هذه محاضرةٌ ألقاها الإمام "حسن البنـا" في جمعية الشبان المسلمين عام 1927م..

أثر التربية في حياة الأفراد والأمم

بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أيها السادة..

أرأيتم بقعةً من أديم الأرض أهملت فأنبتت الشوك والسعدان، وصارت قفْرًا بورًا، لا تُنبتُ زرعًا ولا تُمسك ماءً.. وأخرى تعهَّدها زارعٌ ماهرٌ بالإصلاحِ والحرث، فإذا هي جنةٌ يانعةٌ تُنبت من كل زوج بهيج.. ذلك مثل الأفراد والأمم إذا أهملها رجال التربية ولم يعنوْا بوسائل إصلاحها ورقيِّها، وهذا مثلها إذا قاموا عليها بالرعاية وساروا بها إلى غاية.. فالتربية الصحيحة تهيئ الفرد للمعيشة الكاملة، وتصل بجسمه وروحه إلى الكمال الإنساني، وترشده إلى حقوقه وواجباته، وهي لهذا أكبر مؤثر في حياة الأمم، وعليها يتوقف مقتبلها، وعنها تنتج عظمتها وسقوطها..

في الكون كل وسائل السعادة للبشر، أودعها الله فيه يوم أبدعه، ولا ينقص الناس إلا أن يتعرفوا على هذه الوسائل، ويهتدوا إلى الطريق الموصل إلى استثمارها على وجهها؛ ليحيَوا حياةً طيبةً في الدنيا والآخرة.

علمت ذلك الأمم الحديثة، فكان أول ما تهتم له في مناهجها الإصلاحية التربية، تحديد غايتها، وتعرُّف أقرب الوسائل للوصول إلى هذه الغاية.. أراد "فردريك" الأكبر- مصلح روسيا العظيم- أن يصل بأمته إلى أوج العظمة، فوجد أن أقرب الوسائل لذلك إصلاح التربية بإصلاح أهم وسائلها وهي المدارس، فأصدر قوانينه المدرسية العامة في سنة 1763م.

وهنا يحسن أن أذكِّر حضراتكم بأنَّ التربية أمر يشمل كل المؤثرات في حياة الشخص، وأنَّ التعليم وسيلةٌ من وسائل التربية فقط، ولما كان أهم وسائلها كان مرادفًا لها في أذهان كثيرين، فنحن حينما نقول التربية نقصد بها ذلك المعنى الأعمَّ الذي يشمل التعليم وغيره من وسائلها، وقد ذكر الباحثون في حياة الأمم أنَّ السر في نشاط الإنجليز وعظمتهم ما اختطوه لأنفسهم من طرق التربية الصحيحة بفضل رجالهم المربين، أمثال: "سبنسر"، و"هكسلي"، و"تشارلس إليوت"، وغيرهم من القدماء والمحدثين..

وهذا "إدمون ديمولان"- العالم الاجتماعي الفرنسي العظيم- يهيب بأمته أن تفكر في سبيل إصلاح التربية، معتقدًا أن نقص التربية وفسادها، هو السبب الأول في كل ما يعرض للأمة من الآلام والأزمات، وأن في إصلاح التربية وتكميلها علاجَ كل ذلك.

وما أبعد نظر ذلك الطبيب الذي ترك الطب واشتغل بأمور التربية ومعالجة مسائلها، فلما سُئل عن ذلك كان جوابه: "وجدت- بالاستقراء الدقيق- أن معظم أسباب العلل الإنسانية الجسمية والنفسية يرجع إلى نقص في التربية، فآثرتُ أن أستأصل الداء من جذوره باستئصال سببه الأول، على أن أقضي الوقت في علاج ما ينجُم عن هذا السبب، والوقاية خير من العلاج، ولا أشك أني بذلك أقوم بأعظم خدمة للإنسانية بقدر ما بين طب الأمم وطب الأفراد".

وقديمًا قال الإمام "الغزالي": "وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملاً؛ وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية بالغذاء، فكذلك النفس تُخلق ناقصةً، قابلةً للكمال، وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم.. والصبي مهما أهمل في ابتداء نشوئه خرج في الأغلب رديء الأخلاق كذابًا، حسودًا سروقًا، نمَّامًا لحوحًا، ذا فضول وضحك وكياد ومجانة؛ وإنما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب"، ومن ذلك- أيها السادة- ترون أن التبعة الملقاة على عاتق المربين عظيمة؛ إذ إن بيدِهم تشكيل نفسية الأمة، ورسم حياتها المستقبلة.

غاية التربية التي نرجوها لأمتنا:

يجب أن نحدد غايتنا من تربية النشء تحديدًا دقيقًا واضحًا؛ حتى يمكننا معرفة الوسائل المؤدية إلى هذه الغاية، وما لم نحدد الغاية فإننا نسير بالأمة على غير هُدى.. ويجب أن تكون هذه الغاية شاملةً ومشتركةً مرضيةً؛ حتى تتوجه إليها الأمة كتلةً واحدةً، فإن تعدد الغايات في الأمة الناشئة- وخاصة في بدء نهوضها- يؤدي إلى تفريق القوى، وتوزيع الجهود، فلا تصل الأمة إلى القصد إلا بعناءٍ وبُعدِ زمن..

وقد اختلف المربون في غاية التربية الإنسانية اختلافًا كبيرًا؛ فمنهم من جعلها السعادة، ولكن في السعادة نفسها مذهب خاص، ومنهم من جعلها الارتزاق، ومنهم من جعلها روحية محضة، ومنهم من جعلها الفضيلة والكمال، ومنهم من جعلها العيشة التامة.. إلى غير ذلك من الغايات، التي كان ينتزعها أصحابها من مستلزمات عصورهم، ومن روح التفكير التي تسود تلك العصور، واختلفت تبعًا لتلك الوسائل، وإن كان المربون قديمًا وحديثًا أجمعوا على وجوب العناية بالغاية الدينية.

ولسنا بصدد مناقشة هذه الغايات، وبيان الأولى منها بالعناية والرعاية، ولكنَّ الذي يعنينا أن نحدد غايتنا نحن، تلك الغاية التي يجب أن تتوجه إليها جهود الأمم الإسلامية في هذا العصر بعد الإلمام بكل ما يحيط بها من الظروف السياسية والاجتماعية والفكرية وغيرها، وكأننا برأس الموضوع نفسه يملي علينا هذه الغاية، ويلخصها في أنها: "حب الإسلام والتمسك بآدابه والغِيرة عليه".

وبما أنَّ هذا الدين يأمر بالعناية بالشئون الدنيوية، ويحثُّ على السبق والتميز فيها، مع عدم إغفال أمر الآخرة، على حد قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص: من الآية 77)، وعلى حد قوله تعالى: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ (النحل: من الآية 97).

فليست التربية الإسلامية تربيةً دنيويةً عملية كما كانت عند اليونان مثلاً، وليست دينيةً محضةً كما كانت عند (الإسرائيليين) قديمًا؛ وإنما هي جماعٌ بينهما، كما مدح "جرير" "عمر بن عبدالعزيز":

فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ولا عرَض الدنيا عن الدين شاغله

ونزيد ذلك تفصيلاً فنقول: غاية التربية المقصودة:

ا- تحبيب الإسلام إلى النفوس والغِيرة عليه.

2- تهيئة السبيل للنجاح في الحياة.

3- الدفاع عن المصلحة الدينية والدنيوية وتنمية الشعور بالغيرة.

وإذن فما الوسائل التي تؤدينا إلى هذه الغاية؟

وسائل إصلاح التربية الإسلامية

يتأثر الناشئ في حياته بعوامل كثيرة، وإصلاح تربيته وقفٌ على إصلاح هذه المؤثرات وتوجيهها نحو الغاية الخاصة، وأهم هذه المؤثرات: المنزل، والمدرسة، والبيئة.

1- المنزل:

الطفل أول ما يرى من الوجود منزله وذويه، فترتسم في ذهنه أول صور الحياة مما يراه من حالهم وطرق معيشتهم، فتتشكل نفسه المرنة القابلة لكل شيء، المنفعلة بكل أثر بشكل هذه البيئة.

يقول الإمام "الغزالي": "الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يُمال به إليه، فإن عُوِّد الخير وعلمه، نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة أبواه وكل معلم له ومؤدب، وإن عُوِّد الشرَّ وأهمل إهمال البهائم شقِي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيِّم عليه والوالي له"، ويقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "كل مولود يولد عليه الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه"، وإلى هذا أشار "أبو العلاء" في قوله:

وينشأ ناشئ الفتيـان منَّـا           على ما كان عوده أبوه

ما دان الفتى بحجي ولكن              يعوده التديـن أقربوه

وإذا كان للمنزل كل هذا الأثر في حياة الطفل وجب- تحقيقًا للغاية السالفة- أن يحاط بكل ما يغرس في نفسه روح الدين والفضيلة..

وأهم الوسائل في إصلاح المنزل:

أولاً: ترقية تعليم المرأة عندنا، وتزويدها في المدارس بالقدر الوافر من الدين والخلق، وإفساح المجال في مناهج دراسة البنات للبحوث البيتية، وتراجم فُضليات النساء، اللاتي كُنَّ مضرب المثل في الخلُق الفاضل في زمنهم؛ كـ"نسيبة بنت كعب"، و"أسماء بنت أبي بكر"، و"صفية بنت عبد المطلب"، و"خولة بنت الأزور"، و"سكينة بنت الحسين"، وغيرهن كثير..

فالأم مدرسة إذا هذبتها      أخرجت شعبًا طيب الأعراق

أما أن تستمر مناهج تعليم البنات عندنا كما هي عليه الآن، فتُعنى بالكمالي والضارِّ، وتترك الضروري والنافع، فهذا مما لا يبشر بحياة طيبة للنشء الإسلامي..
تدرس البنت في مدارسنا الموسيقى واللغة الأجنبية والهندسة الفراغية والقانون الآن، ثم هي لا تعلم شيئًا عن تربية الطفل، ولا تدبير الصحة، ولا عالم النفس، ولا الدين والخلُق، ولا تدبير المنزل.. فأي منهج هذا؟! وإلى أي غاية يُوصِّل؟!

من لي بتربية البنات فإنها            في الشرق علة ذلك الإخفاق

والأمُّ إذا صلحت فانتظر من ابنها أن يكون رجلاً بكل معنى كلمة الرجولة، وأنت إذا استقرأت تاريخ العظماء وجدت أنَّ السر في عظمة الكثيرين منهم ما بثته فيهم الأم من المبادئ الصالحة القويمة بحكم البيان والتلقين.. وما كان "على بن أبى طالب"- كرم الله وجهه- في حبه للحق، وغِيرته عليه، ومناصرته للرسول- صلى الله عليه وسلم- ولا "معاوية" في حلمه ودهائه، ولا "عبدالله بن الزبير" في شجاعة نفسه، ولا "الزبير" نفسه في ذلك إلا سرًّا من أسرار "فاطمة بنت أسد"، و"صفية بنت عبد المطلب"، و"أسماء بنت أبى بكر"، و"هند بنت عتبة".

ولئن كان الولد سرَّ أبيه، فكل إناء ينضح بما فيه..

وحريٌّ بمن يسمع في مهده- لأول عهده بالحياة- ترنيمة أمه:

ثكلت نفسي وثكلت بكري              إن لم يسد فهـرًا وغير فهـر

بالحسب العـدّ وبذل الوفر            حتى يوارى في ضريح القبر

أن يكون سيدًا تتفجر الحكمة من جنبيه، وتنطوي السيادة في برديه، كما كان "عبدالله بن عباس" بتأثير أمه "أم الفضل بنت الحارث الهلالية"، وحريٌّ بمن يطرق سمعه لأول مرة تلك الأغاني الخليعة والترنيمات الغثَّة- التي يداعب بها أمهات هذا العصر أبناءهن- أن ينشأ ماجنًا خليعًا، فاتر الهمَّة، ضعيفَ النفس..

الأم أستاذ العالم، والمرأة التي تهزُّ المهد بيمينها تهزُّ العالم بشمالها، فلأجل أن نصلح المنزل يجب أن نصلح الأم التي هي روحه وقوامه.

ثانيًا: أن يحرص الأبوان على أن يكونا خير قدوة لابنهما في احترام شعائر الدين، والمسارعة إلى أداء فرائضه، وبخاصة أمامه وعند حضوره.. يؤدون الصلاة، ويقصون عليه من نبأ الصالحين، فأيقظ غرائزه في هذه السن غريزةُ التقليد، والمثل الأعلى أمامه أبواه ومن يحيط به من ذويه، فعليهم أن يكونوا كما كتب "عمر بن عتبة" لمؤدب ولده: "ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودةٌ بعينك؛ فالحَسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت".

ثالثًا: أن يضع كل من الوالدين نُصب عينه أن يشبع أبناءه بروح الدين والشعور الإسلامي في كل الفرص المناسبة، يتحدث إليهم عن عظمته ورجاله وفائدته وأسراره، ويصطحبهم إلى المساجد والمنتديات الدينية، ويشعرهم المخافة من الله تعالى، وهيبته باستخلاص العبر من الحوادث، وأن يُعنى بتحفيظهم شيئًا من كلام الله وكلام رسول الله- صلى الله عليه وسلم.

رابعًا: أن يحول الأبوان دون تسرب الكتب الهازلة والصحف الماجنة إلى ابنهما، لا بالمنع والتهديد- فإن ذلك مما يزيد شغفه بها وإقباله عليها- ولكن بصرفه إلى كتب نافعة مغرية، وإثارة الميل فيه إلى هذه الناحية الصالحة.

وهنا أذكر شدة حاجتنا إلى كتب في القصص العام الإسلامي للأطفال، تجمع بين تشويقهم إلى المطالعة، وملاءمتها لمداركهم وقواهم العقلية، وتزويدهم بالشعور الإسلامي.. والقصص الإسلامي غني بذلك من سير الصحابة والتابعين وأمثالهم- رضوان الله عليهم.

وأذكر كذلك ضرورة احتواء المنزل على مكتبة مهما كانت يسيرة، إلا أن كتبها تُختار من كتب التاريخ الإسلامي، وتراجم السلف وكتب الأخلاق والحِكَم والرحلات الإسلامية والفتوح ونحوها.. ولئن كانت صيدلية المنزل ضروريةً لدواء الأجسام، فالمكتبة الإسلامية في المنزل ضروريةٌ لإصلاح العقول.

وما أجمل أن أذكر هنا قول "سعد بن أبي وقاص"- رضي الله عنه-: "إننا لنروِّي أبناءنا مغازي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما نروِّيهم السورة من القرآن".
أما واجب جمعيات الشبان المسلمين في ذلك فهو إيجاد هذه الروح في الشعوب الإسلامية، وتشجيعها بكل وسائل الإمكان، ومن هذه الوسائل:

1- تدريس نظام المنازل والأسر الإسلامية؛ لتعرف أوجه النقص وأسبابه، وأوجه الكمال ووسائله، وذلك من برنامج اللجنة الاجتماعية التي نصَّت عليها اللائحة الداخلية.

2- حمل الأعضاء أولاً على ذلك، وإقناعهم بأنَّ هذا من أهم الأغراض التي ترمي إليها الجمعية، والتي تؤدي إلى تكوين نشءٍ إسلامي فاضل، ثم هم بعد ذلك يقومون بدعوة غيرهم.

3- الإكثار من المحاضرات في شئون الأسرة والطفل، وتوزيع النشرات لترويج هذه الدعاية.

4- تأليف اللجان لتصنيف الكتب القصصية اللازمة لخلق هذه الروح في نفوس الأطفال، وفي الجمعيات- بحمد الله- من يمكنهم ذلك بسهولة، لو وجَّهوا له شيئًا من عناياتهم، ووهبوا له جزءًا من أوقاتهم، وهو من واجب اللجنة العلمية المذكورة في اللائحة.

5- مطالبة الوزارة بإصلاح مناهج تعليم البنات ومدارس المعلمات، والإكثار من التعليم الديني وتراجم شهيرات النساء المسلمات، ونحو ذلك مما يتصل به، والاهتمام بهذا الأمر اهتمامًا يتناسب مع جليل خطره.

6- إنشاء مدارس لتعليم البنات، وهذا يكون طبعًا بعد أن يشتد ساعد الجمعيات ويقوى، وتجد المعاونة من أغنياء الأمة وسَراتُهم.

وأراني هنا مضطرًا إلى القول بأنَّ جمعيات الشبان المسلمين لم تحقق هذه الغاية إلى الحد المأمول منها؛ ولهذا يرجع ذلك إلى أنها في بدء التكوين، وإلى أن ماليتها محدودة لا تتسع لذلك، إلا أنَّ الواجب أن تهتم بكل وسيلة ممكنة حتى تتمكن في النهاية من كل الوسائل.. والله ولي التوفيق.