السَجن هو سلب حرية إنسان بوضعه في مكان يقيّد حريته، كما أنه هو طريقة لاحتجاز شخص بموجب حكم قضائي أو قرار إداري من سلطة يستند إما إلى قانون ينص على عقاب الشخص؛ لكونه ارتكب جريمة أو لمجرد قرار تقديري من سلطة مخولة باحتجاز الأشخاص كإجراء وقائي تقوم به إدارة الأمن بوصفها سلطة عامة؛ للتحفظ على مشتبه به، حتى إتمام تحقيقاتها، ويطلق على السجن بغرض التحفظ بالحبس الاحتياطي أو حبس تحفظي، أو اعتقال وقائي.

إلا أنه في دولة العسكر يسجن الشخص بل تسجن الأمة دون قانون، أو تسخير رجال القانون ليصبحوا العصا الغليظة للسلطة التنفيذية الحاكمة.

لقد سجنت مصر في سجون العسكر والتي كانت تعتبر بحق أسوأ السجون – بل قيل إنها كانت أسوأ من سجون المحتل الأجنبي – حتى أصبحت وصمة عار في جبين الدولة المصرية، بداية من السجن الحربي في عهد عبدالناصر – والذي هدمه السادات ما إن آلت إليه سلطة البلاد بل وأمسك معول الهدم ليهدم به عنبر 1 بسجن الليمان، بل إنه جاء في حيثيات حكم محكمة جنوب القاهرة الابتدائية.. الدائرة (6) مدني كلي، في جلسة 30 مارس سند 1975م مناشدة رئيس الجمهورية أن يأمر بهدم وإزالة السجن الحربي(1).

ومرورًا بسجن الواحات والمحاريق حتى كان سجن العقرب أو 992 شديد الحراسة، لتظهر هذه السجون الوجه الحقيقي لحكم العسكر.

يعود تاريخ السجون في مصر إلى العصور القديمة وقد تصعب معرفة بدايتها أو نشأتها، فهي قديمة إلى درجة أنها قد ذكرت في القرآن الكريم، في إشارة إلى سجن النبي يوسف عليه السلام، ويعتقد كثير من المؤرخين أن الفراعنة كانوا أول من توصل لفكرة السجون والحبس؛ كوسيلة للتحفظ على المذنب حتى يتم الحكم بأمره، ومن العجيب في سياق الآيات القرآنية أن السجن منذ بدايته في مصر وهو معد للتعذيب وامتهان كرامة الإنسان، وهو ما جاء في وصف زوجة عزيز مصر {إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، ومن الأعجب أن هذه السجون لم يكن فيها ما يحقق العدل أو يسمع لشكوى المظلومين، وهو ما دل على قصة يوسف عليه السلام حينما لبث في السجن بضع سنين لم يسمع أحد شكواه، لكن حينما حانت فرصة لتوصيل شكواه استعملها {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}[يوسف42] (2). ومن البدهي أن لا يكون السجن موجودا فقط من أجل يوسف ولا صاحبيه، لكن من المؤكد أن هناك مساجين أخرين قيدت حرياتهم في هذه السجون.

بل قال فرعون لموسى مهددا {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}[الشعراء 29].

وهكذا ظلت السجون مكانًا لمعاقبة المذنبين بل وتعذيبهم وحرمانهم من كافة الحقوق حتى اتسعت الدائرة لتشمل الخصوم السياسيين، وخصوم الرأي.

حتى اتسعت الدائرة في دولة العسكر والتي وضع أساسها عام 1952م واستمرت حتى وقتنا هذا؛ حيث لم تكتف على الإسلاميين – الخصم التقليدي للحكم العسكري – بل امتدت لكل المعارضين وغير المعارضين، وامتلأت السجون بشباب وبنات وأطفال وشيوخ ونساء لم تفرق بين أحد منهم، كان تحت دائرة التعذيب من أناس تجردوا من كل معاني الإنسانية، كل ذلك في سبيل مصالحهم.

السجن الحربي

لقد كان عام 1954 هو أعنف أعوام المواجهة بين ثورة يوليو وأعدائها - كما يذكر المؤرخون -  هذا العام دخل عبد الناصر معركة شرسة مع رئيس مجلس قيادة الثورة محمد نجيب ونجح في إقصائه وتحديد إقامته، وتخلص عبد الناصر من جميع الساسة القدامى في محاكمات شرسة أجرتها محكمة الثورة، ثم تخلص من جماعة الاخوان المسلمين بإصدار قرار بحلها ثم بتدبير حادث المنشية أو بتشجيع بعض عناصر الإخوان على القيام به، ثم التخلص من معارضيه داخل مجلس قيادة الثورة نفسه، مثل خالد محيي الدين ويوسف صديق.

وكان على جميع الطامحين في الصعود السياسي أن يُعلنوا ولاءهم الكامل والتامّ لعبد الناصر شخصيا، وعرفت مصر وقتها ظاهرة كتابة التقارير وإعلانات الولاء والنفاق إلى أقصي درجة.

ومع إطلاق الرصاص على عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية وهتافه وقتها: "أنا جمال عبد الناصر، الذي علمتكم العزة والحرية والكرامة" كان من الواضح أن ذلك الرجل اختار الطغيان وتحويل جميع الناس إلى عبيد. لقد تعجب الكاتب العظيم عباس محمود العقاد من تلك العبارة وقال لتلاميذه: ستعيشون لتروا هذا الرجل يحول الشعب إلى عبيد. وبالفعل رحل العقاد عام 1964 ولم يشهد كافة جرائم العهد الناصري التي افتضحت بعد نكسة يونيو 1967 ثم انكشفت تماما بعد وفاة عبد الناصر في سبتمبر عام 1970م.

في عام 1954 بادر كثير من الساسة والكتاب إلى تأييد الرئيس عبد الناصر تأييدا واسعا، وحتى زملاؤه في مجلس قيادة الثورة كان عليهم توضيح مساندتهم للرجل الذي أصبح زعيما كبيرا، فاتجه كثير منهم إلى مخاطبة عبد الناصر بكلمة "ريس" بدلا من "جمال" كما كانوا ينادونه قبل ذلك . ومع استعانة عبد الناصر بزملاء السلاح في تدعيم أركان نظامه والتوسع في منح العسكريين سلطات داخل كافة المؤسسات المدنية، سارع كثير من العسكريين لإعلان ولائهم للرجل عن طريق محاربة والتنكيل بمن اعتبروهم أعداء له، حتى تم الاعتداء على القاضي الشهير عبد الرازق الدستوري في مجلس الدولة وعلى الزعيم الوطني أحمد حسين زعيم مصر الفتاة، وقد برزت أسماء عديدة لعسكريين برعوا في ضرب الساسة والتنكيل بهم بل وتعذيبهم، كان منهم أحمد أنور، وحسن خليل بل وصلاح سالم نفسه، الذي كان يضرب وكلاء وزارة الزراعة وكبار موظفيها بـ"الشلّوت" كما يذكر الكاتب والمؤرخ أحمد رائف. في هذه الظروف نما وترعرع حمزة البسيوني وفي تلك الأثناء بدأ يكشر عن أنيابه وبدأ الناس يسمعون اسمه وحكاياته الذي حول السجن الحربي إلى محاكم تفتيش أخرى(3).

داخل السجن

السجن الحربي في مصر بناه الإنجليز أيام الاحتلال، ليعاقب فيه العساكر الذين يخالفون القانون، وقد قسم على أساس أن يكون لكل سجين زنزانة يسجن فيها انفراديا، والزنزانة هي حجرة صغيرة نحو مترين في متر ونصف تقريبا، فيها نافذة صغيرة عالية قريبة من السقف، مسورة بالحديد، مفتوحة باستمرار لإدخال الهواء، حيطانها وأرضيتها أقرب إلى اللون الأسود، لها باب أسود أيضا يغلق بقفل من الخارج (4).

كانت مساحة السجن الحربي من 5 - 6 أفدنة وبه سجن 3 وسجن 4 والسجن الكبير وسجن "الشفخانة، وحجم الزنزانة في السجن الحربي 3.5 متر طولًا × 180 سم عرضًا بارتفاع 4 أمتار وبها شباك صغير 60 سم × 30 سم مرتفع جدًا، والباب حديد مصمت به فتحة قطرها 5 سم فقط ينظر منها العسكري.

لم يكن سجنا حربيا واحدا، لكنه كان مجموعة من السجون الحربية كانت تبدأ بالبوابة السوداء، مكتوبًا عليها بخط كبير "السجون الحربية.. تأديب وتهذيب وإصلاح"، ومساحة كبيرة محاطة بأسوار عالية ارتفاعها حوالي 4 أمتار، وعلى أركان هذه الأسوار أبراج مراقبة عالية يقف فيها عساكر للحراسة ليل نهار، يتم تغييرهم كل ساعتين. بداخل السجن الحربي عدة مبان: السجن الكبير، أكبر السجون مساحة به 258 زنزانة في 3 أدوار، وسجن رقم 1 وسجن رقم 2، يسكنهما عساكر السجن، وسجن رقم 3 به حوالي 60 زنزانة، وسجن رقم 4 وهو أقل من سجن 3، وسجن رقم 5 وهو دور واحد لسكنى كبار المسؤولين الذين يحكم عليهم في القضايا المختلفة، ومستشفى صغير دور واحد به حوالي 12 زنزانة، وملحقة بالمستشفى يسكنها المرضى والذين يشرفون على الموت "كانت تسمى الشفخانة"، ومكاتب للضباط والمساعدين والشاويشية، لإدارة شؤون السجن، ومطبخ ملحق به عدة مخازن، وحوالي 8 مكاتب للتحقيق، أمامها نافورة مياه، وبجوارها حديقة بها أنواع كثيرة من الأشجار والزهور والورود والرياحين وبها حظائر لتربية أنواع كثيرة من الطيور والدواجن، وأبراج صغيرة للحمام وبها حظائر لتربية الأغنام والماشية وهناك عساكر متفرغون للعمل في هذه الحظائر والحدائق، وغالبًا كان يختلس من طعام المسجونين كي يوضع لهذه الطيور والحيوانات علف وغذاء (5).

أصبح السجن الحربي طيلة حكم عبدالناصر مكانا موحشا مما سمعه الناس عما يحدث فيه، وظل كذلك حتى نكسة 1967م وتحركت جموع الشباب في مظاهرات ضد نظام عبدالناصر، إلى أن مات عبدالناصر، وما إن آل الحكم إلى السادات حتى أراد أن يصنع بطولة أمام الشعب في مواجهة ما عرف بمراكز القوى، فعمد إلى هدم السجن الحربي وحرق الملفات الأمنية وتصفية مراكز القوى، إلا أن هذا السجن خلّف وراءه قصصًا دامية لم يستطع العقل نسيانها ولا نسيان شيطانه الأكبر حمزة البسيوني.

قصص يشيب لها الولدان

بصحراء مدينة نصر وقبل أن يبتلعها العمران كان هناك حمزة البسيوني، أحد أبرز وأشهر رموز القمع السياسي في مصر خلال القرن الماضي، والذي قال بعد توليه مسئولية السجن الحربي: أنا أستلم المسجونين بغير إيصال ولست مسؤولا عن حياتهم، وصحراء مدينة نصر تمتلئ بجثث الكثيرين (6).

الغريب أن سيده الذي عمل من أجله وقتل من قتل وعذب وشرّد تخلّى عنه بعد نكسة 67 وقدّمه وغيره من العسكر ككبش فداء حتى زجّ به في السجن لمدة عامين، وفتحت تحقيقات في التعذيب؛ حيث أصر حمزة البسيوني على أن يذكر في التحقيق أنه قتل فعلاً عددًا من المسجونين السياسيين ولكنه قتل كل واحد منهم بأمر صدر له من أحد مراكز القوى وأن يحدد اسم كل قتيل واسم الكبير الذي أصدر أمره بالقتل أو التعذيب ورأت مراكز القوى وقتئذ أن التحقيق في هذه الجرائم سوف يدخلهم جميعا في قفص الاتهام، ولهذا أسرعوا بالأمر بحفظ التحقيق.

ويضيف الكاتب مصطفى أمين نقلاً عن أحد المتعلقين الذين التقاهم داخل السجن الحربي وكيف استقبل عند دخوله "الأوبرج" [يقصد السجن الحربي] عام 1954 بكلبين هما "ميمي" و"ليلي حيث التفا حوله لينهشا لحمه، وأن حمزة البسيوني اصطحبه إلى معتقل "3" وتركه فريسة للكلبين، ثم أحضر له ورقة وقلمًا وطلب منه كتابة كل شيء عن حياته.

ويكشف الكاتب الكبير قصة الكلب الاكبر والأقوى "لاكي" الذي لا يمكن أن يصدق أحد أنه كلب؛ نظرًا لضخامته ووحشيته وقد كان الضباط يخشونه ويسرعون الخطى إذا تم جلبه لأحد.

ويقول صاحب كتاب " سنة أولى سجن" أيضًا: كان حمزة هو الملك، وكلاب السجن هم أصحاب السمو الأمراء، فقد كان في المعتقل رقم 3 مجموعة من الكلاب أكبرها "لا كي"، وكان هناك الكلب "ركس" الذي يعتز به حمزة البسيوني والكلبة "عنايات" زوجة "ركس" وكانت هناك كلبة تدعى "جولدا" . وكان أفخر أنواع اللحم مخصصا للكلاب وأحقرها للمسجونين السياسيين، وكانت الكلاب تأكل أولا ثم يأكل الحراس، والويل للحارس الذي يأكل من اللحم قبل أن تنتهي الكلاب من طعامها. إن سعادة ملك التعذيب اشترط أن يكون خدم الكلاب من حملة الشهادات العليا ووقع الاختيار على خريج من كلية الآداب، وآخر من كلية الهندسة وثالث من كلية العلوم ورابع من كلية الطب.

وينقل مصطفى أمين في كتابه "سنة ثالثة سجن" عن المستشار حسن الهضيبي المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين أنهم اكتفوا في السجن الحربي بحبسه داخل زنزانة فيها 15 كلبا وكانت تلك الكلاب تتبول عليه وتتشاجر وتقذف عليه (7).

وتفيض مذكرات المساجين السياسيين بدءًا من زينب الغزالي وعلي جريشة وحتى مصطفى أمين وضحايا كمشيش سردًا لأساليب التعذيب وفنونه المبتكرة التي سادت في السجن الحربي والتي نقلها بعض الضباط فيما بعد إلى غيرها من السجون . إن الطريقة التقليدية للتعذيب كانت التعليق في الشباك أو السقف أو في سارية والضرب بالسياط بعد دهن الجسد كله بالزيت حتى يكون اللسع أكثر إيلاما. وهناك آلة النفخ التي يحكي علي صديق السجين الإخواني كيف رآهم يستخدمونها مع المعتقل علي الفيومي، وتتم عن طريق إدخال منفاخ صغير في دبر المتهم ويتم النفخ فيه حتى تمتلئ بطنه بالهواء وبعدها يقف أحد الحراس.

وهناك طريقة أخرى اسمها "التعليقة" وهي عبارة عن خطاف يعلق في أطراف البنطلون وتمتد حتى سقف الغرفة ويبقى المتهم في وضع مقلوب عدة ساعات.

ومن الطرق الأخرى إغراق المتهم في برميل مياه مليئة بالقاذورات حتى يضطر إلى ابتلاع كميات كبيرة منها. وكان "التعطيش" من الأساليب المتبعة في الضغط على المساجين السياسيين للاعتراف أمام حمزة البسيوني.

ويذكر علي عشماوي في كتابه " التاريخ السري للإخوان المسلمين" أنه كان معلقًا ويتم ضربه بالكرباج وأمامه شمس بدران مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر يدعوه للاعتراف عندما دخل عليهم رجل طويل أبيض له شارب غليظ، وقال له شمس بدران: تفضل يا باشا. وأمسك ذلك الرجل الذي علم علي عشماوي فيما بعد أنه حمزة البسيوني برقبته وأخذ يضغط على الحنجرة ضغطات معينة كان من الواضح أنه مدرب عليها، وكلما ضغط قارب الرجل المعلق على الإغماء فيتركه قليلا وهكذا، وكان العذاب لا يُحتمل.

ويحكي "عشماوي" أيضا كيف كان حمزة البسيوني يضربه بالسوط بنفسه فيلسع به إحدى خصيتيه، فلا يخطئها في كل ضربة كأنه فنان.

ويقول أحمد رائف في كتابه الموسوعي "البوابة السوداء" ساردًا أهوال السجن الحربي الذي أمضى فيه سنوات طويلة: "إن العذاب يبدأ من الإهانة والصفع والضرب بالعصا، ثم يتنوع لنجد أن يتولى بعض المساجين ضرب بعضهم بعضًا، ثم هناك الزحف على أربع، وإطلاق اصوات الأغنام، والسير حفاة عراة على ألواح بها مسامير، ثم كنس الأرض من الزجاج بالأيادي العارية. فاذا أصيب أحد بجروح تركوه في العراء حتى يجف جرحه . ومن أنواع العذاب الأخرى التي يسردها "رائف" أن يتم إيقافه على هاوية معصوب العينين ويقال له اقفز لقد تقرر إعدامك . فيتمنع ثم يحاولون معه مرة أخرى حتى يعترف بما يريدون.

لكن أقسى مشاهد التعذيب تلك التي كانت تحكيها زينب الغزالي في كتابها "صور من حياتي" والتي وصلت إلى حد تعرية الإناث والتهديد ومحاولة الاغتصاب. ومهما كانت درجة صحة تلك المقولات فإنه كان من الواضح أن الجلادين في السجن الحربي، وعلى رأسهم حمزة البسيوني، لا يعرفون الرحمة أبدا(8).

لقد لاقى مساجين السجن الحربي تعذيبا وحشيا على يد حمزة وأعوانه، ومات كثيرون داخل أسوار السجن تحت وطأة التعذيب وتم تحرير محاضر بهروبهم، حتى تعددت الشهادات والروايات حول من قتلوا تعذيبا، وأبلغ عن هروبهم، بل وتمت محاكمتهم بعد ذلك، والحكم عليهم غيابيا.

وتعد حادثة مصرع إسماعيل الفيومي تحت التعذيب في السجن الحربي واحدة من تلك الحوادث وكان الفيومي ضابطا في الحرس الجمهوري، وتم اتهامه بالتآمر على قتل عبد الناصر ضمن تنظيم الإخوان المسلمين عام 1965م.

وتحكي مذكرات الإخوان كيف قتل إسماعيل الفيومي في السجن الحربي، ولقد عُلِّق في "الفلقة"، وأخذ الزبانية يضربون ويستريحون، واشترك في ضربه أربعة من جزاري السجن الحربي؛ هم: سعيد بدوي - صفوت الروبي، محمد رجب محمد بكر، نجم الدين مشهور.

اثنان يتبادلان الضرب واثنان يستريحان.. واستمر التعذيب من الصباح.. حتى هتف المؤذن "الله أكبر" لصلاة العصر.. عندها لفظ الشهيد إسماعيل الفيومي آخر أنفاسه، وصعدت روحه إلى بارئها وهو معلق على "الفلقة".. وفي هذه الأثناء.. مرَّ اللواء حمزة البسيوني، ونظر في رأس الضحية ورقبته مدلاة من الفلقة، فقال: الواد مات.. خلاص.. بلغوا عنه فرار.

 وجاء عسكريان يحملان جردلين وقطعة من القماش ودخلا زنزانة إسماعيل الفيومي، وبعد فترة خرجا منها وأطفئت أنوار السجن وأنزلوا إسماعيل ملفوفًا في بطانية وحملوه في عربة.

وقتها نشرت الصحف خبرين عن إسماعيل الفيومي أحدهما من مكتب شمس بدران إلى مكتب الرقابة ومفاد الخبر الأول هو أن الشرطي إسماعيل الفيومي قد هرب من السجن الحربي، وكان متهمًا في قضايا الإخوان المسلمين.. والغريب أن خبر هروب الفيومي نُشر بالصحف ومعه الجملة التالية "مكافأة مالية لِمَن يُرشد عنه: والثاني نشرته جريدة الأهرام أيضًا على أنه وارد من جميع وكالات الأنباء مفاده "أن الشرطي إسماعيل الفيومي قد تمكَّن من الهرب إلى سويسرا"، ولم تكتفِ الصحيفة بهذا الشق من الخبر.. بل أوردت أن الشرطي المصري المسكين عقد مؤتمرًا صحفيًّا "بالفرنسية" في جنيف العاصمة السويسرية، وهاجم في المؤتمر المزعوم نظام الحكم في مصر في ذلك الحين (9).

لقد كان اسم السجن الحربي باعثًا على الرعب والفزع في نفوس الجميع لما كان يدور حوله من قصص، حتى إن الدكتور يوسف القرضاوي – أحد نزلائه في الخمسينيات – كتب عنه قصيدة جاء فيها:

في ساحة (الحربي) حسبك باسمه                 من باعث للرعب قد طرحوني

ما كدت أدخل بابه حتى رأت                   عيناي ما لم تحتسبه ظنوني

في كل شبر للعذاب مناظرٌ                        يندى لها -والله - كل جبين

فترى العساكر والكلاب معدة                    للنهش طوع القائد المفتون

هذي تعض بنابها وزميلها                          يعدو عليك بسوطه المسنون

ومضت عليّ دقائق وكأنها                        مما لقيت بهن بضع سنين

يا ليت شعري ما دهانِ؟ وما جرى؟              لا زلت حيًّا أم لقيت منوني؟

عجبًا أسجن ذاك أم هو غابةٌ                    برزت كواسرها جياع بطون ؟(10).

ويذكر المستشار محمد عبد السلام في كتابه الشهير "سنوات عصيبة" وكان الرجل نائبا عاما في مصر وقد تلقى عرائض اتهام بالتعذيب لم يستطع تحقيقها بسبب إعفائه من منصبه، كان من بين تلك القصص قضية المواطن محمد نظمي سلطان؛ الذي اعتقل في السجن الحربي في فبراير 1967 وتعرض للتعذيب بالضرب بالسوط المجدول والوضع في الماء المثلج، ثم التعليق في خطاف بالوضع المقلوب، وهو ما كان يتم بحضور اللواء حمزة البسيوني قائد السجن الحربي.

ويضيف: في التحقيقات رقم 3و4ن و5 و7 و14 و20 و27 و28و34 و36 و39 و5و6و47 و48 و54 و58 و66 و67 و68 و86 و92 و96 و102 و106 لسنة 1968 عريضة تعذيب فيما يخص التحقيق في الجناية رقم 22 لسنة 1967 المعروفة بقضية كمشيش؛ حيث تم تعذيب المتهمين باقتلاع إظافرهم وضربهم بالسياط وإلباسهم ملابس نسائية في السجن الحربي.

ويؤكد محمد عبد السلام أن الخطير في معتقلي قضية كمشيش أن أربعة من المتهمين توفوا بعد خروجهم من السجن تأثرًا بإصابات نتجت عن التعذيب، وهم: عبد الحميد شبل، عبد الحميد تعلب، سالم الزرقاني، عبد الغني أبو رواش (11).

لقد صور مصطفى أمين حال الدولة من خلال السجن الحربي بقوله: وأنا أستطيع وأنا جالس في زنزانتي أن أعرف حالة الدولة في الخارج، الظلم الذي أراه هنا، الاستبداد، السرقة، الرشوة، استغلال النفوذ، المحسوبية، الرغبة في إذلال الناس، تحكم القوي في الضعيف، الطلاء الخارجي الذي يخفي الخراب الداخلي، النهب والتهليب، كل هذا صورة مصغرة لما يحدث خارج السجن (12).

------------

(1)  القضاء يشهد بتعذيب الإخوان المسلمين، إخوان ويكي، https://bit.ly/37ZzyxM

(2)  محمد بن براك الفوزان: أحكام السجن والاستيقاف والضبط: دراسة مقارنة، طـ1، مكتبة القانون والاقتصاد، الرياض، 1435هـ/ 2014م، صـ36.

(3)  مصطفى عبيد: اللواء حمزة البسيوني.. العسكري الأسود!!، الخميس, 18 نوفمبر 2010م، البوابة الالكترونية للوفد، https://bit.ly/2sYHl0d.

(4)  يوسف القرضاوي: سيرة ومسيرة، موقع القرضاوي، https://bit.ly/2QMvOu3

(5)  سجون ومعتقلات تروى تاريخ الإخوان: 25 ديسمبر 2015م، https://bit.ly/35RGxHW

(6)  مصطفى أمين: سنة أولى سجن، دار أخبار اليوم، القاهرة، 1976م.

(7)  مصطفى عبيد: اللواء حمزة البسيوني، مرجع سابق.

(8)  مصطفى عبيد: اللواء حمزة البسيوني، مرجع سابق.

(9)  مصطفى عبيد: اللواء حمزة البسيوني، مرجع سابق.

(10)  يوسف القرضاوي: سيرة ومسيرة، مرجع سابق.

(11)  محمد عبدالسلام: سنوات عصيبة - ذكريات نائب عام، طـ2، دار الشروق، القاهرة، 1975م.

(12)  مصطفى أمين: سنة ثالثة سجن، دار أخبار اليوم، القاهرة، 1976م، صـ173.