قضية فلسطين قضية من أخطر القضايا التي تواجه أمة الإسلام، بل لعلها أخطر القضايا على الإطلاق.. هذه الأرض الإسلامية المباركة المغتصبة، التي تآمر عليها أهل الشرق وأهل الغرب، بل وتآمر عليها مسلمون، إما بجهل وإما بعلم، ومع ذلك فكما طمأننا الله- عز وجل- في كتابه سيكون ميراث هذه الأرض- إن شاء الله- للمسلمين المتقين: ﴿إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: 128).

فلسطين أرض إسلامية، كما أن مصر أرض إسلامية، وكما أن العراق أرض إسلامية، وكما أن الشيشان أرض إسلامية، وكما أن أي بقعة على الأرض حُكمت بالإسلام- ولو يومًا واحدًا- أرض إسلامية... وذلك لأنه لو دخل الإسلام بلدًا فتحًا أو صلحًا، وحماها الشرع الإسلامي؛ لصار هذا البلد إسلاميًّا إلى يوم الدين، مهما تغيرت قوانين الأرض، ومهما اختلفت أحكام البشر، ومهما تضاربت أقوال الناس؛ لأن هذا هو شرع الله- عز وجل- ولا تبديل لكلمات الله، وأرض فلسطين ليست أرضًا إسلامية فقط، بل خصها الله- عز وجل- بخصائص فريدة لا تجتمع في غيرها من أراضي المسلمين.

فأولاً: هي قبلة المسلمين الأولى.

وثانيًا: هي مسرى رسول الله- صلى الله عليه وسلم.

وثالثًا: فإن بها الأقصى الذي ربطه الله- عز وجل- بالبيت الحرام، فجعله البيت الثاني للعبادة على الأرض بعد الكعبة.

ورابعًا: بها المسجد الذي لا تُشد الرحال إلا إليه وإلى البيت الحرام ومسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم.

وخامسًا: الصلاة في مسجدها الأقصى بخمسمائة صلاة.

وسادسًا: سماها الله- عز وجل- في كتابه بالأرض المباركة وبالأرض المقدسة.

وسابعًا: هي أرض المحشر والمنشر.

وثامنًا: جعل الله على أرضها كثيرًا من المعارك الفاصلة في تاريخ المسلمين كأجنادين، وبيسان، وحطين، وعين جالوت، وسيكون على أرضها- إن شاء الله- أيضًا القتال الأخير بين المسلمين واليهود، والذي سيكون قبل الساعة مباشرةً، وفيه ينتصر المسلمون- بإذن الله.

وتاسعًا: بارك الله- عز وجل- في أهلها إلى يوم القيامة، فأشار إلى أنهم لا يزالون على الحق إلى يوم القيامة في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.

وعاشرًا: لأن الله- عز وجل- جعلها موطن كثير من الأنبياء الذين ولدوا فيها أو هاجروا إليها، أو عاشوا على أرضها، أو دفنوا في باطنها.

فتلك يا إخواني عشرة كاملة، لأجلها فُضلت هذه الأرض على غيرها من أراضي المسلمين.

وقد يسأل سائل: لماذا فضلت هذه الأرض بالذات بكل هذه المزايا؟ ونقول: إن الله- عز وجل- بسابق علمه علم أن أهل الأرض جميعًا سيفكرون في غزو هذه البقعة الصغيرة من الأرض؛ لقدسيتها وخيريتها، وأن هذه المنطقة ستظل بؤرة صراع إلى يوم القيامة، طمع فيها الفرس، وطمع فيها الرومان، وطمع فيها الصليبيون، وطمع فيها التتار، وطمع فيها الإنجليز، وطمع فيها اليهود، وسيطمع فيها آخرون وآخرون، فأراد الله- عز وجل- أن يزرع الحمية العظيمة في قلوب المسلمين؛ حتى لا يسكتوا عن احتلالها أبدًا.. نعم، المسلمون يجب ألا يقبلوا باحتلال أو تدنيس أي أرض إسلامية.

غير مقبول تمييع قضية فلسطين أو تحريف إسلاميتها

ولكن هذه الأرض بالذات ستتكرر محاولات تدنيسها واحتلالها، ولقد رفع الله- عز وجل- من قيمتها؛ حتى لا ينساها المسلمون أبدًا مهما تقادم الزمان على احتلالها؛ ولذلك فإسلامية قضية فلسطين واضحة جدًّا أكثر من وضوح أي قضية إسلامية أخرى، ومن ثم لا يُعقل ولا يُقبل أن تُميَّع هذه القضية بالذات أو تُحرَّف إسلاميتها أبدًا؛ ولذلك أيضًا فقد جعل الله- عز وجل- قضية فلسطين مقياسًا لإيمان الأمة بصفة عامة، فتسقط فلسطين في براثن الاحتلال أيًّا كان هذا الاحتلال؛ إذ ابتعد المسلمون عن دينهم، وفقدوا هويتهم، ولم يتبعوا شرع ربهم، وتعود فلسطين إلى ديار المسلمين إذا عاد المسلمون إلى دينهم، وتمسكوا بشرع ربهم وسنة نبيهم- صلى الله عليه وسلم- فلحظات ارتفاع المقاومة للاحتلال، ولحظات النضال والجهاد والقوة هي لحظات الإيمان، وأما إذا ظهر الاستسلام والخنوع، فهذه إشارة إلى غياب الدين من حياة المسلمين.

مقياس دقيق جدًّا لإيمان الأمة

ولا نقول إننا نعود إلى الله ونقبل بالإسلام فقط لتحرير فلسطين، وإنما تحرير فلسطين واجب من الواجبات الكثيرة والهائلة التي أمرنا الله- عز وجل- بفعلها؛ فالصلاة واجب، والصيام واجب، والزكاة واجب، وبر الوالدين واجب، وحسن الجوار واجب، والجهاد واجب، وتحرير الأرض واجب، ورفع الظلم واجب، واجبات كثيرة أمرنا الله بها، ولاىبد لنا من فعلها، وليس لنا أن نختار من دين الله- عز وجل- ما يحلو لنا، ونترك ما لا يحلو لنا: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ (البقرة:85)، فنحن نعود إلى الله- عز وجل؛ لأنه أمرنا بالعودة الدائمة إليه: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ﴾ (الزمر:54)، فإذا عُدنا إليه بكل معاني كلمة العودة؛ بمعنى أن نستجيب له في كل صغيرة وكبيرة، وفي كل أمر ونهي، فإنه يرضى عنا، ويحقق لنا مرادنا من تحرير فلسطين أو غيره: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105)، فنحن لا نعود إلى الله- عز وجل- في الأزمات والشدائد فقط، أو لأجل حاجة معينة أو غرض بذاته.. إنما نعود إليه؛ لأنه ربنا وإلهنا، والذي بيده مقاليد الأمور كلها، ولأننا عباده الذين نرجو رحمته، ونرهب ناره، نعود إليه لأننا نعبده بكل ذرة في أجسادنا ودمائنا وعظامنا، ولسنا كالعبد السوء الذي إن أُعطي عمل، وإن لم يُعط سخط؛ إنما نحن نعمل بما شرع؛ سواء كنا في زمان استضعاف، أو في زمان تمكين، وسواء كنا في غزة، أو في غيرها، وسواء كنا في فقر أو في غنى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(الأنعام: 162)، وإذا كان من طبيعة البشر بصفة عامة أن يتذكروا أحيانًا وينسوا أحيانًا أخرى، ويقتربوا من الله أحيانًا، ويبتعدوا عنه أحيانًا أخرى، فإن الله- عز وجل- من رحمته بخلقه وضع لهم أمورًا في الأرض تذكرهم به دائمًا إذا نسوه، وتُعيدهم إليه كلما ابتعدوا عنه؛ رحمة من الله- عز وجل- ورأفة بخلقه.

ومن هذه الأمور فلسطين:

فَقِهَ هذه الحقيقة عظماء المسلمين وعلماؤهم وفقهاؤهم وقادتهم، فكانوا إذا ابتعد الناس عن الله- عز وجل- وسقطت فلسطين، ألهبوا حماس الناس بقضية فلسطين، لا يستخدمونها فقط لمجرد التحرير، ولكن يستخدمونها للهدف الأسمى، والغاية العظمى، وهي العودة إلى الله- عز وجل.

عودة فسطين مرهونة بالعودة إلى الله:

"نور الدين محمود" الشهيد- رحمه الله- صنع منبرًا ضخمًا، وقرر أن لا يهدأ له بال ولا يغمض له جفن حتى يضع هذا المنبر في المسجد الأقصى، أو يتوفاه الله- عز وجل- قبل ذلك، فقه- رحمه الله- إسلامية القضية، واستغلها ليعيد الناس إلى ربهم. كذلك فعل "صلاح الدين الأيوبي"- رحمه الله-، وما فكر في تحرير فلسطين إلا بعد أن اطمأن إلى عودة المسلمين إلى ربهم، وصدقهم معه، فهنا علم أن النصر قريب؛ فكانت حطين، وكان تحرير بيت المقدس.

فقه ذلك أيضًا السلطان قطز- رحمه الله- فما تحرك إلى فلسطين إلا بعد أن قام العلماء والفقهاء، وعلى رأسهم العز بن عبد السلام- رحمه الله- يرغّبون الناس في الجنة، ويخوّفونهم من النار، ويعظمون عندهم الجهاد ويرفعون عندهم قيمة الموت في سبيل الله.. ولما تيقن قطز- رحمه الله- من عودة الناس إلى ربهم علم أن النصر على التتار نتيجةً حتميةً لهذه العودة إلى الله؛ فكانت عين جالوت وما بعدها من إهلاك التتار، وتحرير فلسطين والشام: ﴿إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: 7)، ومن ثَمَّ، فإنه على الدعاة المسلمين أن يُحسنوا استغلال قضية فلسطين في لفت أنظار المسلمين إلى ضرورة العودة إلى الله- عز وجل- فضياع فلسطين علامة على نقص الإيمان وضعفه، وكلما ازداد موقف المسلمين ضعفًا في قضية فلسطين أدركت أن المسلمين ابتعدوا عن الله أكثر، وهذا أمر مرعب، وناقوس خطر عظيم.

يجب على الدعاة أن يوضحوا للناس- تمام الوضوح- إسلامية القضية الفلسطينية، وارتباطها الوثيق بقيمة المسلمين عند الله- عز وجل- وأن الله- عز وجل- إن علم خيرًا في جيل ما فإنه يمكِّن له، وإن علم ضعفًا وجبنًا وخورًا وخبثًا في جيل آخر استبدل به: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ (محمد: 38)، وعلى الدعاة أن يشرحوا للمسلمين كيف تتحول حماستهم لفلسطين إلى عمل إيجابي لا يحرر فلسطين فقط، بل يرفع من شأن الأمة الإسلامية بكاملها، ويأخذ بيدها إلى مكان الصدارة والقيادة للأرض كما أرادها الله- عز وجل: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران: 110).

ولا يستقيم أن يرفع المسلمون أيديهم إلى الله- عز وجل- يدعونه أن يرجع إليهم فلسطين، وأن يرفع عنها البلاء، وهم لا يقدِّمون عملاً، ولا يركبون خيلاً، ولا يرفعون سيفًا، ولا يتمسكون بقرآن، ولا يحفظون سُنَّة، ولا ينتجون غذاءهم ودواءهم وسلاحهم، ولا يُحكِّمون شرع الله- عز وجل- في حياتهم.

الإسلام منظومة متكاملة، والمسلم الفقيه هو من يُحيط علمًا بكل جوانب الصورة الإسلامية؛ فلا يهتم بشيء ويهمل آخر، ولا يختار من الدين ما يوافق هواه ومزاجه، بل يكون شعاره في حياته دائمًا: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (البقرة: 285).

قضية فلسطين قضية إسلامية تمامًا، وحتمًا ستعود فلسطين في يوم من الأيام إلى الإسلام والمسلمين، ولكن المهم مَن الذي سيعيدها؟ أو قل: من الذي سيعود إلى الله، فيعيد الله إليه فلسطين؟!

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ* إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (التوبة: 38، 39).