بقلم: قطب العربي

قول الأسطورة أن امرأة عربية اشتهرت قديما بحدة بصرها حتى أنها ترى الشخص من مسيرة ثلاثة أيام، وأنها كانت تنذر قومها عند قدوم أي جيش معاد قبل وصوله بفترة كافية حتى يستعدوا لدحره، وفي إحدى المرات نبهت قومها إلى جيش قادم يتخفى خلف أشجار كثيفة بهدف التمويه، لكنهم لم يصدقوها بل سخروا منها، واتهموها بالخرف والجنون. واستطاع جيش الأعداء الوصول فعلا، وتمكن من هزيمة قومها، وأعمل فيهم القتل والتنكيل، كما أن هذا الجيش قام بفقء عين زرقاء اليمامة فوجدوها محشوة بمادة الأثمد، وهو ذلك الحجر الأسود الذي كانت تقوم بدقه وطحنه وتكحيل عينيها به. ومن يومها أطلق عليها زرقاء اليمامة، نسبة إلى الزرقة المتكونة في عينيها من الأثمد.

منذ الإرهاصات الأولى لصفقة القرن، كنا مع قومنا في مصر والمنطقة العربية عموما كزرقاء اليمامة، حذرنا ونبهنا، وأكدنا أن الصفقة قادمة لا ريب فيها، وأن مضمونها موجود في دراسات ومشروعات إسرائيلية مثل عرض رئيس الوزراء الأسبق أولمرت عام 2006، وقبله مشروع جيورا أيلاند. وحين دعم الكيان الصهيوني انقلاب السيسي في الثالث من يوليو 2013 قلنا إن هذا الدعم ليس مجانيا، بل يستهدف تجنيد السيسي لخدمة المشروع الصهيوني ومقترحاته لتصفية القضية الفلسطينية، لكن قومنا أو الكثيرين منهم كانوا يكابرون، ويستسلمون للدعايات الكاذبة لنظام السيسي حول رفضه لأي مساس بالقضية الفلسطينية.

وحين عقد السيسي ونتنياهو ووزير الخارجية الأمريكية الأسبق جون كيري، والملك عبد الله بن الحسين ملك الأردن، اجتماعا سريا في مدينة العقبة الأردنية (سربت تفاصيله صحيفة هآرتس الإسرائيلية، وقد اعترف نتنياهو بعقد ذلك الاجتماع) نبهنا قومنا إلى أن الاجتماع يستهدف الإسراع في تصفية القضية الفلسطينية على أساس “يهودية” الكيان الصهيوني وتبادل الأراضي.

ورغم النفي المتكرر للسيسي ورجاله المشاركة في أي جهود لتصفية القضية الفلسطينية بعيدا عن قرارات الشرعية الدولية، إلا أننا كنا نؤكد أن هذا النفي هو للاستهلاك المحلي. وكانت الطامة الكبرى هي إعلان السيسي “بعظمة لسانه” أثناء زيارته إلى الولايات المتحدة مطلع أبريل 2017 دعمه للرئيس الأمريكي ترامب في مشروع صفقة القرن، ومرة أخرى كابر قومنا، ووقعوا فريسة الكذب السيساوي الذي نفى في 29  يوليو 2018 أي حديث عن الصفقة، مدعيا أنها مجرد تعبير إعلامي وليس سياسيا، وها هو التعبير الإعلامي (حسب وصف السيسي) يتحول إلى عمل سياسي وبالاسم ذاته.

لم نخذل شعبنا ولم نضلله حين كشفنا له مبكرا خفايا هذه الصفقة التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية وللأبد، عبر تسويات تمثل عقود إذعان يفرضها الأمريكان والصهاينة على الفلسطينيين والعرب، كما كشفنا مبكرا التآمر الحكومي العربي مع هذه الخطة، والذي كان يشمل أنظمة عربية لديها مشاكل داخلية تسعى لحلها عبر الارتكان إلى الدعم الصهيوني، مثل محمد بن سلمان الذي يريد المرور إلى عرش المملكة بسلاسة وفي أقرب فرصة، في حياة والده، والذي تضرر كثيرا بفضيحة قتل ونشر جثمان الكاتب الصحفي جمال خاشقجي، ومثل محمد بن زايد المفزوع من رياح التغيير في المنطقة التي يثق أنها ستقتحم عليه داره إن آجلا أو عاجلا، ومثل النظام البحريني الذي كاد أن يختفي من الوجود في العام 2011 بسبب مظاهرات شعبية تدخلت السعودية لقمعها، وإلى جانبهم سلطة عمان التي تحتفظ بعلاقات دبلوماسية وتجارية معلنة مع الكيان الصهيوني، على عكس الإمارات والسعودية اللتين لديهما علاقات وثيقة وزيارات متبادلة ومشاورات مستمرة مع الكيان الصهيوني، لكنها تتم في الخفاء، ونعرف تفاصيلها من وسائل الإعلام الإسرائيلية.

شارك سفراء الإمارات والبحرين وسلطنة عمان علنا وبتكليف رسمي من حكوماتهم؛ في حفل الإعلان عن صفقة القرن في واشنطن، لكنهم لم يكونوا وحدهم الداعمين لهذه الصفقة، فقد صدرت بيانات مصرية سعودية داعمة للصفقة أيضا. وحسب معلومات صحفية فقد تدخل السيسي شخصيا في إعادة صياغة بيان الخارجية المصرية، بحيث يكون أكثر دعما للصفقة ولا يتضمن الحديث عن قرارات الشرعية الدولية أو عن الدولة الفلسطينية على حدود 1967، وفقا لأدبيات السياسة المصرية والعربية التي سبق للسيسي نفسه أن كررها من قبل أثناء حديثه النافي لفكرة صفقة القرن ووصفها بالتعبير الإعلامي، حيث زعم حينها أن مصر لن تقبل بأي حل لا يعتمد على قرارات الشرعية الدولية وحق الفلسطينيين في دولة مستقلة عاصمتها القدس على حدود 1967، وأنه لا يقبل حلا مرفوضا من الفلسطينيين. لا بأس، فقد ابتلع الجنرال كلامه، وليست المرة الأولى التي يبتلعه ولن تكون الأخيرة، والعيب الأكبر فيمن يصدقونه رغم ظهور الحقائق تباعا، وانكشاف كذبه في كل مرة.

“إذا لم تستح فاصنع ما شئت” مثل عربي ينطبق تماما على الحكومات التي شارك سفراؤها في حفل الإعلان عن الصفقة أو التي أصدرت بيانات داعمة، أو حتى تلك التي صمتت فلم تحدد موقفا وهو ما يعني قبولا ضمنيا بالصفقة، وكذا على التصريحات والتدوينات الفجة لبعض مسؤولي تلك الدول، كما فعل بالأمس وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش والذي حذر الفسطينيين من مغبة رفض الصفقة، ودعا للجامعة العربية ومنظمة التعاون الاسلامي لتبني الصفقة.

لن يقتصر الدعم العربي الرسمي، ممثلا في بعض الحكومات الخاضعة للنفوذ الصهيو أمريكي، على الإسناد السياسي والإعلامي، بل سيتجاوزه لدفع الفاتورة المالية للصفقة والمقدرة بخمسين مليار دولار؛ توزع على أطراف المؤامرة بهدف كسب موافقاتهم التي تمت بالفعل. والغريب أن هذا الدعم حدث وسيستمر رغم القرارات السابقة لجامعة الدول العربية، ورغم القرار الأخير لمجلس وزراء الخارجية العرب في جامعة الدول العربية يوم أمس فقط، والذي أعلن بوضوح رفض الصفقة باعتبارها لا تلبي الحد الأدنى لحقوق الشعب الفلسطيني.

وهنا لا بد من كلمة، فوزراء خارجية مصر والسعودية والإمارات الذين حضروا هذا الاجتماع وصدقوا على قراراته وتوصياته؛ هم أنفسهم الذين أصدروا بيانات داعمة للصفقة، وكان ينبغي عليهم أن يصدروا بيانات منفردة جديدة تتناغم مع البيان الوزاري العربي، لكنهم لن يفعلوا لأنهم يدركون أن بيان الوزراء الجماعي هو محض ذر للرماد في العيون ولن ينبني عليه عمل، ولن يلتزموا هم به.

هذا الموقف المتخاذل للسيسي وأصدقائه الإماراتيين والسعوديين والبحرينيين يستدعي مباشرة المواقف المقاومة لتصفية القضية الفلسطينية، وأحدثها موقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أعلن رفض بلاده لهذه الصققة، وعدم السماح بمرورها باعتبارها مشروعا لتجزئة المنطقة والعدوان على حقوق الشعب الفلسطيني. كما يستدعي هذا التخاذل موقف الرئيس المدني المصري الراحل محمد مرسي، والذي رفض زيارة الكيان الصهيوني ورفض نطق اسمه خلال فترة حكمه، كما كان واضحا في دعمه اللامحدود للقضية الفلسطينية، وهو ما أزعج الصهاينة ودفعهم للتخلص منه بالتعاون مع شركائهم العرب الآخرين. فالتحية واجبة للصادقين واللعنة مستحقة على المنافقين.