بقلم: سيد حسن

في الأدب العربي يُستخدم الليل والفجر والضحى والغروب والشروق بمعانيها الزمانية، وكذلك تُستعار لمعانٍ جمالية وأدبية، فالليل مثلاً يستخدم بمعناه الزمني كما يستخدم بمعنى العُسر والتَّوتُّر والمِحن والابتلاءات، وما يحيط بالإنسان في حياته من كدح، وذلك في مقابل الفجر والضحى، وما يمثله ذلك من يُسرٍ، وهي ساعات قليلة في حياة الانسان، والله يقول: ﴿وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ (الضحى: 1-2) أي امتدَّ وسكن.

انظر إلى هذا الليل الساجي فوق حياة الإنسان في مقابل الضحى الذي يمرُّ سريعًا، واقرأ أيضًا: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً* وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً﴾ (الإنسان: 25-26)؛ أي وسبِّحه ليلاً طويلاً ساجيًا كليلِ يونس- عليه السلام- في بطن الحوت، فكن كـ"يونس" من المسبِّحِين.

تذكَّرتُ هذه المعاني وأنا أتدبَّر سورةَ الفجر، فوقع في قلبي تأويلٌ جديد، يستخرج كنوزًا مهمة تُعين المؤمن في سيره في الحياة.

﴿وَالْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ* هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ* أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ* وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَدِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ* فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ* كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ* وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ* وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًا* وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا* كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا* وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا* وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى* يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي* فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ* وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ* يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ (سورة الفجر).

فالفجر الذي تسطع فيه المكاسب الإيمانية في الدنيا والآخرة يقابله عَشرُ ليالٍ كاملةٍ، بعضها يتعلَّق بالفرد وحده، وبعضها يتعلق بالفرد والجماعة؛ أي إن بعضها وَترٌ وبعضها شفعٌ، أما كيف تستطيع الرسالات الإلهية أن تبدِّد هذا الليل فيسري مؤذِنًا بفجرٍ، فذلك من الأمور التي يُقسِمُ بها الله تعالى، موجِّهًا خلقَه إلى التدبُّر والتفكُّر في الوسائل التي تحقِّق هذا الإنجاز، وتبدِّل الدنيا من حالٍ إلى حالٍ، وهذه الليالي العشر هي:

الليلة الأولى: ليلةُ عادٍ

﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ﴾ (الفجر: 7-8)؛ أي إن عادًا هذه كان لها السبق في وقتها، فهي تملِك العِمَاد في كلٍّ فروع الحياة، لقد كانت هي أمريكا الوقت في زمانها، والله تبارك وتعالى يخاطب عادًا هذه فيقول: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ* وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ* وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾ (الشعراء: 128-130)؛ أي إنهم فقدوا الرسالة الإنسانية في كل عملٍ يعملونه، فهم يبنون في كل ريعٍ آية؛ أي في كل توجه متميز في الحياة، والريع: المكان العالي الذي يميِّز المكان عمَّا حوله؛ ولكن هذا البناء لا يتوجه إلى الخير الإنساني، وإنما هو العبث في الحياة، فهم مثل هؤلاء الذين في زماننا، يبنون سلاحًا ذريًّا لا لينفعوا العباد، وإنما ليُهلكوا به الحرثَ والنَّسل، أو جهازًا إعلاميًّا جبَّارًا يعبثون به في عقول الناس وأفئدتهم، وهم في كل ما يصنعون لا يرجون إلا طولَ الأملِ أو الخلودِ، مُنكرين البعث والحساب.

كل حساباتهم في الحياة تقوم على شهواتهم وأهوائهم، ثم إنهم وقد افتقدوا أي رسالة إنسانية تربطهم بخالق هذا الوجود.. امتلأت قلوبهم بالغِبطة، فهم يبطشون بجبروتٍ إجراميٍّ لا رحمةَ ولا رأفةَ، تمامًا كالذي نراه اليوم في قوى الاستكبار العالمي.. جبروتٌ إجراميٌّ في كل اتجاهٍ، وتفرُّدٌ بالقوة في كل اتجاه، وعبثٌ وبطشٌ في كل اتجاه، حضاراتٌ تفتقِدُ لرسالات السماء.

مثل هذه الحضارات تطيل فترات الليل في حياة البشرية، ولن يسري ليلها إلا برسالة إنسانية، يحملها نفَرٌ مؤمنون، فيجعلون لكل سعي في الحياة غاية ربانية وهدفًا قاصدًا وجه الله: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ* يَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ* وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ* قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ* مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ* إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ* وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ* وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ* وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾ (هود: 50-60).

الليلة الثانية: ليلة ثمود

وثمود كذَّبت رسالات ربها.. فكيف كان تكذيبُها؟ يقول الله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا﴾ (الشمس: 11)؛ أي إن تكذيبها وكفرها كان عن طريق الطغيان، والطغيان ألوان وأنواع، وطغيان ثمود كان طغيانًا تنمويًّا، والطغيان يبعث الأشقياء فينبعثون ويلتفُّون حول الطاغية، ويبعد الشُّرفاء الأتقياء، والقضية التنموية هنا كانت تتعلق بثروة حيوانية، تمثَّلت في ناقة "صالح"، والناقة هنا تمثل وسيلةً للنقل، ومصدرًا للألبان، ومصدرًا للصُّوف، ومصدرًا للسماد، وآلةَ حرب وحرث وسُقيا، فإذا بلغت من العمر مبلغًا كانت مصدرًا للَّحمِ؛ ولكنَّ ثمودَ لا تريد أن تصبر على الناقة لتقوم بمهامِّها التنمويَّة، تريد أن تذبَحها الآن، ويقول لهم نبيهم "صالح": ﴿هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ* وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ* فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ﴾ (الشعراء: 155-157)، كأنه يقول لهم: خطِّطوا نظامَكُم التنموي، آخذين في الاعتبار التخطيطَ للآجِل، فلا تُسرِفوا في العَاجل على حسابِ الآجِل، اجعلوا للآجل شِربًا وللعاجل شِربًا، ولا تتَّبعوا طريق المسرفين.

وكل أمة تترك تنميتها لنظام طاغوتي سوف تسلك طريق ثمود في الهلاك المبين، فأمةٌ تُهمِل أرضها الزراعية، وتبني عليها قصورًا فارهين.. أمةٌ ثموديةٌ، وأمةٌ تهمل ثرواتها الرِّكازية وتنفقها على بطونها وشهواتها.. أمةٌ ثموديةٌ، وأمةٌ تهمل ثروتها البشَرية وتحوِّلها إلى طاقة استهلاكية.. أمةٌ ثموديةٌ، وأمةٌ يتحول فيها صانعو القرار إلى سماسرة وتجَّار يبيعون ثروات أمتهم لكل الأممِ.. هي أمةٌ ثموديةٌ!!

الليلة الثالثة: فِرعون ومَلَؤه

﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 4) قصة فرعون نموذج للطغيان والاستكبار السياسي، كثيرة التكرار في حياة الجماعات والشعوب، أصحاب النفوذِ الطغاة يسعون لتقسيم الأمة إلى شِيَعٍ ضعيفةٍ، وبالطبع يسهم الناس في تسهيل مهمة الملأ الإجرامي بثقافاتهم المَرَضِيَّة، وعلاقاتهم المضطَّربة، فلفظ (جعل) في الآية تعني إرادة فرعونية، وقابلية للتشييع والتحزب عند الناس، وكلما زادت القابلية عند الناس زاد العلو الفرعوني، فإذا حدث ذلك سَهُلَت مهمَّة الفرعون في البطشِ والقهرِ لمن يشاء.

فكل طائفةٍ لا يهمُّها قهرُ جارتها، وتبحث عن النجاة بنفسها، ويؤول الأمر في النهاية إلى أن يضربوا جميعًا ويقهروا جميعًا، وفرعون في مكرِه هو وملؤه، يستخدم السحر في إضلال الناس، كما تفعل آلة الإعلام الجبارة هذه الأيام؛ حيث تسحر أعين الناس وأفئدتهم، فيحسبون الضلالة هدى، ويظنون الهدى ضلالاً، وتقلبهم آلة الإعلام الساحرة ذات اليمين وذات الشمال آناء الليل وأطراف النهار، وفرعون وملؤه يضيِّقون ويضيِّقون على كل المحاولات الإصلاحية، ويستنفرون الأمة ضدها بسحرهم.

وقصة فرعون وملئه من أسود الليالي في تاريخ الناس، وهي قصة متكررة جدًّا، ولذلك كان التركيز القرآني عليها كمثال لما ينبغي أن يتنبه إليه الناس، وينظروا كيف يمكن أن نمنع تكون الملأ الفرعوني؟ وكيف يمكن أن تسود ثقافة بنائية بين الناس تجعلهم محصَّنين ضدَّ التفرقة شِيعًا وأحزابًا؟ والشيع والأحزاب لا تعني اختفاء الجماعات المتمايزة عرقيًّا أو عقديًّا أو مهنيًّا أو اجتماعيًّا، ففي رأيي أن هذه التمايُزات ستبقى وقودًا للخير والتنافس الشريف، والمطلوب ليس إلغاءها، وإنما المطلوب أن تتكامل الجهود، وتلتقي القلوب على الكلمة السواء التي ننفق عليها جميعًا، ونقطع الطريق على فرعونية فرعون وملئه.

الليلة الرابعة: الابتلاء بالنعم

﴿فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ (الفجر: 15)، فالإنسان الذي يظن أنه في نعمةٍ وخيرٍ نتيجة استحقاقه لهذه النعمة لا يدري أنه في ليلٍ مظلمٍ بهيمٍ، ولا يدري أن هذه النعم هي ابتلاء من الله- تعالى- ليمتحنه ويراه ماذا هو فاعل بها؟ أيستخدمها في مرضاة الله، أم في سخطه؟ أينفقها في سبيل الله، أم يكنزها على قلبه؟ أيتخفف منها بالعطاء أم يحبها قَناطِيرَ مُقنطَرة؟ إن الشعور بالاستحقاق يحيل حياة المرء إلى جحيم ويحول بينه وبين العطاء المتجدد.

وأنا أقارن دائمًا بين بعض الأساتذة في الجامعة الذين يرون أن هذه الجامعة وهذا الوطن أعطاهم فأغدق، وأنهم مدينون له بالعطاء المتجدِّد، وبين أولئك الذين يشعرون أن ما وصلوا إليه من علم ومكانة هو استحقاق لهم، وعلى الوطن والجامعة أن تدفع لهم مزيدًا حتى يبذلوا، وإلا فإنَّهم تاركو الجامعة إلى غيرها في الخارج؛ ليأخذوا ما يستحقونه، أقارنُ بين الصنفين، وأرى أن الشيطان يزيِّن للصنف الثاني، ويضخم شعور الاستحقاق للعطاء، و"قارون" مَثَلٌ تاريخيٌّ لهذا المرض النفسي العُضال.

﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ* قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ (القصص: 76-78) هذا هو مَكمَنٌ الدَّاء الشعور بالاستحقاق، وليس الشعور بالابتلاء.. هذا الشعور الذي يؤدي في النهاية إلى الخسف والهلاك.

الليلة الخامسة: الابتلاء بالمَنع

﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ (الفجر: 16) عندما أسترجع حياتي التي مضت أحمد الله أن ضيَّق عليَّ الرزق في فترات لو وسَّع عليَّ فيها لكنت من الهالكين، فالابتلاء بالتضييق يكون أحيانًا للتربية والتدريب حتى يصمد الإنسان في مواقف تزِلُّ فيها الأقدام.

والرزق ليس المال وحده، والعاقل من نظر في الرزق كلِّه، المال والعافية والدين، والراحة النفسية، والأهل والمجتمع، والمناخ والبيئة والرابطة الأسرية والاجتماعية، والقدرة على العمل، وتوفُّر العمل- عَظُم أو صَغُر- ينظر في هذا كلِّه، ويحمد الله على ما أعطاه.

وداءُ الإنسان العضال أن ينظر إلى جزئية بعينها، فيرى نفسه مُهانًا فيها، بالتَّطلع إلى غيره، بينما لا ينظر إلى الأمر كله، لنفسه ولغيره، والقرآن يقول: ﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ (طه: 131)، والساخطون على حياتهم الشاعرون دائمًا أنهم مهانون من قِبَل ربهم، المتطلعون دائمًا إلى ما في أيدي غيرهم، أو بتعبير القرآن "الآبقون إلى الفُلك المشحونِ" بما ليس عندهم- هؤلاء جميعًا في ليلة ليلاء، وجحيم بيِّنٍ.

الليلة السادسة: ﴿كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ (الفجر: 17)

واليتيم هو وصف لكل من فقد الأسرة الراعية، في عمرٍ هو في أمسِّ الحاجة إلى هذه الرعاية، ولذلك فإن من إكرام اليتيم أن يسعى المجتمع إلى حماية الأسرة من التفكك حتى ترعى أولادها، ولذلك فإن الإسلام يحرص أشدَّ الحرص على منظومة الأسرة؛ سواء كانت صغيرة، أو ممتدة، ويفعل ذلك بصيانة الأخلاق، وبالتشريع المحكم للزواج والطلاق والميراث؛ أي إن إكرام اليتيم ينبغي أن يكون منظومة متكاملة، تبدأ بإعداد الآباء والأمهات، وانتهاءً بالرعاية المادية لهم ولذويهم.

والمجتمعات التي لا تُكرِم اليتيم هي المجتمعات التي لا تكرِم نظام الأسرة، فيكثر فيها الفِسق، وأولاد العلاقات المحرَّمة ممَّن لا يَعرِفون آباءهم، وينشأ بعيدًا عن أحضان الأسرة، فيُحرَمون حتى من أسباب الدفء الحيواني التي تشعر به الحيوانات من أمهاتهم.

إنَّ إكرام اليتيم عملٌ فردي وعملٌ جماعي، فكل إنسان يكرم اليتامى في محيط أسرته وإمكانياته، وكل مجتمع ينبغي أن ينشئ المؤسسات القادرة على حماية الأسرة، ومن ثَمَّ حماية اليتامى، من خلال نظام أخلاقي ونظام تشريعي ونظام مؤسسي، وكل مجتمع يهمل في الحفاظ على منظومة الزواج المنشئ لمنظومة الأسرة هو مجتمع يقهر اليتامى، حتى لو تغنى بحقوق الطفل.

إن أعظم إنسان خلقه الله على وجه الأرض هو سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- نشأ يتيمًا؛ ولكن الله- تبارك وتعالى- آواه أسريًّا في ظلال أهله الطيبين، وآواه اجتماعيًّا في مجتمعٍ قويٍّ قائدٍ، وظل يأويه ويرعاه حتى اصطفاه للرسالة الخاتمة، هذه الرسالة التي تجعل التكذيب بالدين هو المظهر لعملية دعِّ اليتيم ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ* بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ* وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ (الماعون: 1-3) فكل إنسان يدعُّ اليتيم ولا يُكرِمه، وكل مجتمع يدعُّ اليتيمَ ولا يكرمه هو مجتمع يعيش في ظلمة الليل البهيم.

الليلة السابعة: ﴿وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ (الفجر: 18)

من هو المسكين: قيل: المسكين من له مالٌ أو كسبٌ لا يكفيه، وذلك في مقابل الفقير الذي لا مال له ولا كسب يقع موقعًا من حاجته، وأصل الفقير، المكسور فِقار الظهر، أو هو من الفُقرة أي الحُفرة، ثم استعمل فيما ذكر، لانكساره بعُدمِه وحاجته، وكونه أدنى حالاً من أكثر الناس، كما أن الحفرة أدنى من سطح الأرض المستوية.

والمسكين مأخوذ من السكون ضد الحركة، وهناك نوعان من السكون: سكونٌ يُقعِد صاحِبَه عن العَمل، وسكونٌ لا يُقعِد صاحبه عن العمل، إذا توفَّر لديه هذا العمل.

السكون الأول الذي يُقعِد صاحبه عن العمل يدخل صاحبه في دائرة الفقراء، إذا صاحب هذا السكون غياب أي إمكانيات حياتية.

أما السكون الثاني الذي يصاحبه قدرة على العمل؛ ولكن الأعمال غائبة، فهذا ربما ما يعنيه الاستخدام القرآني لكلمة (مسكين)، ولعل التمييز القرآني بين كلمتي الفقراء والمساكين كان للتركيز على طريق العلاج لحالة الفقراء والمساكين؛ فالفقراء بهذا التعريف يُمنَحون الصدقات من أجل توفير مستلزمات حياتهم الأساسية، أمَّا المساكين فيُمنَحون الصدقات من أجل إيجاد أعمال لهم.

ونحن نتوجَّه بصدقاتنا دائمًا للصنف الأول: الفقراء، صدقات مباشرة؛ ولكن الناس لا تنتبه إلى الخطورة البالغة في أن تتوجه بالصدقات الاستهلاكية لقوم قادرين على العمل.

إن هذا يزيد البطالة في بلادنا، ويحولنا جميعًا إلى عاطلين، ولذلك لابد أن تنشأ في بلادنا مؤسسات للحضِّ على إطعام المساكين القادرين على العمل، من خلال توفير أعمال لهم وتدريبهم عليها.

وفي كثير من مجتمعاتنا الإسلامية اليوم تتوجه الجهود لإطعام الفقراء؛ ولكننا لا نكاد نرى مؤسسة تعمل في الحضِّ على إنشاء منظومات أعمال جديدة؛ ليندفع إليها مساكين الأمة فيصلحوا حالهم ويصلحوا حال أمتهم.

الليلة الثامنة: ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًا﴾ (الفجر: 19)

يتحدث كثير من المفسرين عن التراث فيحصرونه في المال الموروث عن الآباء، وكيف يظلم الناس بُعضهم بعضًا، فيظلم الرجال الأقوياء النساء والأطفال وينهبون أموالهم ويلتهمون حقوقهم، كل ذلك رغم الوضوح التشريعي والتحذير الأخلاقي؛ ولكنَّ كثيرًا من الخُلطاءِ ليبغي بعضهمُ على بعضٍ بتعبير القرآن الكريم.

ولكنني أظن أن التراث أشمل من ذلك، وأظنه كل ما ورثه جيل عن جيل؛ سواء كان مالاً يورِّثه الآباء للأبناء، أو تمدينًا يورِّثه جيلٌ إلى جيلٍ، أو رِكازًا تحت الأرض يورِّثه الله للنَّاس أجيالاً متعاقبة، أو نظامًا حياتيًّا أبدعته أجيال سابقة، كل هذا يمكن أن نعتبره تراثًا ينبغي أن نتعامل معه بإحسان، ولا نأكله أكلاً لمَّا، فالآكل اللمِّ هو كناية عن التعامل الظالم والمستهتر والأحمق مع التراث، والله يقول: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآَخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (الأعراف: 169)، وكذلك يقول: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ (مريم : 59).

في تفسير آيةِ الأعراف يقول الشيخ "مخلوف": فخلف من بعدهم خلف؛ أي فجاء من بعد هؤلاء الذين فيهم الصالح وغير الصالح خَلْفٌ لا خير فيهم، والخلف: القَرنُ يجيء بعد القَرنِ، وهو بسكون اللام شائع فيمن يخلف بالسُّوء، وبفتحها فيمن يخلف بالخير، والعَرَض: متاع الدنيا وحطامها، والأدنى: الأقرب، والمراد به الدنيا، وهي من الدنوِّ للقربِ بالنسبة للآخرة؛ أي إنهم يأخذون عوضًا عن قول الحق متاع هذه الحياة الدنيا، وهو الرِّشوة في الأحكام والرِّشوة على التحريف؛ أي إن ميراث النبوة يتعامل معه الورثة بالتحريف والتزييف يبغون بذلك عَرَض الحياة الدنيا، وهذه مصيبة الناس في التعامل مع التراث؛ سواء كان مالاً أو نظامًا أو فكرًا أو عقائد.

يأكلونه أكلاً لمَّا؛ أي يحرفونه ويبدلونه ويفسرونه ابتغاء متاع الدنيا الزائل، ولم تَسلَم الأمم السابقة من ذلك، ولم تَسلَم أمةُ الإسلام من ذلك، وما تزال.

الليلة التاسعة: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ (الفجر: 20)

السؤال ما هي حاجيات الانسان الأساسية والتكميلية والتحسينية؟
الإجابة تعتمد على المكان والوقت؛ ولكن الإنسان مطالب أن يسعى في الحياة، لتوفير احتياجاته الأساسية من طعام وملبس ومسكن ونفقات لتعليم أولاده، وذلك في حدود معقولة من الزيادة والنقصان.

وكل زيادة فوق ذلك يسميها القرآن العفو، فيقول سبحانه وتعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ (البقرة: 119)، ويضع الفقهاء شرطًا زائدًا في تعريف العفو، فيقولون: العفو هو ما زاد عن الحاجة وارتضته النفس، فهناك مَن يقف عند الحاجة الأساسية وينفق ما فوقها، وهناك مَن يتوسع في الحاجة توسعًا كبيرًا، ثم ينفق ما زاد عليها، فما هو المقياس في تعريف الحاجة؟

المقياس هو اختيار المواقع في الآخرة، فهناك من يستهدف الفردوس الأعلى كما كان حال سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي كان يدعو ربه أن يجعل رِزق آلِ "محمدٍ" كفافًا، فإذا بقي شيء بعد وفاته فإنه يأمر أصحابه أن يردوه إلى بيت المال، ويقول: "نَحنُ معشرَ الأنبياءِ لا نُورَثُ، وما تركنَاهُ صَدَقَةً"، وهناك درجات دون ذلك، والأمر كلُّه متروك للاختيار البشري، فالله يدعونا إلى الجنة، والشيطان يدعونا إلى النار.

فلماذا لا يطمئن الإنسان في الحياة، وعنده رزق أيام كثيرة في المستقبل؟

بعض الصالحين عنده رِزق يومه وهو مطمئن به، فما بال بعض الناس يملكون رِزقهم ورِزق أحفادهم وما يزالون غير مطمئنين في حياتهم كأنَّ في بطونهم سُعارًا إلى المال؛ حلالُه وحرامُه؟!

إن الموقف من المال يفضح إيمان الرجال، ويعبر عنه تعبيرًا مبينًا، والقرآن عبَّر عن هذه المعاني في هذه الآية الجامعة: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ (الفجر: 20) أي حبًّا كثيرًا مع حرص وشرِّه، يقال: جمَّ الماء في الحوض، إذا كثر واجتمع، ومنه الجموم للبئر الكثيرة الماء، فمن الذي يشرب بئرًا وحده؟ ألا يكفيه في اليوم دَلوٌ أو دلوان؟ أليست البِئر للقبيلة كلِّها؟ ولو استأثر كل امرئ ببئر ماء فمن لنا بمليارات الآبار؟

وماذا لو أنفق الإنسان ما زاد عن حاجته مع تعريف معقول للحاجة؟ أليس الحب الجَمُّ للمال هو أصل من أصول الفساد في الأرض، وسبب من أسباب الحروب على مستوى الأفراد والجماعات والشعوب.

الليلة العاشرة: الليلة الأخيرة

﴿كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا* وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا* وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى* يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي* فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ* وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾ (الفجر: 22-26)

هذه الليلة الليلاء لا يعرف أسرارها إلا خالقها؛ ولكنها ليلة خانقة يتذكر فيها الإنسان كل عمله في الحياة.. يتذكر الهمسة واللمسة، يتذكر خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يتذكر ما غفل عنه الناس وما عرفوا، يتذكر كل شيء ويقول عندما يظن أنه هالك: يا ليتني قدمت لحياتي، ليلة ليلاء وِترِية، فكلنا آتيه يوم القيامة فردًا، لا صَحابة ولا صاحب ولا أبناء ولا آباء ولا أمًّا، الكل مذهول مذهول مذهول، فأي عذاب ينتظر المجرمين؛ وأي ميثاق يوثقون به، يوم مهول نجَّانا الله منه إلى جنَّته.

القَسَم: ﴿وَالْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ* هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ﴾ (الفجر: 1-5)، لقد استعرضنا الليالي العشر التي تحيط بالإنسان في حياته الفردية، وحياته الاجتماعية، وحياته السياسية والاقتصادية، وفيهن تِسع ليالٍ كان فيها مختارًا، ثم تحيط به الليلة الأخيرة لا يملك فيها إلا النَّدم، ورأينا أهمية النَّظر في طبائع هذه الليالي حتى يقدر الإنسان أن ينجح في امتحاناتها وابتلاءاتها، وحتى يسير ليلها ويمضي بعيدًا مُؤذِنًا بفجرٍ ينعم فيه الإنسان بالرضا والقبول من الله- تعالى- وكأن الله يوجهنا إلى التدبر في طبائع تلك الليالي والعمل على إعداد النفس والمجتمع لتجاوزها، وهو قَسَمٌ يتوجه به الله إلى كل ذي حِجرٍ؛ أي إلى العقول والقلوب التي تستطيع أن تفهم وتتدبر في الحركة الإنسانية، وتحيط بها خُبرًا، فتحجر على سفاهتها، وتُطلق العنان لكلِّ قوى الخير الكامنة فيها.

الفجر الأخير: وكما ابتدأت السورة بفجرٍ انتهت بفجرٍ:

فالإنسان يولد على الفطرة، وهذا فجر حياته، ويمر في الحياة ويتقلب فيها؛ فإذا عاش بِدينِ الفطرة المطمئنة إلى ربها، الواثقة فيه فإن الله يبدلها بليالي الدنيا الخشنة فجرًا جديدًا يوم القيامة.

فالله- تعالى- يُقسِم أنَّ كلَّ ليلٍ سوف يسري وكل عسر سوف يمضي، شريطة أمرين:
الأمر الأول: الاطمئنان إلى جانب الله والثقة به، وجودًا وحكمة وعلمًا وشرعًا.

الأمر الآخر: الرجوع إلى الله في كلِّ شأنٍ من شئون الدنيا والآخرة: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرّجْعَى﴾ (العلق: 8) ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام: 162)، فانظر إلى هذا النداء الجميل: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ (الفجر: 27-30)؛ أي ارجعي أيتها النفس غير ساخطة ولا متبرمة؛ ولكن ارجعي في حبٍّ وبهجةٍ وحُبورٍ راضيةً بالقرب منه ساعيةً إليه، ذلك حتى تنالي رضا ربك، وتدخلي في عباده في الدنيا، وتدخلي مع عباده جنته في الآخرة.

اللهم اجعلنا من عبادِك الذين رضيتَ عنهم ورضوا عنك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.