من تراث الشاعر الراحل د. جابر قميحة
شعر الاغتراب لون واضح القسمات في أدبنا العربي، مثل شعر الغزل، وشعر المديح، وشعر الفخر، وهو أصدق ألوان الشعر تعبيرًا عن لواعج النفس؛ بسبب الفراق والحنين إلى الأهل والأوطان، ومصدر كل أولئك كما يقول الجاحظ "توقد النار في الأكباد".
والإحساس بالغربة- كما يرى الدكتور ماهر حسن فهمي- يكاد ينحصر في الهارب، والأسير، والمهاجر، ومن شعر الاغتراب في الأدب العربي: روميات أبي فراس الحمداني (وهو أسير في سجون الروم)، وسرنديبيات البارودي، وأندلسيات شوقي (والأول كان منفيًّا إلى سرنديب، والثاني كان منفيًّا إلى الأندلس).
ويكثر شعر الغربة عند ابن زيدون والمتنبي في فترة السنوات الثماني التي ترك فيها سيف الدولة، وهناك من شعر الغربة ما هو أرقى وأسمى، وهو شعر "الغربة الروحية" التي يستشعرها الإنسان حتى وهو في وطنه وبين أهله، وغالبًا ما نجد هذا الشعور عند أصحاب المبادئ والمثاليات، الذين يرفضون كثيرًا من الأوضاع الاجتماعية والسياسية في أوطانهم، وقد أشار ابن الرومي إلى هذا اللون في قوله:
أعاذك أنْسُ المجد من كلِّ وحشةٍ فإنك في هذا الأنام غريبُ
وتشتد هموم الشاعر المغترب، وتتوقَّد شاعريته، ويتوهَّج وجدانه إذا ما حلَّ العيد وهو بعيد عن وطنه وأهله وأبنائه، وخصوصًا إذا كان اغترابه إجباريًا قسريًّا، لا يدَ له فيه.
ونقف في السطور التالية مع شاعرَين من شعراء "الاغتراب": أولهما أبو الطيب المتنبي (303- 354هـ)، والثاني: عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله، ابن حلب الشهباء، الذي وُلد سنة 1915م، وغادر دنيانا من عدة سنوات، ويُعدُّ إبداعه الشعري- الذي جاء في عشرات من الدواوين- من أعظم نماذج "الأدب الإسلامي" فكرًا، وتصويرًا، وتعبيرًا، ومن أشهر دواوينه "مع الله" و"ألوان طيف" و"نجاوى محمدية" و"فلب ورب"، وقد فارق الشاعر وطنه بعد أن سُجن واضطُّهِد، فانطلق سائحًا في الله، في بلاد المشرق والمغرب، وسلاحه المبدأ الصادق، والإيمان العميق، والكلمة الهادية.
ووقفتنا مع الشاعرَين محددة بشعر الغربة في "العيد"، وقد حلَّ بالشاعرين، وكل منهما "غريب" في غير وطنه.
وأشهر قصيدة في هذا الموضوع نظمها المتنبي سنة 350هـ وهو يهم بمغادرة مصر إلى غير رجعة قبل العيد بيوم واحد، وهي داليته المشهورة، والتي مطلعها:
عيدُ.. بأيةِ حال عدت يا عيد؟ بما مضى أم بأمر فيك تجديد؟!
أما الأحبة فالبيداء دونهمُ فليت دونك بيدًا دونها بيدُ
وانطلق المتنبي يعبر عن همومه، ويلعن سنِيَّه في مصر، ويهجو الشعب المصري الذي أكرم مثواه، ويهجو كافورًا الإخشيدي بأحطِّ ألوان السباب؛ فهو عبد، وهو كلب
جوعان يأكل من زادي ويمسكني لكي يقال عظيم القدر مقصودُ
مع أن المتنبي مدحه من قبل بمدائح رائعة، وصل بعضها إلى سيف الدولة، فقال: "كنت أتمنى أن يقول المتنبي فيَّ مثل ما قال في كافور"، وما نقم المتنبي من كافور- على كرمه معه- إلا أنه لم يحقق طمعه في أن يوليه "ولاية" يكون هو حاكمها، والمتصرف فيها.
وكذلك شعر الغربة عند الأميري رحمه الله؛ فهو يصدر من نفس تقية نقية، قلبه معلق بالله، مؤمن بأن الآخرة خيرٌ له من الأولى؛ ففي جدة في الثلاثين من رمضان 1409هـ (5/5/1989م) ينظم الأبيات الآتية:
ذهبتْ "راؤُه".. و"نونُ" ختامه فانبرى في الحديث عن أيامِهْ
قال: شهري مضى.. ويا فوز عبدٍ لم ينم عن صيامه وقيامهْ
هو قد برَّ نفسه فتصدَّى للتجلي، واشتد في إقدامِهْ
والرحيم الرحمن برَّ مُناه فتجلى له بفيض سلامِهْ
أنا حيٌّ في قلبه وستبقى ليلة القدر في سنا أحلامه
وهو لا يستشعر للعيد متعةً، ولا تأخذه به فرحة، ما دامت القدس في يد الأعداء الذين نهبوا الأرض وهتكوا الحرمات، وشرَّدوا الشعب الأصيل:
ما العيدُ والقدسُ في الأغلال رازحةٌ والمسلمات سبيَّات لفساقِ؟
وأستجير برب البيت في قلق على "المدينة" من فتكِ وإزهاقِ
وأرسل الدعوة الحرَّى على ثقة بالله في صبر فذِّ العزم عملاق
فالنصر في قدر الله الحكيم على وعدٍ مع الصبر في إيمان سبَّاق
ويضرب الشاعر في فجاج الأرض داعيًا إلى الله، والحق، والجهاد، ويهلّ العيد، ولا جديد إلا تفاقم البلاء، وتدفق الدماء، وتسلط "الكبار" بظلمهم على الشعوب، ويرى في العيد فرصةً لمحاسبة النفس، بعد أن فقد ما كان يبعثه في النفوس من فرح وسعادة:
يقولون لي: عيد سعيد، وإنه لَيوم حسابٍ لو نحسُّ ونشعر
أعيدٌ، وللبغي العدوُّ تفاقمٌ وأمرُ ولاة الأمرِ أنكى وأخطر؟!
إنهما مفهومان متناقضان للعيد عند الشاعرين: عيد المتنبي يعني تحقق ما يرضَى عنه من المطالب المادية والأطماع الدنيا، وعيد الأميري يتمثل في تحرير الوطن والأمة الإسلامية، وانتصار الحق، وإعلاء كلمة الله.