من تراث الراحل الشيخ محمد الغزالي

للجسد الإنساني وقوده الذي يحيا به ويتحرك، ويستحيل حرمان هذا الجسد من مصادر وجوده ونمائه وتنقله هنا وهناك!

التجويع التام يقتله، والحرمان من عناصر رئيسية يثير الاعتلال في كيانه، ويفرض عليه الذبول واللغوب.

ولم يجئ في شرع الله تكليف من هذا النوع المحرج، بل جاء في السنة استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من هذا البلاء: ((أعوذ بك من الكفر والفقر، وأعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت)).

لكن الواجدين من الناس عندما يطعمون لا يكتفون بتناول الغذاء المطلوب لأبدانهم، بل يلتهمون مقادير أكبر.. كلٌّ على قدر نهمته وطاقته!! ونحن نفتنُّ في تزويد أنفسنا بأزيد من حاجتها، والرغبات تمتدُّ مع التلبية المستمرة، وتألف ما اعتادت،  وتطلبه إن فاتها !!

وهذا الجسد قادر على اكتناز ما يفرض عليه إما بدانة مفرطة، أو قبولاً لما يشحن به، ثم عملا صوريًّا فيه، ثم خلاصا معنتاً منه!! وهو الخاسر في هذا الجهد الضائع، والحياة العاقلة من حوله تقول: لو كان هذا  نصيب معدة فارغة لكان خيرا له ولها، ولكان أسعد وأرشد، وقديما قيل:

             والنفس طامعة إذا أطمعتها        وإذا ترد إلى قليل تقنع!!

لعل فريضة الصيام تذكرنا بهذه الحقيقة النفسية التائهة،  لكن هناك شيء آخر يجيء رمضان ليذكرنا به نحن- العرب والمسلمين- في أقطار الأرض كلِّها.

نعم، إذا كانت شهية بعض الناس مفتوحة للمزيد من ملذات الدنيا، فما أحرى المنهزمين بأن تنكمش أيديهم، وتغصَّ حلوقهم، وإذا كان أهل الأديان كلها يمرحون ويهشون، فما أحرى بني الإسلام بالصيام عن فنون المتع وألوان السرور.

ذلك أنَّ المرحلة التي يمرون بها لا تتحمل من ذلك قليلًا ولا كثيرًا.. في أعقاب المتاعب التي تصيب الأمم، وتنتظم آلامها الأفراد والجماعات، يحدث تغير شامل في السلوك القومي العام، ويزهد الصغار والكبار في فنون من المتع كانوا من قبل يألفونها، وأنواع من المرح طالما ابتهجوا أيام السلام بها.

وهذه عادة عربية قديمة، كان أسلافنا الأوائل إذا نال منهم عدو أو حل بهم مكروه، هجروا تقاليد السرف والترف، وصدوا عن أسباب اللهو والمجون، وما يسمح أحدهم لنفسه بسرور غامر، وضحك عال إلا إذا نال ثأره، أو استردَّ ما فقده، أو أوقع بخصمه مثل ما نزل به، فإذا تمَّ له ما يبغى قال وهو مستريح:

           فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً       أكَادُ أغَصُّ بالماءِ الفُراتِ

وقد نزل أبو سفيان، وجمهور أهل مكة على هذه العادة بعد هزيمتهم في معركة بدر، فحلف أبو سفيان أن يحرم نفسه شتى الملذات حتى يدرك ثأره من محمد...

إنَّ الأثر النفسي العظيم لفريضة الصيام هو تدريب المؤمن على ضبط نفسه، وإحكام أمره وتقييد شهواته، فهو إذ يترك بعض الأعمال المباحة يتمرَّن على ترك جميع الأعمال المحظورة، أو التي تفرض ظروف المروءة وأعباء الكفاح أن يتركها، وقديما قال رجل عزيز صلب:        

    يَقُولُونَ هَذَا مَوْرِدٌ قُلْتُ قَدْ أَرَى    ولكنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تحتمِلُ الظَّمَا !!

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب طاقة كبيرة على الحياة مهما تباينت ظروفها، واختلف عليها العسر واليسر، والانكسار والانتصار، ولقد علَّم أصحابه أنَّ الاستسلام للشهوات المادية، والحرص على نمط معين من الملذات سقوط بالهمة، وخور في العزيمة، واسترخاء مع الشيطان.

قال عليه الصلاة والسلام ... (( إنَّما أخشَى عليكم شهَواتِ الغَيِّ في بطونِكم وفروجِكم ومُضلَّاتِ الهوَى)) ... وقال- يصف عشاق الليونة والرخاوة والمظاهر الجوفاء- (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة). والقطيفة والخميصة أنواع من الأقمشة الملبوسة والمفروشة، تمتاز بالفخامة والنعومة، يحرص عليها طلاب الراحة وعبيد المثل الدنيا لا المثل العليا.

ويظهر أنَّ بعض المسلمين لا يستفيدون من صيامهم هذه الآثار النفسية والاجتماعية التي تعين على خلق شعوب مجاهدة تتحمل متاعب الحصار الاقتصادي والعسكري، وأنهم حريصون في جوانب كثيرة من حياتهم على تقاليد اليسار والسعة والتشبث بما ألفوه أيام السلام والسلامة!

وما نفكر في تحريم مباح، ولا في زجر الناس عن طيبات أُحلَّت لهم، ولكنا نفكر في مواجهة العدو المتربص وضرورة وعي الأساس الأوحد للقائه، وهو أنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم..  عندما أعلن غاندي المقاطعة السلبية، وحمل شعبه على الرضا بخيوط المغزل الهندي، وهجر الإنتاج الرائع لمصانع إنجلترا ونسيجها الرقيق الجيد- كان ذلك (الصيام) بداية التحرر ونهاية الاستعمار، ولذلك يقول الشاعر العربي رشيد سليم الخوري:

لَقد صامَ هِنْدِيٌّ فَجَوَّعَ دَوْلَةً         فهَلْ ضارَ عِلْجاً صَوْمُ مِلْيون مُسْلِمِ

إنني ألفت أنظار قومي إلى أننا أمام جهاد شاق المراحل، ثقيل التكاليف، وأنَّ النجاح فيه يتطلب من الآن نظرة عابسة، ورفضًا لصنوف المباهج!!

ترى هل أستطيع أن أقترح إلغاء أفراح الأعياد؟ والاكتفاء بشعائرها الدينية الرصينة وحسب؟

إنَّ ولع العرب الشديد باللهو واللعب منتهٍ بهم بتة إلى التلاشي، ودلالته واضحة على موت القلوب وقبول الدنايا، وعشق الدنيا وكراهية الموت..

إنَّ عبادة الحياة، وتكريس القوة والوقت لها وحدها، علة قديمة بين الناس، وهي العلة التي أرخصت القيم الرفيعة، وألهبت الغرائز الوضيعة، وصرفت القصد عن الله، وعلَّقت الهمة بالحاضر القريب، ونسيت ما عداه!!

في المجتمعات التي فتكت بها هذه العلة يقول جلَّ شأنه: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان: 27] ويقول: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا  ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النجم: 29، 30].

ومظاهر هذه العلة معروفة في انتهاب اللذات من غير شبع، والبحث عنها دون اكتراث بحل أو حرمة، واعتبار الوجود الأرضي هو الإطار الأوحد للحس والإدراك.

فإن فات فليس عنه عوض، وإن أقبل فيجب التفاني فيه، وارتشافه حتى الثمالة! إنَّه لا شيء بعده يرتقب!!

وأحسب أنَّه في هؤلاء يقول جلَّ شأنه وهو يذيقهم عذابه: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ  ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِين} [غافر: 75، 76].

والمدنية الحديثة قد ضاعفت لأبنائها الفرص لعبادة الحياة والعبِّ منها دون ارتواء، وذلك أنَّ الشهوة تُغري بالشهوة كما أشرنا آنفًا، والرغبات الإنسانية قد يضرُّ بها القرب، ولا يزيدها الظفر إلا اشتعالًا ...

والأديان في أوربا وأمريكا عجزت عجزًا تامًّا عن علاج هذا السعار لقصورها الذاتي أولًا، ولاشتغالها مع ذلك بمحاربة الإسلام بدل أن تتعاون معه على فعل شيء ما يحفظ على الإنسانية مستقبلها المتداعي.. والغريب أن المسلمين نافسوا غيرهم في التهاوى على هذه المتع، والتشبع منها جهد المستطاع.

قد تقول: وما الغرابة في ذلك؟ أليسوا بشرًا كالبشر؟

وأجيب: إنني لا أنكر على المسلمين – خاصة – أن يشاركوا الأوروبيين والأمريكيين في ألوان المتاع التي اخترعوها.

إنني قد أفهم أن يعود رواد الفضاء من رحلة مضنية ليلتمسوا بعض النزه البريئة أو المريبة في ليل أو نهار.

أما الذين يتسكعون بين دورهم وأجران القمح والأرز، أو الذين يتركون خيامهم على مدى سهم في مراعيهم الساذجة، أو الذين يركبون سيارتهم ليجلسوا في الدواوين محسودين لا مجهودين .. أو .. أو فما لهؤلاء والبحث عن اللذات المخترعة في الشرق أو الغرب؟

إنَّ بعض الناس يذهب إلى العواصم العالمية المرموقة، ثم يعود ليتحدث عن لياليها الصاخبة!! فهلا تحدث عن أيامها الجادة، وعن العرق المتصبب من أجساد الكادحين للصغار والكبار على سواء؟؟

إنَّ المهندس هناك قد يغبر وجهه وملبسة كله طوال النهار، ثم ينطلق بعد ذلك ليستجم وفق ما يفهم ويعتاد.

ويوجد عندنا من يقلده في الانطلاق الأخير، ولا يتأسى به قيد أنملة في الكفاح الذي سبقه!!

أيُّ بلاء أصاب العرب والمسلمين حتى عموا عما يجب أن يرى، وحملقوا عيونهم فيما يجب أن تغضَّ عنه، وتسترخي بإزائه؟

إنهم لو فقهوا سرَّ الصيام وسرَّ الحياة العفيفة المبنية عليه لكان لهم موقف آخر..

بل لو أنهم أدركوا ما كانوا عليه، وما صاروا إليه، وما تبيته القوى المتربصة بهم، لكان لهم قبل الصيام صيام، وقبل القيام سهر يطير معه المنام!!

من سنين طوال ورمضان يستقبله العرب والمسلمون بطريقة رتيبة: روايات أقلُّها جاد وأكثرها هازل، تعرضها الإذاعات المسموعة والمرئية. أغانٍ بعضها ديني، والآخر لا دين له تشنِّف الآذان. فكاهات تخلق الأجواء الضاحكة وتسلي الجماهير التائهة. مواعظ تقليدية ممجوجة يفرُّ أغلب الناس من سماعها، أو كتابات إسلامية في موضوعات مختارة عن عمد لتخدير الفكر، وتفتير الهمم.

صور جميلة أو دميمة للمساجد والآثار الإسلامية.. أحفال باهتة جرى رسمها وإخراجها بحيث تنعدم فيها الروح ويضعف التأثير.

إنَّ أعداء الإسلام لا يطلبون من أمَّة الإسلام أن تفعل بنفسها أكثر من ذلك.

لما مات أبو امرئ القيس الخليع الضليل، قال هذا الشاعر يصف ما سيفعل:

اليوم خمر وغدًا أمر!

لقد جعل لسكره حدًّا ينتهي عنده، إنه اليوم وحسب.

وما امرؤ القيس وهو يجاهد لاستعادة مجده، ويقول لصاحبه يسليه عن هموم الكفاح ومشقات الضرب في الأرض:

فقلتُ لَهُ لا تبكِ عينُكَ إنَّما ... نُحاول مُلكاً أو نموتُ فنُعذرا !!

 لكن جمهرة كبيرة من شباب العرب لا يزالون يقولون: اليوم خمر وغدًا خمر.. فمتى الصحو؟

ألا يستحق المسجد الأقصى وقفة تدبر واستعبار، يتلاوم فيها المفرطون ثم يغضبون لله غضبة تمحو العار، وتدرك الثأر؟!