من تراث العلامة د. يوسف القرضاوي

من خصائص فقه الأقليات: تبني منهج التيسير ما وجد إليه سبيل، اتباعاً للتوجيه النبوي: حينما بعث أبا موسى ومعاذا إلى اليمن، فأوصاهما بقوله: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا وحلا تنفرا" وروى عنه أنس: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا".

ولا شك أن الناس تختلف طبائعهم، فمنهم الميسر بطبعه، ومنهم المشدد، وكل ميسر لما خلق له، وقد عرف تراثنا الفقهي: شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس. والمعروف أن الصحابة - بصفة عامة - كانوا أكثر تيسيرا من تلاميذهم من التابعين، كما أن التابعين كانوا أكثر تيسيرا ممن بعدهم.

فالفقهاء في عهد الصحابة ومن بعدهم كانوا أميل إلى الأخذ بالأيسر، والذين جاءوا من بعدهم كانوا أميل إلى الأخذ بالأحوط، وكلما نزلنا من عصر إلى عصر زادت كمية (الأحوطيات)، وإذا كثرت الأحوطيات وتراكمت كونت ما يشبه الإصر والأغلال التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليضعها عن الناس {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} (الأعراف: 157).

وإنما اختار الصحابة منهج التيسير والتخفيف، لأنهم وجدوا هذا هو منهج القرآن الكريم، ومنهم هذا الدين الذي شرع الرخص في المرض والسفر، وأجاز تناول المحرمات عند المخمصة والضرورة، وأجاز التيمم لمن لم يجد الماء، إلى غير ذلك من الأحكام التي تتضمن التخفيف؛ ولذا عقب القرآن على أحكام آية الطهارة بقوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} (المائدة: 6)، وعقب على آية أحكام الصيام بقوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة: 185)، وعقب على أحكام النكاح بقوله {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفًا} (النساء: 28).

كما وجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تيسيرا، وأشدهم ضد الغلو والتنطع في الدين، فروى عنه ابن مسعود "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا، وروى عنه ابن عباس: "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين".

وأنكر على من مال إلى الغلو في عبادته تقليدًا لرهبان النصارى وغيرهم، كما فعل مع عبدالله بن عمرو بن العاص، ومع الغلاة الذين قال أحدهم: أنا أصوم فلا أفطر، وقال الثاني: أنا أقوم الليل فلا أنام، وقال الثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا.. ورد على عثمان بن مظعون إرادته للتبتل، وأنكر على معاذ بن جبل إطالة الصلاة بالناس، وقال له: أفتان أنت يا معاذ؟ ثلاثا، وغضب على أبي ابن كعب غضبا شديدا حين بلغه طول صلاته بالناس، وقال: "إن منكم منفرين، من أم الناس فليتجوز".

وأنكر على بعض الصحابة الذين أفتوا رجلا أصابته جراحة - وقد أصابته جنابة - أن يغتسل، فمات من ذلك، فقال: قتلوه، قتلهم الله، هلا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم"!

من هنا تعلم الصحابة التيسير، شربوه من الهدي النبوي، وينبغي الاستئناس هنا بقول الإمام سفيان بن سعيد الثوري - رضي الله عنه -: إنما الفقه الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد، وهذا قول رجل انعقدت له الإمامة في ثلاثة مجالات: في الفقه، حيث كان له مذهب متبوع لمدة من الزمن، وفي الحديث، حيث سمي "أمير المؤمنين في الحديث" ، وفي الورع والزهد، حيث كان من الشيوخ المقتدى بهم في هذا الجانب.

كما يحسن بنا أن نذكر هنا ما كان يذكره الفقهاء المتأخرون في ترجيح بعض الأقوال على بعض، فيقولون: هذا القول أرفق بالناس.

مراعاة قاعدة "تغير الفتوى بتغير موجباتها":

ومن أعظم ما يقتضي التخفيف والتيسير: أن يكون المستفتي في حالة ضعف، فيراعى ضعفه ويخفف عنه بقدره؛ ولهذا يخفف عن المريض مالا يخفف عن الصحيح، ويخفف عن المسافر ما لا يخفف عن المقيم، ويخفف عن المعسر ما لا يخفف عن الموسر، ويخفف عن المضطر مالا يخفف عن المختار، ويخفف عن ذي الحاجة مالا يخفف عن المستغني، ويخفف عن ذي العاهة (الأعمى والأعرج) مالا يخفف عن السليم، ولهذا كله أدلة من نصوص الشرع وقواعده، والمسلم في المجتمع غير المسلم أضعف من المسلم في داخل المجتمع المسلم؛ ولهذا كان يحتاج إلى التخفيف والتيسير أكثر من غيره.

وأحسب أنه مما لا يختلف فيه اثنان: أن الفتوى تتغير بتغير المكان والزمان والعرف، كما قال الإمام ابن القيم الحنبلي، وبينه من قبله الإمام القرافي المالكي، وأكده بعدهم علامة متأخري الحنفية ابن عابدين في رسالته "نشر العرف في بيان أن من الأحكام ما بني على العرف"، ومن ذلك ما روي أن عمر بن عبدالعزيز كان يقضي - وهو أمير في المدينة - بشاهد واحد ويمين، فلما كان بالشام، لم يقبل إلا شاهدين، لما رأى من تغير الناس هنالك عما عرفه من أهل المدينة.

وهو القائل كلمته المشهورة: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور"، ومن ذلك ما ذكر: أن أبا حنيفة كان يجيز القضاء بشهادة مستور الحال في عهده - عهد أتباع التابعين - اكتفاء بالعدالة الظاهرة، وفي عهد صاحبيه - أبي يوسف ومحمد - منعا ذلك لانتشار الكذب بين الناس، ويقول علماء الحنفية في مثل هذا النوع من الخلاف بين الإمام وصاحبيه: إنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان!!

وقد خالف المتأخرون من علماء المذهب الحنفي ما نص عليه أئمتهم، والمتقدمون منهم في مسائل عدة، بناء على تغير الزمان والحال، وألف في ذلك علامة الحنفية المتأخرين الشيخ ابن عابدين في ذلك رسالته الشهيرة "نشر العرف"، وذكر في هذه الرسالة: "أن كثيرا من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولا، للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد، ولهذا نرى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد (إمام المذهب) في مواضع كثيرة، بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به، أخذا من قواعد مذهبه".

وفي المذهب المالكي نجد ما كتبه العلامة شهاب الدين القرافي في كتابه "الفروق" وكتاب "الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام" منبها على وجوب تغير الحكم إذا كان مبنيا على عادة تغيرت، أو عرف لم يعد قائما.

ومن الأسئلة التي تذكر هنا ما حكي عن الشيخ الإمام أبي محمد بن أبي زيد القيرواني (المتوفى سنة 386هـ) صاحب "الرسالة" المشهورة في فقه المالكية، والتي شرحها أكثر من واحد من جلة علماء المذهب، فقد رووا أن حائطا انهدم في داره، وكان يخاف على نفسه من بعض الفئات، فاتخذ كلبا للحراسة، وربطه في الدار، فلما قيل له: إن مالكا يكره ذلك، قال لمن كلمه: لو أدرك مالك زمانك لاتخذ أسدا ضاريا!!.

وفي كل مذهب نجد مثل هذه المواقف - على تفاوت فيما بينها - مما يدلنا على مقدار السعة والمرونة التي أودعها الله هذه الشريعة، وجعلها بذلك صالحة لكل زمان ومكان.

ولا نزاع أن من أعظم ما يتغير به المكان اختلاف دار الإسلام عن غير دار الإسلام، فهذا الاختلاف أعمق وأوسع من الاختلاف بين المدينة والقرية، أو بين الحضر والبدو، أو بين أهل الشمال وأهل الجنوب.

ذلك أن دار الإسلام - وإن قصر فيها من قصر، وانحرف من انحرف - تعين المسلم على أداء فرائض الإسلام، والانتهاء عن محارم الإسلام، بخلاف دار غير الإسلام، فلا توجد فيها هذه الفضيلة؛ ولهذا اعتبر الفقهاء، الجهل بالأحكام في دار الإسلام لا يعتبر عذرا لصاحبه، تخفيفا عنه، لتيسر التعلم لمن أراده في دار الإسلام، بخلاف الجهل في غير دار الإسلام، فقد يكون عذرا للجاهل.

----------

من كتاب "فقه الأقليات المسلمة" لفضيلة العلامة يوسف القرضاوي.