في عام 1934م تقدم عبد الرحمن البنا بنص مسرحية "جميل بثينة" لوزارة المعارف التي تحمست بدورها للنص، وأقرت مبلغًا لإخراجه مسرحيًّا، وتعد هذه المسرحية أولى التجارب لمسرح الإخوان، وشارك فيها كلٌّ من: عزيزة أمير، وفتوح نشاطي، وعباس فارس، وجورج أبيض، وعدد من نجوم هذا الزمن الذين أصبحوا فيما بعد نجوم الفن المصري ومن رواده.

بعد هذه التجربة بدأ المؤلف إلى السعي نحو تأسيس فرقةٍ خاصة للإخوان المسلمين، وبدأت الفرقة بدايةً شاقة، وبذل أفرادها جهدًا كبيرًا، يقول عنه عبد الرحمن البنا رحمه الله: "لقد رحلنا بفريقنا عدة رحلات في عواصم الجمهورية، وكنا أحيانًا نبيت بالمساجد" ثم تطورت الفرقة، وعُرضت مسرحياتُها التي بلغت ثماني مسرحيات على أكبر المسارح المصرية كـ"دار الأوبرا" ومسرح "الأزبكية"، ونقلتها الإذاعة على الهواء مباشرةً، بعد ذلك جاءت أحداث عام 1954م، وتمَّ إقصاء الإخوان عن الحياة السياسية والثقافية والفنية، ولم يسمح لهم بممارسة أي نشاط بشكل رسمي، وبالتالي تمَّ حرمانهم من إمكانيات الدولة، فضعف دورهم وتحجَّم وإن لم يمت تمامًا؛ حيث كانت هناك العديد من التجارب الفنية لشباب الإخوان على امتداد هذه المرحلة، أنصعها عودة مسرح الإخوان في التسعينيات من خلال عدد من المسرحيات قدَّمها شباب الإخوان على مسرح نقابة المهندسين.

والمسرحية التي بين أيدينا "غزوة بدر" هي إحدى المسرحيات التي مثلتها فرقة من جماعة الإخوان المسلمين على مسرح حديقة الأزبكية يوم 19 رمضان سنة 1365هـ الموافق 16 أغسطس سنة 1946م.

وقد دأب الإخوان المسلمون في هذه الفترة على إخراج فنون وآداب تذكِّر الأمة بماضيها، وتشدها إليه، وترغبها فيه ليأخذ أبناؤها العبرة والعظة من دروس التاريخ؛ فقدَّمت الفرقة نفسها مسرحية صلاح الدين الأيوبي على المسرح نفسه عام 1948م، لتذكر المسلمين بخطر العدوان الصهيوني على المقدَّسات الإسلامية في فلسطين، وتدعوهم للتصدي للاجتياح الصليبي الصهيوني المشترك.

وتتناول مسرحية "غزوة بدر" أول الملاحم الإسلامية الخالدة التي تلتقي فيها العصبة المؤمنة بفلول المشركين، وتبدأ بالتفاف وجوه الشرك حول الكعبة، وهم يدعون هُبل بهذا النشيد:

هبل العظيم الشان يا مبدع الأكوان

بارك تجارتنا  واحفظ أبا سفيان

عُزَّى تقوينا  واللات تحمينا

ندعو فتعطينا  ..............

وهنا يظهر الشيطان فيكمل الشطرة الأخرى قائلاً:

أبوهما الشيطان..

منذ اللحظة الأولى في المسرحية نجد الشيطان حاضرًا يلتف حول جماعة الشرك، وينفث فيهم نار الكفر والتصدي للدين الجديد، فهو يسيطر على مشاعرهم، ويثير غضبهم ومكابرتهم، فينقادون إليه في يسر وسهولة!.

ويظهر الشيطان مرةً أخرى في صورة سراقة بن مالك، مغبر الجبين أجش الصوت، جاحظ العينين، وعندما يسأله أبو جهل: ما بال هيئته على هذه الحال؟ فيقول له: اهتمامًا بكم وبموقفكم، إنكم بجمعكم هذا ستقضون على دعوة محمَّد، وتفلون حده، وتفرقون جنده، وتمزقون وحدته، وما زال الشيطان بهم يزكي في قلوبهم نار الكفر والجحود، حتى وأد في نفوسهم التردد والتلجلج، لولا رؤيا عاتكة:

أصوات: اسمعوا رؤيا عاتكة.

أبو جهل: ماذا رأت عاتكة يا أبا الفضل؟

العباس: رأت أن راكبًا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته، ألا انفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث، فاجتمع الناس إليه حتى دخل المسجد، فانتصب قائمًا على ظهر الكعبة، وهو يصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها، فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت، فما بقي بيت من بيوت مكة إلا دخلتها منها فلقة.

ثمَّ يتقدَّم الشيطان الذي يختتم الفصل الأول مهرولاً ومجددًا العزم على الإثم، والجموع من خلفه تهلل وتتوعد محمَّدًا وجيشه بالويل والثبور!.

في الفصل الثاني يعسكر جيش المشركين بالعدوة القصوى خلف "العقنقل"، وهي كثبان من الرمل، اجتمعت قريش خلفها واختارتها موقعًا لها، وفي ذروة استعدادهم للقتال يأتيهم رسول من أبي سفيان يخبرهم بأنَّ تجارتهم نجت ولا حاجة لهم في قتال القوم، وعليهم أن يعودوا ويحفظوا دماءهم وأموالهم، لكن غطرسة أبي جهل وكبره، يمنعانه من الانصياع لما أمر به أبو سفيان قائلاً للرسول: ارجع أنت فوالله لا نرجع حتى نرد بدرًا، فنقيم عليه ثلاثًا، ننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا بعدها أبدًا.

يوافق أمية بن خلف أبا جهل في رأيه، ويصرّ على منازلة محمَّد وأصحابه، لكن فريقًا آخر بقيادة الأخنس بن شريق يرى غير ذلك.

الأخنس: يا بني زهرة (يتجمَّع حوله نفر).

أصوات: لبيك يا ابن شريق.

الأخنس: لا أرى ما يرى أبو الحكم.. إنَّكم قد خرجتم لتمنعوا صاحبكم مخرمة بن نوفل، وقد نجا بتجارته مع أبي سفيان، وإنَّما نفرتم لتمنعوه وماله، فارجعوا فإنه لا حاجة لكم أن تخرجوا في غير منفعة.. دعوا ما يقول هذا (يقصد أبا جهل).

أصوات: لا تسمعوا مشورة أبي الحكم.

أصوات: لا نخالف رأي أبي سفيان (يرجعون).

الأخنس: يا أبا الحكم.

أبو جهل: ماذا تريد يا ابن شريق، بعد أن فرَّقت الكلمة، ورجعت بقومك؟

الأخنس: أترى محمَّدًا يكذب.. اصدقني.. ليس بيني وبينك أحد.

أبو جهل: ما كذب محمَّد قط.. كنَّا نسميه الأمين، ولكن إذا كان في بني عبد المطلب السقاية والرفادة والمشورة، ثمَّ تكون فيهم النبوة، فأي شيء يكون لنا، ونحن معهم كفرسي رهان؟

الأخنس: قاتلوا محمدًا أنتم، لا حاجة لنا بقتال محمَّد (يمضي).

وبعد انفراط عقد جيش الشرك وتخلي بعضه عن بعض، تسمع أصواتًا مدوية في الأفق، تهلل وتكبر، في إيقاع هادئ مطمئن واثق من نصر الله.

أصوات من بعيد: الله أكبر الله أكبر الله أكبر.. لا إله إلا الله.. الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.. الله أكبر كبيرًا.. والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.. لا إله إلا الله وحده.. صدق وعده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده.

بعد هذا التكبير والتهليل البهي، يرتعد السائب بن يزيد ويهتزّ لواء قريش في يده.

السائب: ما للواء يهتز بيميني، ولهذا التكبير ترتج له أعصابي، ما هذه النغمة المتسقة التي ترتفع بها حناجر أصحاب محمَّد، فتصل إلى الآذان ساحرة كحديثه، آسرة كطلعته، مشرقة كمحياه؟! أتكون رؤياهم صادقة؟! أيقتل محمد صناديد قريش، ويقرن بالحبال فريقًا؟!

(ينادي) يا قوم.. أسمعتم ما يقول جهيم بن الصلت؟

أصوات: ما يقول جهيم؟

أصوات أخرى: لعلها رؤيا أيضًا.

أبو جهل: تقدَّم يا جهيم.. قصّ علينا ما تقول.

جهيم: رأيت فيما يرى النائم- وإنِّي لبين النائم واليقظان- إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف ومعه بعير له، ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بين ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، ثم رأيته ضرب في لبة بعيره، ثم أرسله في العسكر، فما بقي من خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه.

عتبة: خسئت يا جهيم وضلّ وجهك.

أمية: نعيت إلينا أنفسنا.

أبو جهل: لا تصدقوه، إلا أن يكون نبيًّا آخر من بني عبد المطلب.

جهيم: إنما أذكر ما رأيت.

أبو جهل: ستعلم غدًا من المقتول إن نحن التقينا.

ويلاحظ هنا أنَّ المؤلف ركَّز على الجانب النفسي عند المشركين وهزيمتهم المعنوية أمام أنفسهم، فها هم يرتجفون من رؤيا عاتكة في الفصل الأول، ثم يرتاعون من رؤيا جهيم في الفصل الثاني، أمَّا الفئة المؤمنة فبرغم عدم ظهورها على المسرح، إلا أنَّ أصواتهم المطمئنة بذكر الله الواثقة من نصره، الرابضة بين الكثبان، وتصدر كلمات غريبة، ينتظمها لحن متناسق، كل هذا أرعب معسكر المشركين، وهذه أولى لحظات التأزم واحتدام العقدة، فالمشركون يخرجون من خوف إلى خوف، ومن هلع إلى هلع أعظم منه، وفي هذا الخضم من مشاعر الضعف والتوتر، يظهر الشيطان من جديد محرِّضًا ومحذرًا من مغبة الفشل أمام هذه الحفنة من العبيد!.

الشيطان: سأمضي أمام اللواء، لن يغلبكم اليوم أحد، لكم العزى ولا عزى لهم.

يتشجع المشركون فيهرولون خلف إمامهم- الشيطان- لكن السماء ترعد وتبرق، فتراع أنفسهم وتجفّ حلوقهم، وتتحطَّم أعصابهم، ويستبدَّ بهم الفزع، لا سيما عندما يعود إليه الحيسمان (أحد رجال الاستطلاع) خائفًا منهوب اللبّ والإرادة.

أمية: (للحسيمان): ماذا أصابك؟

الحسيمان: أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا على جبل مشرف بنا على بدر، ننظر على من تكون الدائرة، وإذا سحابة من السماء قد أظلَّتنا فنظرنا، فإذا هي حمحمة الخيل، وسمعت قائلاً يقول: أقدم حيزوم.

أمية: وماذا كان من أمركما.

الحسيمان: أما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات، وأما أنا فأخذت أعدو مجنونًا أو كالمجنون، لا أحس نفسي، ولا أملك أعصابي.

النضر بن الحرث: إنما هو سحر محمد للعيون، كما سحر الأسماع بأساطير الأولين.

الحسيمان: لقد رأيت ذلك رأي العين، إنَّ السماء تمدُّ محمدًا بالجنود، وها هي ذي ترسل رعدًا وبرقًا ومطرًا، وأصوات أصحاب محمَّد تنطلق بالتكبير والتهليل، فتردد صداها الجبال والوديان، وتهتزُّ لها الأفئدة والقلوب، وقد جعلوا شعارهم: أحد أحد.

يتقدم الجميع وينظرون من مكان مشرف على بدر، فيرون الأسود المخزومي الذي عاهدهم قبل قليل ليشربن من حوض بدر أو ليهدمنه أو ليموتن دونه، يرونه وقد وقع على ظهره ورجله تشخب دماً، ينهض ويحاول الحبو تجاه الحوض.

أبو جهل: يا للهول.. لقد أصابته ضربة قاتلة.. لقد سقط في الحوض.

(يسمع شعار المسلمين ونداؤهم: أحد أحد.. فيتقدمهم الشيطان فارًّا من الموقعة).

الشيطان: الهرب الهرب.. النجاة النجاة.

أبو جهل: ما لك جبنت يا سراقة، وقد زعمت أنك جار لنا.

الشيطان: إني بريء منكم.. إني أرى ما لا ترون.. إنَّ أصحاب محمَّد لا يبرز لهم فارس إلا قتلوه، لقد قتلوا عتبة وذبحوا شيبة، وأجهزوا على الوليد.

من الحوار السابق يتضح لنا مدى براعة المؤلف في تصوير المعركة والرماح تتطاير، ورجل الأسود تشخب دمًا، ثمَّ يحاول بلوغ البئر، كل ذلك وتركيزنا منصرف إلى الصورة أكثر من انصرافه إلى الحوار، كما كان في عدم ظهور المسلمين على المسرح من العوامل التي تركت مساحة أوسع للخيال ليسبح مع المعركة كيفما شاء، ودون سقف يحده.

وينتهي الفصل الثاني بتشرذم صفوف الشرك وتقهقرها، وقتل صناديدها، ويختم الفصل بنشيُّد المسلمين الذي يتلاشى قليلاً قليلاً.. الله أكبر الله أكبر الله أكبر.. لا إله إلا الله.. الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

ويلاحظ في الأذكار- التي جعلها المؤلف شعارًا للمسلمين يرددونها في طمأنينة تخلع قلوب المشركين- أنها من الأذكار المتأخرة التي لم ترد في غزوة بدر.

أما قول الشيطان: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون، فهي نفس المعاني الواردة في قوله تعالى في الآية الكريمة رقم 48 من سورة الأنفال: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48))(الأنفال).

وبهذه الآية التي نزلت في غزوة بدر أراد المؤلف ربط الحديث بالقديم، وهي رسالة يمررها بنعومة للقراء والمشاهدين، ليعقلوا الأحداث، ويدركوا أنَّها ليست للاستئناس والتسلية فقط، إنَّما هي للتدبر والتعايش معها، وإسقاطها على الواقع الذي وإن تغيَّرت صور المواجهة فيه، إلا أنَّ جوهر المعركة واحد، وصلبها لم يتغيَّر.

في الفصل الثالث نرى جماعة من قريش يلتقون في صحن الكعبة، يتعجبون مما لحق بأهلهم في بدر، وكيف استطاع محمَّد وأصحابه الإيقاع بهم وقتل صناديدهم، وأسر الكثير منهم وقرنهم في الحبال!.

أبو لهب: يا أبا سفيان، هلمّ إليّ فعندك لعمري الخبر، اصدقني يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟

أبو سفيان: والله يا أبا لهب، ما هو إلا لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا ويأسروننا كيف شاءوا.

أبو لهب: وهل شُلَّت أيديكم وقُطعت أسيافكم؟

أبو سفيان: وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالاً بيضًا على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما تبق شيئًا ولا يقوم لها شيء.

أبو رافع: (يصيح) أحد أحد، لقد أيَّد الله رسوله، تلك والله الملائكة.

أبو لهب: (يرفع يده ويلطمه على وجهه) اخسأ يا مسوَّد الجبين.

أبو رافع: لقد أشرق جبيني بالإيمان، إنما يخسأ المشركون.

أبو لهب: واللات لأضربن بك الأرض (يحمله فيضرب به الأرض ثم يبرك عليه).

الحسيمان: يا أبا لهب، خلّ سبيل أبي رافع.

أبو سفيان: دعه رعاية لحق مولاه العباس.

أبو لهب: (ينهض متثاقلاً صائحًا) آه.. ماذا دهاني؟

صفوان: ماذا أصابك؟

أبو لهب: كأن بظهري قرحة أحس لها ألمًا بالغًا (ينصرف ذليلاً يجرُّ ساقيه).

وهنا يتضح مدى الهزَّة النفسية العنيفة التي لحقت بالمشركين، وقلبت موازين حياتهم، فأبو لهب في حقيقة أمره لا يشكو قرحة في ظهره، إنما يشكو غياب الرفقة والصحبة والسند، فقد غاب عنه من كانوا يشدون ظهره ويحملونه على التباهي والتصايح مفاخرًا، أما الآن فهو وحيد في مقابلة مولى ضعيف لم يأبه به- وهو السيد- بل وتجرَّأ عليه وعلى كل أسياد قريش، وجهر بدين محمَّد في صحن الكعبة، إنها قاصمة الظهر الحقيقية.

يتوالى الحوار متدفقًا سلسًا إلى أن يقرَّ المشركون بأنفسهم أنَّ ما أصابهم لم يكن بغيًا من المسلمين، وإنما كان دفاعًا عن أنفسهم، فهم لا يهاجمون إلا من هاجمهم، فهذا أبو سفيان يقول:

إنَّ محمدًا قد عَدَونا عليه، واقتصَّ منا، ولا تزال الوشائج بيننا وبينه موصولة منذ بدر، فعندنا دوره ودور أصحابه، وعنده أسرانا وأبناؤنا.

الحسيمان: لقد كانت غزوة بدر بدءًا لتوازن الكفة، وترجيح العدالة، وإحقاق الحق.

أبو رافع: بل كانت العامل الأقوى في تحطيم الشرك وإذلال الكفر، وعزَّة الإسلام.

إنَّ أبرز ما يلقانا في هذه المسرحية هو تركيز مؤلفها على التشكيلات النفسية والمعنوية لكلا الفريقين، فبالرغم من أننا لم نر من المؤمنين سوى أبا رافع مولى العباس رضي الله عنه، إلا أننا ندرك من عباراته القليلة في الحوار مدى تعبئته المعنوية، واستشعاره عزَّة المؤمن، وإن كان هو المولى الضعيف في مواجهة أحد وجهاء قريش "أبو لهب".

كما أنَّ تدرج المؤلف بالموقف النفسي للمشركين واستعدادهم للخيبة والهزيمة، منذ رؤيا عاتكة مرورًا برؤية جهيم وانتهاء بقاصمة الظهر التي أصابت أبا لهب عندما ضرب برافع الأرض وإحساسه بالمذلة والمهانة، كل هذه عوامل كانت تبعث على الفشل، وبثِّ مشاعر الفرقة والتمزق في نفوس الفئة المشركة.

لقد أبدع المؤلف في تصوير بثِّ هذه الروح في نفس المشركين دون ضجيج أو صخب، وما يزيد من قوة الوهن النفسي الذي أصاب المشركين: عدم ملاقاتهم للمؤمنين وجهًا لوجه، بل كانوا يسمعون أذكارهم المنغمة المطمئنة، فتزداد في قلوبهم الوحشة؛ لجهل ما تحمله هذه النفوس من يقين، وما تعنيه هذه الكلمات الجديدة.

كانت مسرحية "غزوة بدر" من التجارب المبكرة التي حققت الضوابط الفنية للعمل الإبداعي، وهي بذلك من النماذج المشجعة على السير في الطريق نفسه، فهي لم تقدِّم أي تنازل قيمي أو خلقي في سبيل تحقيق فائدة فنية، بل كانت غاية في التوازن غير المفتعل.