من تراث الراحل الشيخ/ خيري ركوة

الحلقة الأولى: مؤهلات حامل الأمانة

بسم الله والحمد لله، وبعد.. فمن المعلوم أن الإسلام ليس مجردَ عنوان يُطلق أو كلمة تُقال، ولكنه كيانٌ ذو بناءٍ متكاملِ العناصر، يقوم على تناسب هذا الكيان والبناء.. عمقًا واتساعًا وامتدادًا، ومن مقتضيات البناء أن يقوم على أسس ودعائم، وبقدر ضخامة البناء وشموخه وحجمه يكون النظر في تشييد الأساس متانةً وصلابةً واستمراريةً.

فأساس يقوم عليه بناء من عدة طوابق يختلف عن آخر يتكون من طوابق أقل عددًا أو أكثر، والإسلام عبَّر عنه الرسول- صلى الله عليه وسلم- بهذا المفهوم "البناء"، فقال- صلى الله عليه وسلم-: "بني الإسلام على خمس"، وشبَّه علاقة المؤمنين فيما بينهم وشدة التحامها بالبنيان، فقال عليه السلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"، ونوَّه القرآن الكريم بصورة تعاضد المسلمين في صف القتال في سبيله فقال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ (الصف:4).

وهذا البنيان سواء كان في شكل قواعد للإسلام، أو في شكل توحُّد المسلمين جسدًا واحدًا، أو في شكل صفٍّ يواجه أعداء الدعوة في ميادين القتال.. إنه في كل هذه الصور يتطلَّب اللبنات القوية التي بها يتحقق هذا البناء المطلوب؛ كي يحقق هدفه ويؤدي أغراضه.. ويستطيع مواجهة الأنواء والنوازل والهِزَّات.

خلت الأرض من نور الهداية فترةً من الزمن، ثم تداركتها رحمة الله الرحمن الرحيم، فبُعث محمدٌ- صلى الله عليه وسلم- برسالة الإسلام؛ بناء يدعو إليه ويقيم دعائمه، وفي أول يوم يتلقَّى فيه النبي- صلى الله عليه وسلم- النبوةَ ويرجف من لقاء جبريل فؤاده، ويقول زملوني زملوني من أثر غطة الملك عليه.. يلتقي بـ"ورقة بن نوفل" ويخبره بما حدث له في الغار، فيقول له "ورقة"- وكان عنده علمٌ من الكتب السابقة-: "والذي نفسي بيدِه، إنه ليأتِيك الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنَّك لنبيُّ هذه الأمة، ولتؤذَيَّن، ولتكذَّبَن، ولتقاتَلَن، ولتُنصرَن، ولئن أدركني يومك لأنصرنَّك نصرًا يعلمه الله..!!"
 
ويروي صاحب (السيرة النبوية الصحيحة) قول "ورقة بن نوفل": "يا ليتني فيها جذعٌ.. أكون حيًا حين يخرجك قومك"، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:"أوَمخرجيَّ هم؟" فقال "ورقة": نعم.. لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عُودي، وإنْ يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزَّرا".

فمِن أول يومٍ لتلقِّي مهمةِ الرسالة يشاءُ الله تعالى أن يطلع الرسول على ما سوف يواجهه من متاعب وأعباء في سبيل الدعوة، إنه سيكون إيذاءٌ وتكذيبٌ ومقاتلةٌ وإخراجٌ من الديار؛ لكن يعقُب ذلك نصرٌ، ولن يكون هذا النصر قبل هذه الشدائد.

إن هذا الدين وهذه الرسالة لم تأتِ لتصلح من كل فرد شأنه، ثم يخلو بنفسه بعيدًا عن الناس، لا شأنَ له بهم ولا شأن لهم به، وحينئذٍ، فلا عناءَ ولا إيذاءَ، فكلٌّ في خاصة نفسه لا شأنَ له بالآخَرين، فمَن أراد آمن ومَن لم يُرِد لا شأنَ لأحدٍ بهٍ، فله أن يعبدَ ما شاء ويتبَع مَن شاء ويفعل ما يشاء، دون قانون أو حدود للفعل أو الترك في الأموال أو الأنفس أو الأعراض أو الدماء أو التعبُّد أو الاستعباد، أو الظلم أوالقهر للضعفاء والمستضعفين.

إن هذه الرسالة قد جاءت لإصلاح الإنسان وإعادته إلى رشده وسلامة فطرته، وتكوين مجتمعه الآمن المطمئن على الأنفس والأموال والأعراض والحريات، وعلى المساواة بين بني البشر.. "كلكم لآدم"، وصمام ذلك كله العقيدة في الله، التوحيد (توحيد الألوهية والربوبية)، وتلك الأخيرة هي التي دونها الدماء والأنفس والرقاب.. لقد كانت كلمة التوحيد هي القضية الأولى في الإصلاح.. "أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا".. يأتي رجل من البادية يقول: دلوني على هذا الرجل "محمد" فلمَّا لقيَه قال: ما الذي جئت به قومك؟ قال: "لا إله إلا الله"، قال الرجل: أتريد أن يقولوا لا إله إلا الله؟! قال الرسول: "نعم" قال الرجل: "إذن يقاتلك الأبيض والأسود والأحمر"، وقالوا: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ (ص:5)

انطلق محمد- صلى الله عليه وسلم- يدعو ويبلغ رسالته، وهو مدرك ما سيواجَه به هو ومَن يستجيب لهذه الدعوة، وهو مدركٌ كذلك أنَّ أولئك الذين يستجيبون للإسلام هم القواعد التي سترفع بها البنيان، وهم الأركان التي سيقوم عليها البناء الكبير الواسع الممتدُّ العريضُ، الذي سيظلل الأرضَ كلَّها والبشريةَ كلَّها، وأنه لا يقتصر أمرُه على أهل مكةَ أو الجزيرة العربية، بل البناء أوسع من ذلك إنه للعالمين جميعًا، وإنه لم يأت لتزكية الأنفس وصلاحها الداخلي فقط.. لا علاقة له بمعايش الناس ونظم حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية..لا بل المنهج واسع شامل يحتوي كل حركة للإنسان في نفسه ومع غيره، وحركة المجتمعات مع غيرها في سلمها وحربها.. في نظامها وقوانين حياتها، وبهذا ستكون المواجهة ليست مع فرد آخر ولا مع أسرة ولا مع مجتمع، ولكنها مع كل البشر، وكل الثقافات وكل الأَعراف.

ومن هنا كان الإعداد لحمَلة هذه الرسالة- الذين يلبون دعوتها ويؤدون مطالبها- لابد أن يكون إعدادًا لكل جوانب الإنسان الذي يحمل هذه الدعوة.. إعداد النفس والقلب والروح والمشاعر.. إعداد الأبدان والجوارح.. إنهم سيواجَهون بالمحن بوجوهها المتنوعة.. محن الرهباء.. ومحن الرغباء.. محن الجوع والعطش.. محن الإيذاء البدني والنفسي.. محن المتع والشهوات.. محن العلائق والمحاب.. الآباء والأبناء.. محن العواطف والأشواق، والأزواج والزوجات، والبنات والأمهات، كل ذلك سيكون في طريق مَن يؤمن بهذه الدعوة يشكل في طريقه عوائق ومنعطفات، قد تغريه بالتخلي عن هذا الطريق (طريق الدعوة)، وما فيه من الأشواك، ومن هنا كان لابد من الامتحانات للصقل والتطهير، والتزكية والتحرير، تحرير النفس من علائقها الدنيا، ومن رغباتها العجلى، وتخليصها من الشوائب التي تخالط جوهر النفس، فتكدر صفاءه، وتغش خلوصه، لابد من الفتنة التي تنقي المعدن الصافي الغالي من الزبد، كما ينفي الكير خبث الحديد.. إن الأمانة كبيرة وثقيلة وطويلة الطريق، فما لم ينقَّ المعدن الذي يحملها لا يقدر على حملها ولا على الاستمرار في هذا الطريق المليء بالصعاب، فليكن من البداية الاختبار والابتلاء.. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ (محمد:31).

إن الإسلام أمانة؛ لأنه دعوة الله إلى العالمين إلى يوم القيامة، وهذه الأمانة تقتضي أن يحملها من تأهَّلوا لذلك: فلابد أن يُجرَّبوا من خلال تعرِّضهم لأنواع من المعانات، فيتعرَّضوا لصنوف من المشاق العملية التي تكبدهم الآلام في جسومهم، والآلام في رغباتهم وشهواتهم فيواجهوا سغب البطون وظمأ الأكباد، ولهيب الهواجر وغلظة أكباد الطغاة وصلفهم، وينالوا عذاب الأجساد ضربًا ورجمًا وإحراقًا، يعانون القسوة من الآباء والأزواج والزوجات والقبيلة والعشيرة، وتُصَبُّ عليهم جامات الغضب والكُره والقسوة من الأحباب والأصحاب ليفتنوهم عن دينهم، ومن المؤهلات للصدق في حمل هذه الدعوة أنهم يصبرون على هذه الآلام، ويسترخصون الحياة في سبيل دينهم وعقيدتهم التي أسلموا لها، وآمنوا بها، ويقول قائلهم:

ولست أبالي حين أُقتل مسلمًا           على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ             يبارك على أشلاء شلوٍ ممزَّع

إنهم يصبرون على المحن والابتلاءات؛ لإيمانهم أنها في سبيل الله، وأن الصبر عليها نصر من نصر الله، يهبه لمن يشاء من أحبابه، فيستعين بما يعرض من الآلام النفسية أو البدنية طامعًا وآملاً أنَّ نصر الله آتٍ لا محالةَ.. ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج:40).

يمرُّ النبي- صلى الله عليه وسلم- على آلِ ياسر وهم يعذَّبون بالنار والضرب الشديد فما يزيد على قوله: "صبرًا آل ياسر فإنَّ موعدكم الجنة"، ولم نسمع أنه دعا لهم بهلاك مَن يعذبونهم، أو بانصرافهم عنهم، ونراه يأتيه "خباب" فيقول له: يا رسول الله، ادع الله لنا يخفِّف عنا هذا العذاب.. فيقول له: "إن مَن كان قبلكم كان يؤتَى بالرجل فيُحفَر له في الأرض، ثم يؤتَى بالمنشار فيوضَع على مفرق رأسه فينشر نصفين، ثم يؤتى بأمشاط الحديد فيمشط جسمه.. ما بين لحمه وعظمه.. ما يصرفه ذلك عن دينه، ولينصرن الله هذا الدين أو ليتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت ما يخاف إلا الله والذئبَ على غنمِه غير أنكم تستعجلون".

إنه الدرس في مدرسة الصبر على البلاء في سبيل الله وفي سبيل دعوة الله.. "إنه صهر المعادن النفسية لتتخلص مما علق بها من الزَّبد الذي عادةً ما يَذهبُ جفاءً ولا يبقي إلا ما ينفع الناس.

ومن مؤهلات حمل الأمانة الاستعلاء على الشهوات، فللنفس محاب ورغبات، حب المال، وحب الأولاد وحب الازواج، ذلك غريزة مركوزة في الأنفس، من لا يستعلي عنها غلبته على نفسه، واستولت على قلبه وعقله وسيطرت على فكره وتوجهاته، فأصبح لا يرى إلا بمنظارها، فحب الشهوات يعمي عن سداد الرؤية وصواب النظر.."حبك الشيء يعمي ويصم".

فصاحب الدعوة وحامل الأمانة لابد أن تكون شهوته طوَعَ إيمانه وأسيرة إيمانه وعقيدته، ولا تكون ضخمة الحجم والسيطرة على صاحبها، فإنه في طريق جهاده ستبرز أمامه أهواء شهوة القرابة- كالأبوة والنبوة- وشهوة الجاه والمنصب لتكون في معادلة مع دينه وعقيدته وجهاده، فأي الكفتين ترجَّح لديه ومع أيهما يميل؟ ﴿فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا﴾ (النساء: 135)، وقد عيب على قوم سبقوا ضلوا طريق أسلافهم من المؤمنين، قال تعالي: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ (مريم:59).

وإن من مؤهلات من يعد لحمل الأمانة أن يكون مملوء القلب ثقةً في نصر الله وثوابه، فإن هذه الثقة هي التي تعين على وجود المؤهلات الإيمانية التي ذكرت وتزيدها نموًا وأثرًا، فيصبر على المعاناة والمشاق، ويستمر في العلو فوق الشهوات، ويستخفف ما يلاقي من الآلام؛ لأنه يوقن في نصر الله للحق وإزهاق الباطل، ويؤمن بأن أجرَ الله وثوابَه مضمون للعاملين الصابرين، وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.

المؤمنون الذين استجابوا للدعوة، ويغدون لحمل أماناتها لا يكفى منهم أن يقولوا بألسنتهم آمنَّا، بأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فقط.. إن هذا لا يكفي لأن تسند إليهم الأمانة فقد يقفون في الطريق فلا يواصلون مسيرتهم، وقد يجتزئون بعضها دون الآخر، وقد يختارون ويتركون، وقد يكتفون بأنفسهم أو ببعض ذويهم ولا يهتمون بهذه الدعوة جميعها شريعةً وعقيدةً وناسًا وأُمَمًا مستخفين بعضًا ومستثقلين بعضًا.. يقول الله تعالي: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت:2) لا.. بل لابد أن يُفتَنوا وأن يُبتَلوا، وأن يجرَّبوا بعد قولهم آمنَّا؛ لتعرف المعادن، ويعرف الصدق من الكذب، واليقين من الشك، وكيف يترك مَن يعلن الإيمان بلسانه دون فتنة وابتلاء، وسنة الله فيمن سبقهم من المؤمنين في الأمم السابقة أنهم تعرضوا للفتن والابتلاءات، فتميز الصادقون من الكاذبين والصامدون من المتقلبين، فمِن هنا كان لابد من التعرُّض للمكاره والشدائد؛ لتصفية المعادن النفسية مما علق بها من الزَبَد الذي يذهب جفاءً.. فإن للشدائد دورها في إظهارها لجوهر المؤمن ونقاوته.