اتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله..!!

من تراث الراحل الأستاذ/ لاشين أبوشنب*

ماذا دهى الناس؟! ما هذا الفساد المنتشر؟! ما هذا الجو الكئيب؟!.. نقرأ ونسمع ونشاهد في كل وقت وفي كل يوم أحداثًا وجرائم تهزُّ المشاعر وتُرهق الأعصاب، تأْلَم لها النفس، ويحزن لها القلب، وتؤرِّق من النوم.. بغي وظلم، وسجن واعتقال، وتعذيب وقتل، ونسف وتدمير، وتشريد وإبعاد، وحرق واغتصاب، وخطف وتفجير.. وألوان شتى من البطش والاضطهاد..!!

ماذا يظن هؤلاء الظلمة المعتدون؟! ألا يعلمون أن لهذا الكون إلهًا عظيمًا قادرًا؟ وأنه سبحانه أقدرُ عليهم أكثر من قدرتهم على من يظلمونهم؟! وأن الله حرَّم الظلم على نفسه وجعله حرامًا بين الناس؟! وأنه حذَّر تحذيرًا شديدًا من قتل نفس بغير حق؟!

هل ظنَّ هؤلاء الطغاة الظالمون أن اللهَ غير مطلع على ما يفعلون؟! أو أنهم سيفلتون من الحساب والعقاب؟! أم أنهم أصابتهم لوثة الإلحاد وإنكار وجود الله، وبالتالي لا يؤمنون باليوم الآخر والبعث والحساب؟!

ألا فليعلموا إن كانوا يجهلون، ولينتبهوا إن كانوا غافلين أنهم سيموتون ثم يُبعثون ويحاسبون ويُجزَون على ما كانوا يعملون، وإن كذبوا هذا المصير بمراحله فليمنعوا أنفسهم من الموت إن كانوا يستطيعون..!!

اعلموا أيها الظالمون أنكم حينما تموتون سيُكشف عنكم الغطاء، وتعلمون مصيركم، وتندمون حين لا ينفع الندم، وتتمنَّون لو عُدتم إلى الدنيا لتعملوا صالحًا، ولكن لن تنفع الأماني ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(100)﴾ (المؤمنون).

اعلموا أيها الظالمون.. يا من تظلمون الناس وتبغون في الأرض بغير الحق أنه ليس بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، وشتَّان بين الحياتين..!! بين نعيم ليس بعده نعيمٌ وعذاب في نار وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد.. فأين المفرُّ؟!

إن بعض الضالِّين يحرقون جثث موتاهم وينثرون رمادهم في الهواء، وقد ظنُّوا أنهم بهذا يجعلون بعثهم صعبًا، ألا خابوا وخسئوا..!! إن الله لا يُعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء.

إن الظالمين- وجنودهم- يظنون أنهم إذا أفلتوا من المحاسبة والمحاكمة والعقاب في الدنيا فقد نجَوا، ولكن نقول لهم إن ربكم بالمرصاد، يمهل ولا يهمل، ويزيِّن للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)﴾ (الحج).

لقد ظن الناس بعد انهيار روسيا وانتهاء الصراع بينها وبين الغرب- وعلى رأسه أمريكا- وبعد إيقاف الحروب الباردة التي كانت تُغذَّى من الطرفين.. ظن الناس يومئذ أن العالم سيهنأ بفترة هادئة خالية من الحروب، ومن الظلم والظلام، ولكن ماذا نرى؟! نرى الحرب تنشب في أجزاء كثيرة من العالم، ونرى القتل يستشري، وكل ذلك بإيعاز ورعاية من أمريكا وبعض دول الغرب!! فهل هذا هو المقصود بالنظام العالمي الجديد الذي بشَّرت به أمريكا؟ ألا في الفتنة سقطوا..!!

أي عار هذا الذي حدث- ولا يزال- للمسلمين والمسلمات في فلسطين، عار وخزي وصَمَ العالم الإسلامي فضلاً عن العالم كله، لن تمحوه الأيام، ما أحسب أن ما قام به فرعون من ظلم وبغي ضد موسى- عليه السلام- وقومه يساوي شيئًا بالنسبة لما يقوم به اليهود الأنجاس ضد المسلمين في فلسطين، لقد صار كل ما يفعلونه فيهم معلومًا للناس كافة، وصار القلم يأبَى تسجيله مرةً ثانيةً لما يتركه ذلك من ألمٍ وأسًى عميق، ولا نرى تحركًا إيجابيًّا يوقِف هذه المأساة، بخلاف ما حدث في أزمة الخليج من جلب لقُوى دول كثيرة، وتصعيد لقرارات مجلس الأمن، ثم تدمير العراق، وما ذلك إلا لأن بترول الشرق الأوسط شريان حياة للغرب، فيجب التحكُّم فيه، ولو تم عشر معشار ما يحدث في فلسطين لمسيحيين ومسيحيات لتبدل الموقف.

وهذه المهزلة التي تتم فصولها في العراق والسودان، وما يتعرض له المسلمون على يد عُبَّاد البقر في الهند وفي كشمير من صور البطش والتنكيل والتقتيل والاغتصاب، ولا تحرك من أي دولة إسلامية أو أجنبية، وهكذا صار الدم المسلم أرخصَ دم على وجه الأرض، وتتكرر المأساة في أماكن أخرى في العالم.

الحكم الشمولي يساوي عدم الاستقرار

وللأسف الشديد ما زال الحكم الشمولي في كثير من دولنا العربية والإسلامية، وتسود كل الدول حالةٌ من الصراع والصدام وعدم الاستقرار؛ لأن أقليةً تحكم أغلبيةً بغير إرادتها، ولن تخدع الأغلبية بديمقراطية زائفة لا تستر عورات الدكتاتورية، ولن تهدأ الأوضاع ويحدث الاستقرار والازدهار إلا بعد تصحيح الأوضاع ويتم تمثيل حقيقي للشعوب بانتخابات حرة نزيهة، ويقوم حكمٌ يمثل الشعب تمثيلاً حقيقيًّا، فتزول الفجوة- بل الجفوة- بين الشعوب وحكوماتها، ويحدث التعاون للخروج من هذه الأزمات القاتلة والتبعية الذليلة وعدم الاكتفاء الذاتي.

مدنية المادة وأمانة الرسالة

لقد طغت على العالم موجةٌ عاتيةٌ من مدنية المادة وحضارة المتع والشهوات، وانحسرت الروح إلى حد ما في زوايا النسيان، فكانت الحروب العالمية والحروب الباردة، وما يتم الآن ضد المسلمين بما يشبه الحروب الصليبية، ولكن تحت لافتات مخادعة، ولكننا كمسلمين لن نستسلم لهذا الطغيان والظلم؛ فهذا الإسلام- الدين الحق- يحمِّلنا كمسلمين أمانةَ هداية البشرية، ودعوة الناس إلى هُدى السماء، وأن نصبر على دعوتهم وأذاهم؛ لنخرجهم من ظلمات المادة إلى نور الإيمان، وقدوتنا في ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصحابته الذين تحمَّلوا أذى المشركين حتى نصرَهم الله.

ونحن نعلم أن الطريق طويلٌ وشاقٌّ ومليءٌ بالعقبات والمحن والابتلاءات، ولكننا لن نيأس ﴿إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ﴾ (يوسف: من الآية 87)، فإننا نرى- رغم طول ليل الظلم والظلام- أن وعد الله سيتحقق لعباده المؤمنين، وأن كل هذا الكيد والزيف، الذي يحاول أعداء الإسلام- من إلحاديين وصهاينة وعلمانيين- أن يشوهوا به وجه الإسلام المشرق، ويستفزُّون بذلك مشاعر المسلمين، الذين يُمنعون من الرد عليهم.. كل هذا الزيف سيذهب جفاءً، ويبقى ما ينفع الناس، فالحق أحق أن يُتَّبع، ولن يستطيعوا أن يوقفوا المدَّ الإسلامي النامي على الساحة العالمية، فالإسلام دينُ العزة والقوة، ويرفض الذلة والهوان ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)﴾ (الشورى) ... ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51)﴾ (غافر).

عوامل النجاح

ونذكِّر الطغاة والظالمين أنه رغم كل هذه العقبات فإن هناك عوامل نجاح لن تَثبت أمامها عقبة، ولن يقف أمامها عائق، فنحن ندعو بدعوة الله وهي أسمى الدعوات، وننادي بفكرة الإسلام وهي أقوى الفِكَر، ونقدم للناس شريعة القرآن وهي أعدل الشرائع، ثم إن العالم كله في حاجة إلى هذه الدعوة، وكل ما فيه يمهِّد لها ويهيئ سبيلها، ونحن بحمد الله برآءُ من المطامع الشخصية، بعيدون عن المنافع الذاتية، ولا نقصد إلا وجه الله وخير الناس، ولا نعمل إلا ابتغاء مرضاته، ثم إننا بعد ذلك نطلب تأييد الله ونصرته، ومن نصره الله فلا غالب له: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ (11)﴾ (محمد).

أيها الطغاة.. أفيقوا

أفيقوا أيها الطغاة، واعلموا أن هذا الكون وما يجري فيه من أحداث لا يتم وفق مقاييسكم المادية، لكن لهذا الكون خالقًا نظَّمه وأبدعَه، وله سنن لا تتبدل ولا تتغير، تخضع لها كل الأحداث والتغيُّرات، فبقاء الأمم وزوالُها لا يعتمد على القوة المادية فقط، ولكن الحرية والعدل أساس للتمكين والاستقرار، والظلم والطغيان سبب في الزوال والضياع.. لهذا انهارت روسيا؛ لأنها قامت على الكبت والظلم والقتل والإلحاد، وستنهار أمريكا والغرب، طالما أنهما يساندان الظلم الصهيوني، بل يقومان به، ويكيلان بمكيالين.. ثم إن دولهم  شاعَ فيها تدني الأخلاق وانتشار المخدرات والشذوذ الجنسي والربا بأزماته القاتلة، ولن يدوم ملك تسودُه عوامل الهدم هذه، مهما كانت قوته المادية.

اتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله

وفي النهاية فإنا نشعر نحوكم- أيها الطغاة الظالمون- بالإشفاق، ونتمنى لكم أن تفيقوا من غفلتكم، وتعدلوا عن طغيانكم وبطشكم، وتعودوا إلى ربكم ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)﴾ (البقرة)، وتجتنَّبوا قول الحسرة والندامة ﴿يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)﴾ (القيامة)، وكذلك ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً (29)﴾ (الفرقان).

أما أنتم أيها المظلومون من المسلمين فأبشروا وابعثوا الأمل في النفوس، وأسوق لكم قول الله تعالى: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)﴾ (آل عمران)، وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)﴾ (الأنفال).

فعليكم أن تصبروا وتصابروا, كما صبرَ مَن قبلَكم؛ فتفوزوا كما فازوا، وتنتصروا كما انتصروا ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)﴾ (يوسف).. ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)﴾ (الصف).

----------

* عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين.