على مدى قرون طويلة ومنذ بدء الإسلام والنساء المسلمات متمسكات بحجابهن، ولم يتخلين عنه أبدًا، ويظهر ذلك جليًا في صور ثورة 1919م بمصر، والتي ارتدى النساء فيها الزي الشرعي، ثم فجأةً وبعد سنوات قليلة وبصورة مذهلة وغير متوقعة وجدنا النساء في بدايات الأربعينيات والخمسينيات أكثر جرأةً على خلع الحجاب، والتكشف والخروج بهذا الشكل إلى الطرقات.

ولعل انتشار السينما وتقليد الممثلات كان من الأمور التي شجَّعت هذا الأمر، ثم زادت الأمور سوءًا في فترة الستينيات والتي أصبح فيها الغالبية العظمى من السيدات المصريات المسلمات لا يرتدين الحجاب، وكان ارتداء كل ما هو قصير، وكشف السيقان وتعرية الصدر من علامات التحضر والتطور والمَدَنِيَّة، وكان يُنظر إلى الحجاب نظرةً متدنيةً، ويتم ربطه دائمًا بالتخلف والجهل والحياة القروية، وبسبب النغمة التي كان الإعلام يرددها طوال الوقت ضد الحجاب، وكذلك منع المحجبات من الظهور على شاشات التلفاز نسي الكثيرون والكثيرات أن الحجاب ليس زيًّا فلكلوريًّا يستطيع المجتمع تغييره أو الاستغناء عنه، وإنما هو أمر ربانيّ لا نملك أمامه إلا أن نقول: "سمعنا وأطعنا".

ومع طول الفترة الزمنية التي اتسمت بتشجيع العري والسفور، والإشادة بالسافرات واحتقار المحجبات حتى إن أحدًا كان إذا رأى امرأةً محجبةً لا يمكن أن يتصور أنها تحمل مؤهلاً جامعيًّا، وإنما هي في أحسن الأحوال ممن تعمل في الخدمة في تنظيف البيوت!!، ومع طول هذه الفترة ظنَّ البعض أن الحجاب قد انتهى إلى غير عودة، وأنه أصبح أسطورةً تاريخيةً لا مجالَ لإحيائها، إلا أن الله سبحانه وتعالى هو الحافظ لهذا الدين، وهو الذي يقيض لهذه الأمة من بينها مَن يجدد لها أمر دينها، ويعيد لها رشدها، ويردها إلى طريق الحق والصواب، فنجد الحجاب الآن وقد أصبح منتشرًا بين السيدات والفتيات من كل الأعمار ومن كل الطبقات الاجتماعية والمستويات التعليمية.

إلا أن المتأمل في أحوال المحجبات هذه الأيام يرى نفسه أمام نقيضين وشكلين مختلفين من أشكال الحجاب، الشكل الأول: هو "حجاب الموضة" إن صحَّ التعبير، والذي لا يحقق الشروط الشرعية للحجاب، ولا يتفق مع الحجاب الحقيقي إلا في كونه يسمح للفتاة بتغطية شعرها، والشكل الثاني: هو الحجاب بشكله الشرعي المنتشر بين أوساط الملتزمات، والذي يحقق شروط الحجاب الشرعية.

ولكن: متى انتشر الحجاب الشرعي في مصر؟ ومَن كان وراء انتشاره؟ وبأي الطرق ننجح في تعميمه للحد من الأشكال الحديثة للحجاب والذي لا يلتزم الشروط الشرعية؟ هذا ما أجابت عنه الجابة وفاء مصطفى مشهور ابنة فضيلة المرشد العام الخامس للإخوان المسلمين رحمه الله في حوارنا معها:

* في البداية سألتها: هل كانت الوالدة والأخوات يرتدين الحجاب بشروطه الشرعية بشكل متميز عن زي الحشمة الذي كان متعارفًا عليه في المجتمع المصري في ذلك الوقت؟

 ** منذ طفولتي وأنا أرى والدتي بحجابها المميز هي وبعض زوجات الإخوان، وعلمت أنه منذ بداية تأسيس قسم الأخوات في بداية الأربعينيات اتفق الأخوات على طريقة معينة لغطاء الرأس وكانت عبارة عن طرحة طويلة وتلف حول الرأس أكثر من مرة بطريقة معينة بالإضافة إلى "البالطو" المعروف والذي كان طوله يصل إلى قرب القدم مع لبس جورب سميك لتغطية ما قد يظهر من القدم، وقد كان هذا في الوقت الذي لا يعرف فيه الحجاب بمفهومه الشرعي وما كان يوجد من احتشام حينئذٍ يعتبر من العادات والتقاليد.

ويظهر هذا فيما روي لنا أن الأخوات الثلاث: الحاجة زينب الشعشاعي حرم الشيخ عبد اللطيف الشعشاعي، والحاجة فاطمة عبد الهادي حرم الشهيد يوسف هواش، والحاجة أمينة علي حرم الأستاذ محمود الجوهري، حيث قام الأخوات الثلاث بزيارات لفروع الأخوات في المحافظات بزيهنَّ المميز، وكان هذا في الفترة ما بين 1944- 1945 تقريبًا.

* وهل كان الوالد في تربيته يؤكد على الحجاب بشروطه؟

 في الحقيقة منذ بداية اعتقال الوالد عليه رحمة الله كان ينتهز أية فرصة لإرسال أية رسالة إلى الوالدة يوصيها بكثير من الوصايا التربوية الإسلامية والحث على الحجاب، وارتدَيتُ أنا وأخواتي سلوى وسمية الحجاب في السن الشرعية للفتاة، بل إن أختي سمية ارتدته معي وهي أصغر سنًا حيث كانت في الصف الخامس أو الرابع الابتدائي، وكان هذا في أوائل الستينيات، وأذكر عندما كنت في الصف الأول الإعدادي بمدرسة "سراي القبة" سنة 1965م وكنت الوحيدة في المدرسة بأكملها التي ترتدي الحجاب حتى إن مديرة المدرسة كانت تنزعه من على رأسي عنوةً، ونتيجةً لحرص الوالد وتوصياته ذهبت والدتي إلى المديرة، وأصرَّت على ارتدائي للحجاب، وقالت: لا بد أن تظل ابنتي بالحجاب، ولكم فقط ما تطلبون من لونٍ معين.

الأخوات المسلمات

* برامج إعداد الأخت المسلمة في ذلك الوقت.. هل كان بها توعية بشروط الحجاب؟

كان من بدايات حركة قسم الأخوات ونشاطه الحث على الالتزام بالتعاليم الدينية سواء سنة 1933م عند تكوين أول فرقة للأخوات بالإسماعيلية، وسميت فرقة "الأخوات المسلمات"، وكذلك عند تكوين أول لجنة تنفيذية للأخوات المسلمات 1944 بالقاهرة والتي كان من برنامجها في هذا الوقت:

- بث الروح الدينية والتعاليم الإسلامية لتكوين شخصية نسائية يمكنها أن تؤدي دورها.

- إرشاد النساء إلى الأسس التربوية الصحيحة لتربية الأبناء.

- العمل على صبغة البيت صبغة دينية وتعميق التعاليم الإسلامية والالتزام بها.

- محاربة البدع والأفكار والعادات التي تخالف الإسلام.

وبالطبع بناء على برنامج قسم الأخوات في الحركة والدعوة حرص الأخوات الداعيات على إرشاد النساء والبنات لارتداء الحجاب والالتزام به.

* منذ بداية دعوة الإمام حسن البنا هل كان الداعيات يرتدين حجابًا له مواصفات جديدة معروفة؟ وهل كُنَّ يرشدن النساء والبنات إلى الالتزام بالحجاب الشرعي والتأكيد عليه كفريضة؟ وهل كان هذا الحجاب متوفرًا بالأسواق؟

كان قسم الأخوات يحرص على توفير الحجاب خاصة في المعارض التي كانت تقام منذ البداية، وكان أول معرض في نوفمبر 1948 بالإضافة إلى أن معظم الأخوات كن يقمن بحياكة الزي بأنفسهن حيث إنه غير متوفر في الأسواق بمواصفاته الشرعية، وعلى سبيل المثال أذكر أن الوالدة كانت تصمم لنا ثيابًا محتشمةً مستوفيةَ الشروط وحريصة في نفس الوقت على تصميم الموديلات التي تحبب الفتيات في الحجاب.

"الكاب" و"الماكسي"

* متى بدأت بنات وزوجات الإخوة ارتداء الحجاب المختلف عن زي المصريات الحشمة؟ وكيف كان شكله؟

 أعتقد منذ البداية كما أشرت سابقًا أنه كان مختلفًا عن زي المصريات المحتشم إلى أن انتشر بين بنات وزوجات الإخوان في منتصف الستينيات "الكاب" والإيشارب الكبير، حتى إنه قبل أن تظهر موضة ما سمي بـ"الماكسي" كنا نرتدي الثياب الطويلة فقالوا لنا حينئذٍ: إن أصحاب الموديلات ابتدعوا "الماكسي" موضة ولكنه مفتوح من الجانبين وضيق؛ وذلك حتى يميع مظهر الحجاب، ولكن لم يتغير بهذه المواصفات الشرعية عند الأخوات حتى في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات حيث ظهر الجلباب الواسع ذات الألوان الهادئة، وظهر معه الخمار المعروف الآن باسمه وتميز به حينئذٍ الأخوات.

* متى انتشر الحجاب في مصر؟

 بالتأكيد انتشر الحجاب بين الناس بسبب دعوة الإخوان في بداية عهد السادات؛ حيث بدأ في الانتشار على نطاق واسع بعد أن أفرج عنهم وأصبح لهم تأثير وحركة وسط الناس.

* تطورات الحجاب من إيشارب إلى خمار ثم نقاب، هل تم بشكل متدرج؟ ومتى أصبح أكثر انتشارًا؟

 في الحقيقة.. بداية السبعينيات كانت أكثر فترة شهدت تطورًا لحجاب الأخوات للأحسن، وكما قلت إن في هذه الفترة انتشر بين بنات وزوجات الإخوان "الكاب" والبالطو الطويل مع البنطلون والإيشارب الكبير، ومع ازدياد الوعي والصحوة ظهر مباشرة الخمار والجلباب، والتزمت به عدد كبير من بنات وزوجات الإخوان خاصةً في الجامعة، حتى أنه كان يباع في المعارض الطلابية الخمار والجلباب، وعرف بأنه زي للأخوات.

* في رأيك ما الأسباب وراء التحول في مفهوم الحجاب حتى أصبحنا نرى الحجاب الموضة؟ وكيف نعالج هذه الظاهرة؟

 من أكثر الأسباب وراء التحول الحالي في مفهوم الحجاب يرجع إلى تخطيط أعداء الإسلام والمرأة خاصة بتوفير زي يقال عنه: إنه زي محجبات، ولكنه غير مستوفٍ للشروط تمامًا، والتقى هذا مع اختفاء قدرة الأخوات على تصميم وحياكة زيهنَّ الشرعي الذي تريد أن ترتديه، أيضًا قد يكون من الأسباب أنه عندما خرجنا للمجتمع بنية التغيير والتأثير فيه فبعض الشخصيات من الفتيات حينئذٍ تأثرنَ بالمظاهر الموجودة في المجتمع، وقد يكون غياب البيت منذ بداية سن تكليف البنت للحجاب حتى تعتاد عليه سببًا أيضًا.

وأرى أن علاج هذه الظاهرة يبدأ من البيت والتربية وغرس المفاهيم الصحيحة ومعرفة الحلال والحرام والضوابط الشرعية لحركة المرأة وسمتها سواء كانت التربية من الأم أو حضور اللقاءات التربوية وفق منهج تربوي متكامل، كذلك توفير زي له مواصفات شرعية من المصانع والمحلات التي تقوم بتصنيع هذه النماذج وتذكرة أصحاب هذه المشاريع بأن عملهم هذا سوف يكون مباركًا حين يتفق إنتاجهم مع مواصفات الإسلام لزي المرأة.

مزايا الحجاب

ويُعدُّ الحجاب تحضُّرًا لأنه يعبِّر عن واقع ملموس في حياتنا؛ فالمرأة أو الفتاة المحجَّبة تعبِّر بحجابها عن: سموٍّ ذاتيٍّ عن الحيوانية المتعرية، ومن ناحية ثانية: تعبِّر عن تقديرٍ للذات؛ فذاتُها مصونةٌ غير مبتذلة، ومن ناحية ثالثة: توفر للرجال مناخًا صحيًّا للعمل حين تخرج إلى الشوارع والأسواق والدواوين والمصانع.

إن هذه المزايا الثلاثة للحجاب تصبُّ في مسار التحضُّر والتقدُّم، والعكس صحيح؛ فالتبرج اقترابٌ من الحيوانية المتعرية، وليس عند الحيوان تقديرٌ لذاته، ومع تبرُّج النساء يتلوَّث مناخ العمل، الذي يكتظُّ بالرجال غالبًا، فينصرف الرجال عن أداء أكثر الأعمال المنوطة بهم؛ لأنهم انشغلوا بالشعور والنهود والخصور والأرداف؛ فتتلوَّث العيون والألسنة والقلوب، وترتيبًا على ذلك فإن الدعوة إلى الحجاب تحضُّرٌ ومدنيةٌ، والدعوة إلى التبرُّج تخلُّفٌ وهمجيةٌ.

لقد غزانا تبرُّج النساء مع جيوش المحتلين الصليبيين لأوطاننا الإسلامية، وقصة خلع الحجاب في مصر تحمل الرمز لهذه العودة إلى الجاهلية الأولى.. كانت صفية امرأة سعد بن زغلول تتحرك بمظاهرة في أحد ميادين القاهرة (ميدان التحرير) يقال إنها كانت تطالب بجلاء المحتل الإنجليزي، وفجأةً تحوَّلت المظاهرة عن الهدف الذي خرجت من أجله، فخلعت صفية حجابها، وهتفت: يسقط الحجاب!! ومثلها فعلت بعض النسوة!.

وبدأ منحنى التبرُّج يعلو في ظل الاحتلال البريطاني، وما دامت بريطانيا هي الدولة العظمى، وهي المهيمنة بالقوة على بلدان مسلمة كثيرة، وما دام عِلية القوم يختلطون بالإنجليز، ويسهرون معهم، وما دام هذا الاختلاط يستدعي المحاكاة؛ حتى لا يشعر المصريون المقرَّبون للإنجليز بالضَّعَة، قلَّدوا الإنجليز رجالاً ونساءً، ثم توهَّم الشعب أن تقليد الإنجليز هو التحضُّر، رغم وضوح القرآن الكريم في وصف التبرُّج ﴿وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ (الأحزاب: من الآية 33).

الدعوة إلى التبرُّج تطرُّف، مجرد الدعوة، فما بالنا بمَن يمنع الحجاب بالقوة؟! وماذا سيكون عند حدوث مقاومة من الملتزمين والملتزمات بالحجاب؟ عندئذٍ نقف وقفةً لنسأل هذا السؤال: من الذي تسبَّب في رد الفعل بالمقاومة؟ من المخطئ؟ ومن المصيب؟ من الإرهابي الذي استخدم سلطته في منع الحق وإقرار الباطل؟ من المتطرِّف الذي رفض التوسُّط ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: من الآية 143)، فسَاقَ الأمة إلى جاهلية التبرج، وإلى ردِّ الفعل في مواجهة إرهاب السلطة؟!

والتبرج تضييعٌ للأعراضِ وتدنيسٌ لها، فإذا ما ضاعت الأوطانُ وتدنَّست أرضُ المسلمين، فهل تصلُحُ المتبرِّجات للقيام بأي دور لتحرير الوطن وتطهير المقدسات؟! اللهم لا.. بل يكون العكس هو الصحيح، ستكون النساء في خدمة الغزاة خدمةً كاملةً.

إن المرأة المسلمة قامت بأداء دورها كاملاً على مدار التاريخ خلال أربعة عشر قرنًا، في إطار الاحتشام والوقار والحجاب والالتزام، والمتأمل في حال المرأة المصرية المعاصرة، يرى هزال دورها منذ نزعت صفية امرأة سعد حجابَها، وأما اللاتي صنعتهن النوادي الماسونية، وهن معروفاتٌ ومشهوراتٌ، فلا يكاد الإنسان يجد لهن دورًا نظيفًا من التآمر أو تلويث جوِّ الطهر والعفاف.

المسلمات الملتزمات هنَّ ذوات الانتماء، وهنَّ الأصيلات في مجتمعنا الإسلامي.. هنَّ اللاتي يَشرُفْن بالانتماء إلى سمية زوج عمار وأسماء بنت أبي بكر.. ينتمين إلى الصحابيات والتابعيات الطاهرات سيدات المسلمين، وهو الانتماء المتحضِّر المشرق، الانتماء الطاهر العفيف، على الرجال أن يعُوا ذلك بحكم القوامة التي منحها الله لهم ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ (النساء: من الآية 34) على الرجال أن يعوا ذلك بحكم المسئولية "كلكم راع ومسئول عن رعيته"، على الرجال أن يجعلوا الحجاب همَّهم الأول مع أزواجهم وبناتهم، وأن يجعلوا الحجاب بعيدًا عن أية مساومات، ولو أدى الأمر إلى الموت في سبيل العرض؛ فذلك من الشهادة.

فقد حدثت غزوة بني قينقاع بسبب مساومة اليهود لامرأة مسلمة على أن تخلع حجابها!! ولمَّا لم تفعل ولم تكشف وجهها، فعل يهودي فعلةً خبيثةً، فانكشفت المسلمة من الخلف، فانقضَّ مسلم على اليهودي فقتله، وتأزَّم الموقف، واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء اليهود قد نقضوا العهد السياسي معه، وكان ما كان من إجلاء هذه القبيلة عن المدينة.

يا الله!! من أجل المساومة على كشف الوجه، تحرَّك جيش المسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل امرأة!.