جرت عادة أكثر الناس خلال حواراتهم ومناقشاتهم أن يركزوا انتباههم على الطرف الآخر، لمعرفته وسماع حجته، لاستيعابها والرد عليها، لكن الذين يغفلون عنه هو أن يراقب الإنسان نفسه ليُحكم سيطرتَه عليها، على نوازعه ولسانه وصوته، وعلى طريقته في الرد أو الاستفسار، إذ قد تنفلت منه كلمة نابية، أو عبارة حادة، أو جملة فيها رائحة الأستاذية والتعالي والتعاظم بما يكون له أسوأ الآثار على الحوار.

لذلك انتبه لنفسك: هل أنت مسْتعلٍ بعلمك؟ وهل يبدو هذا الاستعلاء في معالم وجهك أو لهجة كلامك، أو إشارة يديك؟ عدِّل طريقتك فورًا، وإذا أسأت فاعتذر، ولا تستسلم لعاطفتك، فتتحول من مناقش إلى خطيب، لا تكرر نفسك أو غيرك، فإن الناس قد سئموا التكرار.

كذلك على المحاور الحكيم، أن يراقب نفسه بالدرجة نفسها من اليقظة والانتباه التي يراقب فيها الآخرين، وليتذكر دائمًا أنه بالقدر الذي يظهر فيه مسيطرًا على نوازعه ولسانه وصوته وطريقته في الأداء يفوز باحترام الآخرين، وهذا من ألزم ما يلزمه كرجل ينْشُد الحق، ويبحث عن الصواب، ويريد الهداية للآخرين، وعليه ألا ينسَى نفسه في خضَمِّ تدافع الخواطر فيسترسل أكثر مما ينبغي.

تدريب طويل

احذر أن تستدرج ما يفقدك السيطرة على نفسك، أو أمانتك العلمية، فهناك بعض الناس لا يبحث عن الحقيقة، ولا يجادل إلا بالباطل، تدرب على فنِّ المناظرة والجدل، لا يتقي الله فيما يقول، ولا يتورع عن سوْق الأفكار المضللة، وقد يعمد إلى الكذب الرخيص بغيةَ إحراج من يناظر من العلماء أو المفكرين أو الدعاة، أو أصحاب المبادئ.

إن السيطرة على النفس ليست أمرًا سهلاً، فهي تحتاج إلى تدريب نفسي طويل، ومن أنجح وسائله محادثة النفس في أوقات الهدوء وإقناعها - وهي بعيدة عن حلبة المناظرة - أن الانفعال الذي يخرج بها عن حدودها فيه أذىً لها، وللفكرة التي تحملها؛ لذلك كنْ هادئ النفس، منبسط الأسارير، وابتسم إن استطعت.

وحاول أن تجعل لك محطات في الحديث تراجع فيها نفسك وتُسائلها: هل أنت ملتزم بما سبق أن هيَّأْتَه من أفكار؟ وهل أخرجك النقاش عن جادة الاتزان؟ وهل الأفضل أن تستمر على هذا النَّسق... أم الأفضل أن تعدِّل من انفعالاتك وطريقتك في الحديث؟

إن مثل هذه المحطات ذات فائدة كبيرة؛ لأنها تجعل أمرك في يدك، وتظل مسيطرًا على نفسك متحكمًا في لسانك، وتعرف متى تتكلم ومتى تسكت!!.

افهم واستوعب

على المحاور أن يتأنَّى حرصًا على الفهم، وأن يحذر العجلة في الحكم، وإذا غاب عنه معنىً أو فاته فلا يمنعه الخجل أن يطلب استعادته ويستوثق من القصد قبل أن يتَّجه إلى النقد.

قال الإمام أبو حنيفة- يرحمه الله- لأحد تلاميذه: "أصلحك الله، لا تكونن منك العجلة، وتثبت في الفتيا، فإن أنكرت شيئًا مما أذكره لك فسلْ عن تفسيره إن كنت مناصحًا، فربَّ كلمة يسمعها الإنسان فيكرهها فإذا أخذ بتفسيرها رضيَ بها، ولا تكونن كالذي يسمع الكلمة فيكررها ثم يغتنمها إرادة الشيْن فيذيعها في الناس، ولا يقول عسى أن يكون لهذه الكلمة تفسير ووجه عدل لا أعلمه، أفلا أسأل صاحبي عن تفسيرها؟ أو لعلها كلمة جرت على لسانه ولم يتعمدها، فينبغي لي أن أتثبت ولا أفضح صاحبي حتى أعلم وجه كلامه".

ومن موجبات الحذر أن تستوعب الموقف الذي أنت فيه فلا تسرع إلى الحديث من غير ضرورة، ولا تثِرْ الحضور من غير حاجة.

يقول أبو عمرو بن العلاء: "ليس من الأدب أن تجيب من لا يسألك، أو تسأل من لا يجيبك، أو تحدِّث من لا ينصت لك".

ومن حسن السمت وكمال الأدب ما أشار به "إبراهيم بن أدهم": "الحزم في المجالسة أن يكون كلامك عند الأمر، والسؤال بالمسألة في موضع الكلام على قدر الضرورة والحاجة مخافة الزلل، فإذا أُمّرت فاحكم، وإذا سُئلت فأَوْضح، وإذا طلبت فأَحسِن، وإذا أُخبرت فحقِّق، واحذرْ الإكثار والتخليط.. فإن من كثُر كلامه كثر سقْطه".

ويرحم الله القائل:
                               قد يدرك المتأني بعضَ حاجته     وقد يكون مع المستعجل الزللُ

أخيرًا..

انتبه لنفسك وأنت تحاور أو تتناقش.. هل ترفع صوتك؟!

وتذكَّر نصيحة لقمان لابنه: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان:19).