بقلم: عبدالرحمن فهمي

الإسلام نظام شامل، ومنهج حياة وعقيدة وشريعة ودولة، عواطف جياشة، وضوابط محكمة، ولقد تضمنت الشريعة القواعد والأحكام التي تحكم العبادات وتضبط المعاملات في اتساق محكم؛ بحيث يحيا الإنسانُ حياةً طيبةً، عابدًا لله ويفوز برضاء ربه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

وانطلاقًا من هذا الفهم فنحن نعتقد أن المعاملات المالية يمكن أن يحولها المسلم إلى عبادات، شريطةَ أن تكون خالصةً لوجه الله تعالى، وضبطها بالضوابط الشرعية بحيث تسير على وفق منهج الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم- كما أن العلاقات بين المؤمنين تقوم على أساس الأخوَّة في الله وهي منحة روحية من الله- عز وجل-وهي نعمة ربانية يقذفها الله في قلوب المؤمنين، وقوامها الإيمان بالله قال تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" (الحجرات: 10)، وقال تعالى: "وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا" (آل عمران: 103)، وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "الأخوَّة أخت الإيمان والتفرق أخوه الكفر".

ولما كان للخلافات المالية أثر على بناء الأخوة، والإضعاف من رابطتها؛ لذلك كانت هناك ضرورة وواجب شرعي لأن نوضح لإخواننا بعض الضوابط الإيمانية والشرعية التي يجب الالتزام بها في تلك المعاملات المالية، وذلك ليعرف الأخ المسلم الحق فيتبعَه، ويرى الباطل فيبتعدَ عنه، وندعو الله- عز وجل- أن ينفع بهذه الكلمات، وأن تؤتي ثمارها المرجوَّة منها، واللهُ من وراء القصد.. وصلى الله وسلم وبارَك على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

أولاً: المخالفات الشرعية في المعاملات المالية التي تهدم رابطة الأخوَّة

ومن أهمها ما يلي:

1- عدم كتابة الديون والقروض

2- عدم توثيق رد الأمانات إلى أهلها

3- عدم كتابة عقود المشاركات

4- عدم الاتفاق على كيفية توزيع الأرباح

5- إعطاء المال لمن لا خبرةَ له

6- استغلال سيف الحياء والخجل

7- عدم عدِّ المال عند تسلمه

8- الخلط بين حقوق صاحب المال وحقوق العمل في سبيل الله

وهذه المخالفات هي التي تنشئ بذرةَ الخلاف والشقاق بين أبناء الدعوة، ويحق لنا أن نهجرَها إلى التعامل بالضوابط الشرعية، وهي عكس هذه المخالفات؛ إذ بها نتجنَّب كثيرًا من المشكلات، ويكون التعاون بين المسلمين، والإيثار والمحبة والرحمة والعفو والتنفيس وقت الشدة، والتكافل عند العجز، ويحب المسلم لأخيه ما يحبه لنفسه، ويظلُّهم الله يوم القيامة في ظلِّ عرشِه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه.

ثانيًا: الضوابط الإيمانية للمعاملات المالية

لا بدَّ- وقبل أن نخوض في الحديث عن الضوابط الإيمانية- أن نشير إلى أهمية الفهم الصحيح والواضح لهذه المعاملات المالية في ضوء الشرع؛ قال صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"، وقال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: "لا يبِع في سوقنا من لا يفقهُ وإلا أكَل الرِّبا- أي الحرام- رضي أم أبى"، وهذا الفهم إنما يبحث عنه المسلم التقي حتى تكون معاملاته المالية صالحةً على منهاج الله ورسوله؛ بحيث يتعرف على الأحكام الفقهية والشرعية المتعلقة بكل معاملة يدخل فيها وذلك قبل أن يدخلها.

وبعد الفهم الدقيق لهذه المعاملات المالية في ضوء الشرع الحنيف يأتي التركيز على الوازع الإيماني والضمير الحي، والذي يخرج بهذه الأحكام الفقيهة الشرعية إلى حيِّز التنفيذ، ومن أهم الضوابط الإيمانية للمعاملات المالية ما يلي:

أ- الإخلاص لله- عز وجل- في هذه المعاملات

بحيث يراعى المسلم ربه ولا يراعي الأشخاص، فهو عندما يفي بوعده أو عهده، أو يتحمل أذى إخوانه له أو تقصيرهم، فهو إنما يعامل ربَّه ولا يعامل إخوانه، فتراه سمحًا في معاملاته، محسنًا فيها، سواءٌ تسامَح معه الناس أو لم يتسامحوا، سواءٌ أحسنوا إليه أم أساءوا، فعن عمر بن الخطاب قال قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.." (رواه البخاري ومسلم)، وقول أحد الصالحين: "رُبَّ عمل صغير تعظِّمه النية، ورُبَّ عمل عظيم تحقره النية" ومن هنا ترى هذا المسلم متميزًا بما يلي:

1- التسامح في كل معاملاته.. قال- صلى الله عليه وسلم-: "رحم الله رجلاً سمْحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى" (رواه البخاري).

2- التيسير على المعسر.. قال تعالى:"وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ" (البقرة: 280)، وعن أبي هريرة قال قال- صلى الله عليه وسلم-: "من أنظر معسرًا أو وضع له- أي وضع عنه دَينه- أظله الله في ظله" (رواه الترمذي)، وعن أبي قتادة قال قال- صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن ينجيَه الله من كرب يوم القيامة فلينفِّس عن معسر" (رواه مسلم).

3- الإيثار.. وأقصد به أن يؤثِر الأخ على نفسه عند الخلاف في المعاملات المالية، قال تعالى: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ" (الحشر: 9)، ويقول أحد الصالحين لولده: "يا بني إذا عرضت لك صحبة الرجال فاصحب من إذا صحبتَه زانك، ومن إذا خدمتَه صانَك، ومن إذا رأى منك حسنةً عدَّها، ومن إذا رأى منك سيئةً سدَّها، ومن إذا تنازعتُما في أمرٍ آثرَك على نفسه، ومن إذا سألته أعطاكَ، ومن إذا نزلَتْ بك نازلةٌ واساك".

4- القناعة بالربح اليسير.. ويُقصد بها القناعة باليسير من الدنيا، وذلك أن المسلم يعلم أنه ليس له من الدنيا إلا ما أكَل فأفنى، أو لبِس فأبلى، وأن القناعة كنزٌ لا يفنَى، وهو يؤثر ما عند الله الباقي على ما في الدنيا الفاني، ويوقن بقوله- صلى الله عليه وسلم-: "من بات معافًى في بدنه، آمنًا في سربه، عنده قوت يومه فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها".

ولذلك يظل المسلم قنوعًا، وهو بذلك يفوز بدعاء النبي له- صلى الله عليه وسلم- حيث ورد عن عبد الله بن عمر قال قال- صلى الله عليه وسلم-: "قد أفلح من أسلم، ورُزِق كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه" (رواه مسلم)، وعن حكيم بن حَزام قال قال- صلى الله عليه وسلم-: "اليد العليا خير من اليد السفلى، وخيرُ الصدقة ما كان عن ظهر غِنى، ومن يستعفف يعفَّه الله ومن يستغن يغنِه الله" (متفق عليه).. ولعل قناعتك وعفتك تكون سببًا لقناعة وعفة أخيك كما كان الأمر مع عمر بن الخطاب، عندما خاطبه القائل في شأن عفة رعيته بقوله: "يا أمير المؤمنين، عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا".

5- الوفاء بالعهد في السداد.. فعن أبي هريرة قال قال- صلى الله عليه وسلم-: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله" (رواه البخاري).

ب- الخوف من الله- عز وجل- ومراقبته تبارك وتعالى

فالمسلم الحق يعلم أن الله مطلعٌ عليه، وناظرٌ إليه وشاهدُه، وأن اللهَ يراه من حيث لا يراهُ هو، وأن الله يطَّلِع على سرِّه ونجواه، كما يطلع على جهره وعلانيته، فيقول سبحانه: ?وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ? (الحديد:4)، ويقول تعالى: "يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ" (عافر:19)، ويقول سبحانه: "الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ" (الشعراء: 218، 219)؛ ولذلك تراه يراقب ربه في كل عمل، ويحاسب نفسه على كل صغير وكبير، وذلك إنما مبعثه خوفه الشديد منا لله- عز وجل- حيث يقول المولى: "وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ" (الرحمن: 46)، وقوله سبحانه عن حال أهل الجنة: "وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ* قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ* فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ* إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ" (الطور: 25- 28)؛ ولذلك تراه محاسبًا لنفسه لأنه يعلم أن من شدد الحساب على نفسه خفَّ عنه الحساب يوم القيامة.

يقول ميمون ابن مهران: "المؤمن أشد حسابًا لنفسه من سلطان غاشم، ومن شريك شحيح"، وبذلك الخوف من الله وتلك المراقبة لله، ومحاسبة النفس يؤثر العبد ما عند الله على ما في أيدي العباد، فيضحي بالقليل من المال أو من عرَض الدنيا في سبيل أن يحافظ على رابطة الأخوَّة وينال بذلك أجرَه الحقيقي في دار الخلود، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

جـ- الخوف من سوء الخاتمة

أخي المسلم.. احذر أن يأتيك الموت فجأةً- وقد كثر هذه الأيام- وأنت قائمٌ على معصية الله، وخاصةً المعصية التي فيها حقوق المسلمين (حقوق الغير) فيُختم لك بذلك، وكُن كما قال الإمام ابن القيم: "اعلم أن العمر بآخره والعمل بخواتيمه"، وقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات"، واحذر أن تأتي يوم القيامة وحالُك- والعياذ بالله- كحال ذلك المُفلس الذي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي وقد شتَم هذا، وضرب هذا، وأكل مال هذا، واعتدى على عِرض هذا، فيؤتي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أخَذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرِح بها في النار، كما جاء في حديث المفلس.. عافاني الله وإياك من هذا المصير.
 
وقفة مع القائمين على المال العام مع الشيخ محمد الغزالي: حيث يقول في كتابه "كنوز من السنة"- الذي صدر عن مكتبة الأسرة- وتحت عنوان "القائمون على المال العام": "استوقفني وأنا أطالع السنَّة حِرصُ النبي صلى الله عليه وسلم- على المال العام، وأمرُه أن يَخرج هذا المال من منابعه إلى مصارفه، دون أن تمتد إليه يدٌ خائنة، فعن عدي بن عميرة قال: سمعته- صلى الله عليه وسلم- يقول: "من استعملناه منكم على عمل فكتمَنا مخيطًا فما فوقه كان غولاً يأتي به يوم القيامة، فقام رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه، فقال: يا رسول الله اقبل عني عملك.." الرجل يريد أن يقدم استقالتَه بتعبير عصرنا، فقال له الرسول: وما لك؟! فقال الرجل: سمعتك تقول كذا وكذا.. فقال- صلى الله عليه وسلم- وأنا أقوله الآن..من استعملناه على عمل فيلجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذ، وما نهى عنه انتهى" (رواه مسلم)، ومن لطائف الإمام النووي أنه بعد ما أثبت هذا الحديث عند شرحه لصحيح مسلم روى حديثًا آخر عن عمر بن الخطاب، قال "لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا: وفلان شهيد، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "كلا والله، إني رأيته في النار في عباءة غلَّها" (رواه مسلم).. سبحان الله فقدَ مكانة الشهداء لعباءة سرقَها.. (انتهى كلام الشيخ).

وصايا نافعة لأخي المسلم

1- اتق الله، ثم اتق الله في مكانك، فأنت القدوة وأنت الأُسوة، يَنظر لك من هو دونك، واحذر التهاوي في انضباطك في المعاملات المالية، فتكون قد أجرمت في حق نفسك وحق الآخرين من المؤمنين بفتنتهم.

2- واعلم أخي المسلم أن الله قد استعملك على ماله، فالمال مال الله، ولا تحسب أنك تملك شيئًا، فإن ضيعت مالاً، فسيحاسبك المنتقم على ما ضيعت.

3- أخي.. لا تستحِ من الحق، فتعامَل بشرع الله بكل قوة، فتطبيق شرع الله فريضةٌ عليك.. واحذَر الغَدر في معاملاتك المالية، وأكل حقوق الآخرين، فأنت مسئول عن ذلك يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.

4- أخي.. هناك فرق بين "العشم والغشم"، فـ"الغشم" مُهلك لك ولغَيرك، ولا تجعل معاملاتك المالية ترجمةً سيئةً لدعوتك التي تحملها.

5- أخي.. لا تستمرئ الدَّين، ولا تنظر إلى من هو أوسع منك رزقًا "لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ" (الحجر: 88)، فالرزق مقسوم، والأجل محدود، والمكتوب محتوم.

6- أخي.. احذر المال السائب، فالخَلوة بالمال كالخلوة بالنساء كلاهما خطر، ويحتاج إلى حذر.

7- أخي.. لا تأمن على نفسك، فإن تعاملت في مالك أو مال غيرك بسفَهٍ فأنت مُجرمٌ في حق نفسك وغيرك، وأيُّما لحم نبت من حرام فالنار أولى به.

8- أخي.. تهاونُك في القليل سيصل بك إلى التهاون في الكثير.