بقلم: صادق أمين

مع انقضاء عام، وبدء عام، مع فوات ساعة، وبدء أخرى، مع انتهاء يوم وبدء آخر، مع تعاقب الليل والنهار، مع غياب شمس وشروقها، نقف مع النفس وقفات، والعاقل مَن وقف، والصادق مَن تفكر، والحكيم مَن اعتبر، ومَن أيقن بالرحيل استعد وتزود، ومن غرَّه الأملُ نسي الأجل، وخسر ميدان العمل.

امرأة ذات تقوى وصلاح، نظرت في أمرها، فأيقنت بأمرها (الدنيا)، وأدركت ما يأتي من شأنها، فهتفت من أعماقها، تنذر من عاقبة بطشها، ودُنو لحظة فراقها، فطار النوم من عينها، وفارقت المضاجع، وأنست في ظلامها، تناجي ربها، فمدت بهدوء يدها، وأيقظت زوجها، وقالت له: "يا أبا عبد الله قد سارت القافلة".

وأخرى من أخواتها، وقفت ذات يوم تخاطب ولدها، وقد غرَّه شبابه، وألهاه حماسه، وتبع في ذلك لذاته وشهواته، كما هو حال الكثيرين منا، تنصرم أوقاتهم في غبن، وتضيع أنفاسهم هباءً منثورًا، وتبعثر أعمارهم ريح اللهو والعبث.. وقفت بين يدي ولدها، وقالت له: "ويحك يا بني، احذر بطَّالات الليل والنهار (ما يفسده ويبطله)، فتنقضي مهلات (جمع مهلة) الأعمار، وأنت غير ناظر لنفسك، ولا مستعد لسفرك..

ويحك يا بني، ما عن الجنة عوض، ولا في ركوب المعاصي ثمن من حلول النار.. ويحك يا بني، مهِّد لنفسك قبل أن يُحال بينك وبين ذلك، وجِدَّ قبل أن يجد الأمرُ بك، واحذر سطوات الدهر، وكيد الملعون عند هجوم الدنيا بالفتن، وتقلبها بالعبر، فعند ذلك يهتم التقي كيف ينجو من مصائبها.. بؤسًا لك يا بني، إن عصيت الله، وقد عرفته، وعرفت إحسانه، وأطعت إبليس، وقد عرفته وعرفت طغيانه".

نعم، ويحك، ما من الجنة عوض، وهل في دنيا فانية، ظلها زائل، ونعيمها حائل، حلالها حساب، وحرامها عقاب، ما يعوض نعيمًا خالدًا، وبقاءً دائمًا، وحالاً سالمًا؟!!

نعم ويحك، وهل في المعاصي وارتكابها ثمن لحلول النار ودخولها؟! أي عاقل يرى ذلك، وأي عاقل يقبل ذلك، والنار كما يقول هذا العابد الزاهد: "ما تركت للعاقل سرورًا في أهل ولا ولد، ولبئس المصير مصير مفرط في المهلة، ومتكل على الغرة، وطول الغفلة".

والنجاة كما أوصى أحد العابدين في: "أن تكون الأثرة لله في قلوبكم، المستولية على جميع أموركم، يوشك أن تفوزوا بذلك يوم يخسر المبطلون".

نعم، ويحك ثم ويحك، يوم رضيت بالراحة والغفلة والشهوات والملذات والمتع.. عوضًا عن الجنة.. وهي ملذات مشوبة، ومتع موقوتة، وشهوات مسلوبة، وراحة معطوبة.

نعم، ويحك ثم ويحك، يوم أنست بالمتاع الزائل، وتمسكت بالحبل الواهي، ورضيت بالعاجل الفاني.. نعم، ويحك ثم ويحك، يوم بعت آخرتك بدنيا غيرك، تمدح وترائي وتنافق، بغير حساب.. فلا كنت صاحب دنيا فتُرجى، ولا صاحب آخرة فتخشى.

قيل لأحدهم- وقد أنفق ما لديه من مال وصله في الصباح، إذ رؤي في المساء يطلب شيئًا لنفسه في أحد وديان القرية-: لو تركت لنفسك شيئًا مما كان معك. فقال: لم أعلم أني أعيش إلى هذا الوقت.

ربما يكون هذا الأمر صعبًا علينا حتى في تصديقه، فضلاً عن تطبيقه، لكن فيه روح الآخرة، وفيه سبل النجاة، إن صدقنا، وطبقنا، أولم يقل لنا عبدالله بن عمر- رضي الله عنه-: "إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح".. فأين نحن من هذا؟!

جاؤوها يطلبون النصيحة، وبها نختم مقالنا، علنا نبدأ بها عامنا، فقالت لهم، والدمع يجري من مقلتيها: "إخوتي، وقرة عيني، مثِّلوا القيامة نُصب أبصار قلوبكم، وردوا على أنفسكم ما تقدم من أعمالكم، فما ظننتم أنه يجوز في ذلك اليوم، فارغبوا إلى السيد- سبحانه- في قبوله، وتمام النعمة فيه، وما خفتم أن يرد في ذلك اليوم عليكم، فخذوا في إصلاحه من اليوم، ولا تغفلوا عن أنفسكم، فترد عليكم حيث لا يوجد البدل، ولا يقدر على الفداء.

إخوتي وقرة عيني.. بقدر ما تعرضون عن الله يعرض عنكم بخيره، وبقدر ما تقبلون عليه كذلك يقبل عليكم، ويزيدكم من فضله، والله واسع كريم".