في ذكرى استشهاده

نحن اليوم في زمن الجهاد والإستشهاد، والثقافة التي يجب أن تحتل الحيّز الأكبر من عقولنا وقلوبنا وتوجهاتنا وسلوكياتنا، هي ثقافة المقاومة، وما ينبثق عنها من فكر جهادي يرى الشهادة أسمى الأماني في هذه الحياة، لأنها هي وحدها التي تقود العرب والمسلمين إلى تحرير بلادهم من الاحتلالات التي شملت الكثير من أرضهم بصورة علنية وفي وضح النهار، أما الاحتلالات المقنّعة، فشاملة، ولن ينجينا منها سوى النفير العام، خفافاً وثقالاً، جهادًا واستشهادًا، وليس من طريق للنجاة سواه، مهما تفلسف المنهزمون من الداخل والخارج.

والقائد الشهيد عبدالعزيز الرنتيسي واحد من مئات الألوف الذين ساروا على هذا النهج، إلى أن نال إحدى الحسنيين، وسوف ينال السائرون على دربه نصرًا أو شهادة.

وفي ذكرى مولده 23 من أكتوبر نقدم لقرائنا الكرام مقالا من مقالات الشهيد الرنتيسي:

كرامة الحر أغلى من حياته

لقد حرص الإسلام على تربية أتباعه على معاني الكرامة والعزة (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون)، وفي ظل تعاليم الإسلام ينشأ الإنسان وقد تجذر في وجدانه الشعور بالكرامة سواء على صعيد كرامته الشخصية أو كرامة المجتمع الذي ينتسب إليه أو كرامة الأمة التي ينتمي إليها، فلا غرابة إذن أن يثور المسلم ويغضب إذا مست كرامته أو كرامة شعبه وأمته، ففي عقيدته الموت دفاعا عن النفس شهادة، والموت دفاعا عن الأهل شهادة، والموت دفاعا عن الأمة شهادة.

ومن هنا كانت الكرامة عند الإنسان المسلم أغلى من الحياة، ففي الوقت الذي تطيب فيه نفسه للموت دون كرامته، نراه يأبى أن تموت فيه الكرامة لتبسط له الحياة جناحها، ولقد قال العرب من قبل "تموت الحرة ولا تأكل بثدييها"، وهذه هي الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها (ولقد كرمنا بني آدم).

ويبقى الإنسان حرا طليقا في عالم الكرامة ما لم يقع في شباك العشق للحياة الدنيا، عندها ينكص على عقبيه، ويستمرئ الذل والعبودية لغير الله (قيل وما الوهن يا رسول الله؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت)، وسينتقل من موطن ذل إلى آخر وقد مرغت كرامته في التراب دون أن تؤجج الغيرة نار الثورة في قلبه، (ومن يهن الله فما له من مكرم).

ومن يهن يسهل الهوان عليه       ما لجـرح بمــيت إيـلام

ففي الوقت الذي تغتصب فيه عصابات اليهود فلسطين، وتدنس مقدساتها، وتمارس أبشع صور القهر والعدوان ضد شعبنا الفلسطيني المرابط، نرى حفنة من العملاء قد باعوا أنفسهم للعدو بثمن بخس، إنهم نموذج واضح لمن تجرد من كل بقية من كرامة، فلا يعبأ بكرامته الشخصية ولا بكرامة شعبه ولا بكرامة أمته، تقوده شهوته بلا كوابح من غيرة ولا ضمير، فتراه يتلصص على أبناء شعبه لينقل للعدو أخبار الشرفاء الأحرار، وتراه يشارك بنفسه بتنفيذ مخططات العدو بارتكاب جرائم بشعة ضد شعبه، متمثلة باغتيال المناضلين والمجاهدين وكذلك المذابح الجماعية، وتراه يقوم على حراسة أمن المحتلين الغاصبين فلا يغمض له جفن ولا يذوق طعم الراحة، يبيع نفسه ودينه وشعبه وأمته بدنيا أعدائه.

وفي المقابل ترى الصورة المشرقة المشرفة لأولئك الأحرار المنتفضين على واقع الذل، الذين بلغت بهم مراتب العزة أن يفجروا أنفسهم دفاعا عن دينهم وكرامتهم وكرامة شعبهم وأمتهم، فلما كان الاحتلال صورة بشعة من صور القهر والإذلال وهدر كرامة الإنسان، وقد تجرأ على انتهاك كرامة الشباب المسلم وذلك قبل انتفاضة 1987؛ حيث كان جنود الاحتلال يكرهون الشباب بقوة السلاح على النزول من الحافلات، والانبطاح على وجوههم في الطرقات لتدوس ظهورهم أقدام الجنود الصهاينة، حتى الكهول لم يسلموا من الاعتداء على كرامتهم فقد كان الجنود يجبرونهم بقوة السلاح على الرقص في الشوارع أمام المارة، وبلغ الأمر بالمفسدين اليهود أن تجرءوا على أعراض المسلمين، وانتهكوها في حملة من الإسقاط للصبية في سن الحداثة.

هذه نماذج من انتهاكات متعمدة لكرامة الإنسان المسلم ارتكبها العدو المفسد ليس لها أول ولا آخر، ولذا كانت الانتفاضة التي أثبت فيها شعبنا الفلسطيني أنه حر يستنكف الذل ويأبى بالدنية ، ولسان حاله يقول الموت أحب إلى من امتهان كرامتي، ولقد دفع شعبنا ثمن الذود عن كرامته دماء وحرية خيرة شبابه، ولكن في المقابل دفع العدو ثمن استخفافه بكرامة المسلمين وتجرئه عليها.

ولا أنكر أن العدو قد تنبه لأصالة هذا الشعب وأصالة معدنه، ولذا ربما أراد للسلطة أن تقع في الشرك الذي وقع فيه من قبل، يوم دخل معه في مواجهة مفتوحة استمرت لسبع سنوات رغم كل الممارسات القمعية، فأخذ يضغط على السلطة كي تنزلق إلى المنزلق الخطير والمتمثل في امتهان كرامة الإنسان الفلسطيني، وكل أمله من وراء ذلك أن يؤجج نار حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس.

وما من شك أن السلطة قد استدرجت عام 1996، إذ أدت الضغوط إلى اعتقال المئات من الشباب المسلم، وإهدار كرامتهم وذلك بتعذيبهم جسديا ونفسيا، ولكن إدراك الحركة الإسلامية ووعيها لمرامي العدو الصهيوني من وراء تلك الضغوط شكل سدا منيعا في وجه المؤامرة الصهيونية، ففوتت الفرصة عليه، ووجهت بنادقها إليه، وكفت أيديها عن السلطة، رغم المحنة والمرارة والألم التي حاقت بشباب كل جريمتهم أنهم مسلمون يرفضون واقع الاحتلال.

ويعود الضغط اليهودي والغربي على السلطة من جديد كي تمتهن كرامة المجاهدين وتعيدهم إلى أقبية التحقيق، للشبح والموت والإهانة، وكل غايتهم أن يشعلوا فتيل الحرب الأهلية في مجتمعنا الفلسطيني المنتفض، إدراكا منهم أنه من المشكوك فيه أن الذي ذاق العذاب من قبل والذي وصل إلى مسامعه معانات المعتقلين في أقبية التحقيق سيقبل أن تداس كرامته مرة ثانية، وعليه كانت توقعاتهم أنه سيدافع عنها مهما كلف الأمر، ولقد أدرك الصهاينة أن في السلطة الفلسطينية من يحرض على خوض التجربة من جديد، وشعاره إما الدولة أو الفصائل المجاهدة،

وكأن الدولة تنتظر فقط امتهان كرامة المجاهدين وسلب حرياتهم وتعذيبهم كي تصبح واقعا على الأرض، وكأن الدولة أغلى من كرامة الشعب الفلسطيني وحرية أبنائه، فإذا كان هناك من يفكر بهذه العقلية فعليه أن يدرك أن الذي ذاق مرارة الاعتقال والتعذيب في الماضي من المشكوك فيه أن يسلم نفسه للعذاب المهين.

ومن هنا أحببت أن أدق ناقوس الخطر وأقول لكل الشرفاء من أبناء جلدتنا وممن لهم موقع في السلطة أن يبذلوا جهدهم لوقف الطوفان قبل فوات الأوان.