بقلم: صادق أمين

سُئل ابنُ المبارك - رحمه الله - عن رأس التواضع، فأجاب: "رأس التواضع أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا، حتى تُعلمه أنه ليس لك بدنياك عليه فضل، وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في الدنيا، حتى تُعلمه أنه ليس له بدنياه عليك فضل".

نعم.. وضع النفس في مكانها هو التواضع، فحين لا ترى نفسك فوق الناس بمال أو جاه فأنت متواضع، وحين لا ترى نفسك دون الآخرين بفقر أو هيئة أو مسكن.. فأنت متواضع.

فليست الدنيا مجالاً يتطاول فيه الخلق، يرتفع فيها من ملك، وينزوي فيها من فقد.. الأمر في غير ذلك، والشأن ليس عندها، والميدان ليس ميدانها، فمن تطاول بمال ورثه، أو ثروة جمعها، أو حسب أو جمال أو جاه.. فقد خسر وخاب؛ ذلك أن الدنيا ليست ميدان تفاخر وتطاول، فكن فوق من تطاول في دنياه، فهذا عين التواضع ورأسه، وكن دون من سبقته بمتاع الدنيا، تكن متواضعًا.

فالتواضع أن لا تتطاول، وترى أنك خير من الآخرين بمتاع أصبته، أو جاه نِلته، أو مال ملكته.. فتأنف أن تؤاكل من هم دونك، أو تجالس من هم دونك.. بل مؤاكلتهم وزيارتهم ومجالستهم ودعوتهم هي عين التواضع.. فليس التواضع أن تعطف عليهم، وتُشعرهم بضعفهم وفقرهم، وأنك صاحب فضل عليهم، بل التواضع أن تشعرهم بفضل الله عليك وعليهم، وتعزِّز ثقتهم بأنفسهم، وتكبِّر إنسانيتهم، وتحترم آدميتهم، وترفع- إن حضروا مجلسك- شأنهم..

فلا يجوز لمن أقبلت عليه الدنيا إلا أن يضع نفسه، ولا يجوز لمن أدبرت عنه الدنيا إلا أن يرفع نفسه، عن امتهانها والتقليل من أمرها؛ بسبب ما هو فيه من فقر وحاجة، فلا يرى في نفسه الأهلية أن يتكلم بحضرة من سبق في ركاب الدنيا، فحاز متاعها، أو أبحر مركبه في خضمِّها.. حتى وإن كان ذا علم ومعرفة.. فسكوته هنا ليس تواضعًا، ولا أصلَ له في باب المروءات..

والتواضع صنو الحق ورديفه، ولا تواضع في غير ميدانه، قبولاً ورضًا، وخضوعًا وطلبًا.. سئل الفضيل بن عياض- رحمه الله- عن التواضع.. ما هو؟ فقال: أن تخضع للحق، وتنقاد له، ولو سمعته من صبي قبلته، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته.

والتواضع هنا رفعة هناك.. ذكر جرير بن عبد الله أنه انتهى ذات مرة إلى رجل نائم تحت شجرة، قد استظل بنطع له، وقد جاوزت الشمس النطع، فسوَّاه له، فاستيقظ الرجل، فإذا هو سلمان الفارسي - رضي الله عنه - يقول جرير: فأخبرته بصنيعي، فقال له سلمان: يا جرير، تواضع لله في الدنيا، فإنه من تواضع في الدنيا رفعه الله يوم القيامة، يا جرير، أتدري ما ظلمة النار يوم القيامة؟‍ قلت: لا.. قال: إنه ظلم الناس بعضهم بعضًا في الدنيا.

فالتكبر ظلم رهيب، وعيب خطير، وثلمة في الدين، تزداد به ظلمة النار، وهل يحل الظالمون مكانًا إلا وازداد ظلامًا وسوادًا بسبب ظلمهم، وسوء فعلتهم؟! حتى إن الدنيا تزداد ظلمتُها، وتعظُم مصيبتها، وتشتد قسوتها، حين يحكم الناس الظالمون، ويسودهم الظلمة..

ولا يكون التواضع إلا مع القدرة؛ قيل لعبد الملك بن مروان: أي الرجال أفضل؟ قال: من تواضع عن قدرة، وزهد عن رغبة، وترك النصرة عن قوة.. ودخل ابن السماك على هارون الرشيد- رحمهما الله- فقال: يا أمير المؤمنين، إن تواضعك في شرفك أشرف لك من شرفك، فقال: ما أحسن ما قلت! فقال: يا أمير المؤمنين، إن امرءًا آتاه الله جمالاً في خِلقته، وموضعًا في حسبه، وبسط له في ذات يده، فعفَّ في جماله، وواسى من ماله، وتواضع في حسبه، كُتب في ديوان الله من خالص أولياء الله، فدعا هارون بدواة وقرطاس وكتبه بيده.