منذ بداية تدخلها في سوريا، في سبتمبر 2015، لم يقتصر سعي روسيا فقط على الحفاظ على حليفها العربي الأكثر إخلاصا، رئيس النظام السوري "بشار الأسد". بل اتضح هدفها بالرغبة في استعادة النفوذ الإقليمي والعالمي الذي فقدته منذ سقوط الاتحاد السوفيتي.

وسعى الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" إلى استغلال الاضطرابات في الشرق الأوسط لمحو كل ما تأسس من أعراف وتطورات دولية في القانون الإنساني الدولي منذ الحرب العالمية الثانية. وفي الواقع، لم يكن خلق الكارثة الإنسانية التي حولت نحو 6 ملايين سوري إلى لاجئين نتيجة ثانوية لاستراتيجية الرئيس الروسي في سوريا، بل كانت واحدة من أهدافه المركزية.

وهنا ربما يكون "الأسد" هو الحاكم الأكثر وحشية الذي شهده العالم منذ "جوزيف ستالين". فعندما انتفض شعبه ضده، وضع استراتيجية عسكرية تهدف إلى إلحاق أكبر ضرر ممكن بخصومه المدنيين. واستهدف عمدا المستشفيات والمدارس ورياض الأطفال، في محاولة لقتل شعبه وإذلاله وبث اليأس في نفوس خصومه، واستخدم الغازات السامة والهجمات الكيميائية على مدار الصراع الذي خلف أكثر من نصف مليون قتيل. وفي هذه الأثناء، قدم له "بوتين" الدعم الجوي الذي بدونه لم يكن "الأسد" قادرا على تنفيذ استراتيجيته.

وفي مايو 2019، قصفت روسيا 4 مستشفيات في 12 ساعة، وفق تحقيق أجرته صحيفة "نيويورك تايمز". وفي 26 فبراير 2020، وفقا للأمم المتحدة، تم استهداف 10 مدارس في يوم واحد، بما في ذلك رياض الأطفال. وحسب مسؤولي الصحة المحليين، منذ إطلاق النظام السوري وحليفته روسيا الحملة لاستعادة إدلب، في أبريل 2019، تم استهداف 49 منشأة طبية على الأقل. ويشير تحقيق آخر إلى أن العدد قد يصل إلى 60.

كما استهدفت روسيا 14 مخيما على الأقل للمشردين داخليا خلال النزاع في إدلب, وفي الأسابيع الأخيرة، تضاعفت الهجمات على المخيمات القريبة من الحدود التركية؛ ما دفع بمئات الآلاف من الأشخاص في اتجاه الحدود التركية. وأصاب هذا الأمر أنقرة بالذعر؛ ما دفعها إلى تشجيع اللاجئين الموجودين بالفعل على أراضيها على التوجه نحو أوروبا, وقد أدى هذا بدوره إلى أزمة لاجئين على الحدود التركية مع اليونان.

وأشارت منظمات المجتمع المدني السورية وجماعات حقوق الإنسان الدولية مرارا إلى هذا الاستهداف المنهجي للمدنيين والبنية التحتية المدنية الأساسية، لكن دون جدوى.

ونظرا لأن روسيا عضو دائم في مجلس الأمن، فقد استخدمت حق النقض مرارا وتكرارا، بما مجموعه 14 مرة منذ بداية الحرب في سوريا، لعرقلة الجهود الرامية إلى المساءلة. ويشمل ذلك استخدام حق النقض، إلى جانب الصين، ضد قرار تدعمه 65 دولة وبقية مجلس الأمن كان يحيل جرائم الحرب المرتكبة في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية.

وكانت الحكومة الوحيدة التي أنشأت قوات عسكرية للدفاع عن المدنيين المحاصرين في إدلب على يد "الأسد" وروسيا هي تركيا. وقتلت الغارات الجوية التي قامت بها الطائرات الروسية 34 جنديا تركيا أواخر الشهر الماضي، رغم أن موسكو نفت تورطها. لكن تركيا لم تجرؤ على مهاجمة روسيا مباشرة؛ لأن سلاح الجو الروسي أقوى من تركيا.

فلدى روسيا أسلحة نووية وتركيا ليست كذلك. واختارت تركيا بدلا من ذلك الانتقام من قوات "الأسد" باستخدام الطائرات بلا طيار. وهكذا أفلت "بوتين" من العقاب على القتل والمجازر التي ارتكبها ولا يزال يرتكبها.

وفي عام 2014، حث كاتب المقال "جورج سوروس" أوروبا على أن تستيقظ للتهديد الذي تمثله روسيا لمصالحها الاستراتيجية، وإن كان ذلك في سياق وجغرافيا مختلفة. وكانت روسيا قد غزت أوكرانيا. وسعت أوروبا إلى تجنب أي مواجهة مع موسكو.

ومع ذلك، يتبع ما يحدث في إدلب الآن نفس النمط؛ حيث تتجنب أوروبا المواجهة مع روسيا بشأن سياستها تجاه سوريا في الوقت الذي يجب أن تقف فيه أمامها. ومن خلال التركيز على أزمة اللاجئين التي خلقتها روسيا، فإن أوروبا تعالج الأعراض وليس السبب.

ويجب على أوروبا، التي وضعت قيودا للحد من تدفق اللاجئين، الاعتراف بأن تركيا قد تحملت بالفعل وطأة إسكان ملايين السوريين النازحين من بلادهم. وتستضيف تركيا بالفعل 3.5 ملايين لاجئ سوري على أراضيها. ولا يمكن لها أن تستوعب الملايين الإضافية التي يدفعها "الأسد" و"بوتين" نحو حدودها.

لذلك ينبغي على أوروبا أن تسعى إلى تعزيز موقف الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" التفاوضي مع "بوتين"، في محاولة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار من شأنه الحفاظ على "منطقة آمنة" في إدلب للاجئين السوريين, ونأمل بعد هذا أن تأخذ جرائم الحرب التي ارتكبها "بوتين" حيزها اللازم في قلب الحوار الأوروبي.

--------

المصدر | جورج سوروس/فاينانشيال تايمز