر، أو اتماما لمشروعهم، أو دعما للعمل الاسلامي في وجه التيارات المتدفقة على المنطقية العربية سواء الشيوعية أو العلمانية، ويلخص عبدالله بن بجاد العتيبي دور الإخوان في النهضة السعودية بقوله: سعي المملكة لمواجهة المد الناصري الثوري خصوصا أن عبد الناصر ناصب الملكيات العربية العداء، وكان يصمها بالرجعية، وسعى إلى الإطاحة بها، ونجح مسعاه في ليبيا واليمن، وضربت طائراته المناطق الجنوبية في السعودية في عسير وجيزان، فتبنت السعودية دعم التضامن الإسلامي في وجه المد الناصري. وكان أقوى خصوم عبد الناصر في الداخل حينها هم جماعة الإخوان المسلمين، فكان استقطاب "الإخوان" على مبدأ سياسي هو عدو عدوي صديقي.

سعي المملكة إلى تطوير الخطاب الديني المحلي، بعد الممانعة المستمرة من قبل قادة هذا الخطاب لأغلب قرارات تطوير الدولة وتحديثها، وكان "الإخوان المسلمون" يقدمون حلولا إسلامية وبحوثا شرعية معمقة لتمرير مشاريع الدولة التي أعاقها الخطاب التقليدي.

ما واجهته السعودية من تحديات داخلية والتي أشارت إلى تنامي خطاب التطرف داخل الخطاب التقليدي. وكذلك قيام تنظيمات حزبية ثورية منها القومي ومنها البعثي ومنها الشيوعي، تبنت معارضة النظام بصراحة ووضوح، وانتشر بعضها بين العمال وبين طلبة الجامعات، وكان أفضل من يقوم بمواجهتهم حينذاك جماعة الإخوان المسلمين، نظرا لخبرتها بأطروحاتهم ومقدرتها على مقارعة حججهم بحجج دينية، وهي تجربة لم تنفرد بها السعودية، بل استخدمتها أغلب الدول العربية في مواجهة المد اليساري.

بل كان الإخوان أول من طالبوا بتعليم الفتاة في السعودية وإعطائها حقها وهو ما جاء على لسان السيدة زينب الغزالي بقولها: "في ليلة من ليالي ذي الحجة كنت على موعد بعد صلاة العشاء مع فضيلة المرحوم الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم المفتي الأكبر للمملكة العربية السعودية حينذاك... وكنا نبحث معا مذكرة قدمتها لجلالة الملك أشرح له فيها ضرورة تعليم البنات في المملكة، وأطلب منه الإسراع في تنفيذ هذا المشروع، مبينة مصلحة المملكة في ذلك، وحولت المذكرة على فضيلة المفتي وطلب مقابلتي".

ويذكر الشيخ سعيد حوى أنه كان "حريصا على ألا يحدث تغيير في السعودية لأن التغيير سيجعل مكة والمدينة وأرض العرب في مخاطر مجهولة، كتبت تحليلا حول الوضع في السعودية، وبنيت عليه بعض الاقتراحات، وقد وصل التحليل إلى الملك فيصل رحمه الله، وكانت له آثار طيبة في نفسه كما نقل لي، وتجاوب مع بعض المقترحات، وبعض هذه المقترحات أصبحت الآن واقعا في السعودية".

زاد نشاط الإخوان في السعودية بشكل واضح في فترة حكم الملك فيصل بن عبد العزيز ملك السعودية في الفترة بين (1964 - 1975) خاصة حينما استقر كل من الشيخ مناع خليل القطان، والشيخ عشماوي سليمان، ومصطفى العالم وعبد العظيم لقمة وغيرهم في السعودية.

كان نشاط الشيخ مناع والإخوان أوضح خاصة في المجالات التعليمية حيث حرصوا على تطوير المناهج التعليمية في العديد من مراحل التعليم، بالإضافة لتبؤه العديد من المناصب العلمية الكبيرة ومنها مديراً للدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود، ورئاسة اللجنة العلمية لكلية البنات، وإشرافه على مواد التشريع الإسلامية بكلية قوى الأمن الداخلية، بالإضافة لعضويته في مجلس الإدارة لمدارس الرياض وهو المكان الذي استطاع من خلال وضع المناهج الدراسية في المملكة.

كما اختير كذلك عضوًا في اللجنة الفرعية للتعليم بالمملكة العربية السعودية، عندما صدر الأمر الملكي بتشكيلها، لوضع السياسة التعليمية على الأسس التي تتطلبها منزلة المملكة في العالم الإسلامي. ومن مهام هذه اللجنة النظر في مناهج التعليم بمراحله المختلفة، وصياغتها صياغة جديدة تنبثق من السياسة التعليمية العليا، وتراعي أحدث النظريات والأساليب التربوية، وقد اختارته هذه اللجنة الفرعية للتعليم مقررا لها.

حتى إن الدكتور عبدالله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ وزير العدل السعودي ذكره بقوله: "لقد تتلمذت على الشيخ مناع القطان في المعهد العلمي، وفي كلية الشريعة، وقد كان له أكبر الأثر في نفوسنا، عندما كنا طلاباً للعلم، وقد غرس فضيلة الشيخ القطان في قلوبنا حب الخير والمعرفة والاطلاع والسعي دائما بحثا عن العلم"، كما قال عنه مفتي عام المملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ: "إن الشيخ مناع القطان داعية إسلامي معروف، وقد درست عليه مادة التفسير عندما كنت طالباً في جامعة الإمام محمد بن سعود لعامين في السنتين الثالثة والرابعة، وكان يرحمه الله من الدعاة المعروفين، وله عناية كبيرة بتفسير القرآن.
---------------
المراجع:

فؤاد شاكر، الملك عبد العزيز سيرة لا تاريخ، طـ2 ، مطبعة مباركو للطباعة ، جدة، 1409هـ - وعبدالله حسين، الملك عبد العزيز آل سعود والمملكة العربية السعودية، مطبعة التوفيق، 1947م.
أنور الجندي: تاريخ الصحافة الإسلامية، توزيع دار الأنصار، القاهرة.
مقال بعنوان (في مناهج التعليم): جريدة الإخوان المسلمين الثلاثينيات، العدد 11، السنة الثالثة، الثلاثاء 24 ربيع الأول 1354هـ - 25 يونيو 1935م.
رسالة إلى أي شيء ندعو الناس: مجلة الإخوان المسلمين، العدد 11، السنة الثانية، 7 ربيع الثاني 1353ه - 20 يوليو 1934م، صـ3.
جهود الإخوان في إصلاح التعليم قبل الجامعي
حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 2000م، صـ89.
جريدة الإخوان المسلمين: السنة الثانية، أول محرم 1354هـ - 4 أبريل 1935م.
جريدة أم القرى، الجمعة 19 ذو الحجة 1354ه- 14 مارس 1936م،
مجلة التعارف: العدد (3) و(11) لعام 1359هـ، 1940م، صـ 5، 7.
جريدة النذير، العدد (7)، السنة الأولى، 13 جمادى الأولى 1357ه - 11 يوليو 1938م، صـ15.
يوسف الديني: الإخوان وتأسيس السلطة الرمزية.. ابتلاع الحقل التعليمي في السعودية، مركز المسبار للدراسات والبحوث، الكتاب 133 يناير 2018م.
زينب الغزالي: "أيام من حياتي" دار الشروق، القاهرة، طـ13، 1992 صـ27.
سعيد حوى: "هذه تجربتي هذه حياتي"، دار عمار، طـ2، 1988، صـ94.