"..وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ "21" الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ "22" (سورة الحج).

إن وعد الله حق وصدق، وقد أكد تبارك وتعالى لينصرن الله من ينصره، وأشار إلى أن قوته وعزته كفيلة بهذا النصر، ثم بين كيف يكون نصر الناس له سبحانه وتعالى، فإن نصر الله لا يعطى مجانا، ولا يكتسب بهين من القول أو الفعل، بل إنه لا يتأتى إلا بقائمة طويلة من الأعمال. يبذل المرء فيها طاقته ويخلص فيها النيلة له تعالى. فمن أبطأ عليه نصر الله تعالى أو تخلف فلا يقولن: إن الله وعدني، بل يجب عليه أن يفتش في نفسه ليتبين ما إذا كان قد نصر الله حقا أم لم ينصره.

إن الله قد وضع شروطا لنصره وجعل أولها: إقامة الصلاة، وهي العبادة الروحية التي تصل المرء بربه وتقربه منه. أما الصلاة التي يؤديها الإنسان قائما قاعدا راكعا ساجدا دون أن ترقق قلبه، ويشعر فيها بأنه اقترب من الله تعالى، فهي صلاة آلية لا خير فيها، ولا تعد مما يتحقق به النصر.. وكأنني أشعر وأنا أكتب هذا الكلام أن القارئ سوف يحسب أن كاتبه قد بلغ الذروة من الحرص على الصلاة المقصودة فأقول له: إنني أحاول أن أفعل فأنجح في قليل من الأحيان، وأسأل الله المغفرة عن التقصير في كثير منها ولكن لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فعلينا أن نتجه إلى الله العلي الكبير، ونسأله التوفيق، وربما وصلنا يوما ما.

ثم إيتاء الزكاة: وإذا كانت الصلاة يعتريها ما يخرجها من أن تكون مؤثرة في النفس مقربة من الله، فإن الزكاة كذلك ثقيلة على الأنفس التي لم تأنس بالقرب منه تعالى، فلا يؤتيها كثير من الناس بل أكثر الناس، ومن يؤتها فإنه ربما لا يخلص النية في ذلك فلا تكون طيبة بها نفسه، أو يتيمم الخبيث من ماله ينفق منه.

ولا تحسبن الحكومات أنها بمنجاة من عقاب الله، ومن تفويت النصر الذي وعد به من ينصرونه إذا هي عطلت هذه الشريعة، وحرمت الفقراء من حقهم في أموال الأغنياء، وجعلت تعالج مشكلة الفقر بأساليب تستعيرها ممن فشا الفقر بين بعض طوائفهم، فلم يجدوا له علاجا على رغم الجهود التي يبذلونها، والله تعالى قد سن العلاج البسيط الشافي لهذه المشكلة، وحسبنا الله.

أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهما دعامتان لإصلاح الأفراد والمجتمع، وقد أقام الله بهما المدرسة الأزلية التي تعلم الناس الفضيلة وتجنبهم الرذيلة، تعلمهم البر والتقوى وتجنبهم الإثم والعدوان وقد مسخنا أمر الله وحللنا الحرام وحرمنا الحلال، فقد قال الله تعالى " واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " وقال: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون – الظالمون – لكافرون – " وقال: " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " وقال: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " فغيرنا وبدلنا وحكمنا بغير ما أنزل الله، وقبلنا فتنة الناس عن بعض ما أنزل الله، بل عنه كله.

فأصبح الربا حلالا يأكله الناس بنص القانون وهو حرام بنص الكتاب، وكذلك أصبح الميسر وشرب الخمر، ومنعنا الزكاة ولم يجبها ولي الأمر، وأبحنا زنا من لم تكن متزوجة، وعاقبنا على زنا المتزوجة بعقوبة تافهة، وقبلنا عليها من الأدلة ما لم يأذن به تعالى، وأسقطنا القصاص والدية ومنعنا عفو المجني عليه عن الجاني، ولم نأخذ أنفسنا بالأخلاق القرآنية الإلهية، وغير ذلك كثير.

إن من ينظر إلى "حقائق الأمور" يجد أن النصر الذي وعد الله به عباده ليس قريبا منا، ولا يتم لنا النصر إلا إذا تحقق لنا من الإيمان بالله والقرب منه وإتباع أوامره، واجتناب نواهيه ما يكون لنا شفيعا عنده إذ لا ينفع إلا الصدق والإخلاص.

حدثني بعضهم أن أخا في الله همّ بنسف ذخيرة للأعداء في معركة القتال، فذهب فوجد الأسلاك الشائكة كأنها سد منيع، ووجد الحراس متيقظين، وحاول أن يفعل فأطلقوا عليه النار وأنجاه الله من نيرانهم فعاد من حيث أتى، ورجع إلى نفسه، وقال: لا بد أن يكون الذي وقع لي إنما وقع بذنب أتيته وأعلمه، وفي اليوم التالي اغتسل وصلى وتاب إلى الله ودعاه، وذهب إلى حيث يعاود الكرّة، قال: فكأنما كنت كلما وضعت رجلي في الأسلاك الشائكة صادفت فجوة لم أكن أتوقعها ووجدت الحراس قياما ينظرون كأنما سكرت أبصارهم فلم يعودوا يبصرون، وكأنما مهدت إلى الأرض فلم أجد صعوبة في الوصول إلى الغاية التي قصدتها، فأديت الأمانة، ونسفت من الذخيرة ما عد خسارة فادحة للأعداء وأيقنت في نفسي أن التوبة إلى الله هي التي وطأت لي الأمر كله وإن أنكر الكافرون.

اللهم حقق لنا وسائل النصر ولك عاقبة الأمور...
-------
من تراث المستشار حسن الهضيبي