لم يمهل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد؛ السيسي وأنصاره 24 ساعة ليكملوا احتفالاتهم بتحقيق نصر دبلوماسي (وهمي)، تمثل في قبول إثيوبيا العودة للتفاوض تحت مظلة الاتحاد الأفريقي مع تعهدها بعدم ملء خزان سد النهضة بقرار أحادي قبل انتهاء المفاوضات، إذ سارع بنفي ما أعلنه النظامان المصري والسوداني حول هذا التعهد (الموهوم)، مؤكدا أن بلاده لم تلغ خططها لبدء ملء السد خلال أسبوعين.

وأكد بيان لرئاسة الحكومة الإثيوبية بشكل واضح، وفقا لما نقلته وكالات الأنباء، أن "من المقرر أن تبدأ إثيوبيا بملء السد في غضون الأسبوعين القادمين، وأثناء ذلك ستستمر أعمال البناء المتبقية".

وأكد نائب وزير الري الإثيوبي أن التوافق الأخير لم يتضمن أي إشارة إلى تأجيل تعبئة السد بعد مهلة الأسبوعين (المخصصتين للانتهاء من التفاوض الجديد برعاية أفريقية)، وهذا ما يدعو للتحقيق في صحة البيانات الصادرة عن الجانبين المصري والسوداني التي ربما عبرت عن أمنيات أو حتى أكاذيب لتضليل الشعب المصري.

وحتى قبل الإعلان الجديد من آبي أحمد يوم السبت، والذي أفرغ دلوا باردا على أنصار السيسي، لم يكن ذلك التهليل والتطبيل مبررا بأي وجه، فنقل الملف إلى الاتحاد الأفريقي هو طلب إثيوبي قديم كانت ترفضه مصر طيلة الفترة الماضية بسبب الدعم الأفريقي القوى لإثيوبيا، وبالتالي فإن إعادة المفاوضات تحت مظلة الاتحاد الأفريقي لا ينتظر منها تحقيق المطالب المصرية، بل ستمثل ضغطا إضافيا على النظام الحاكم الحالي، وستسعى لإرضائه ببعض الشكليات التي يقدمها للشعب المصري باعتبارها انتصارا كبيرا بينما هي "محض فقاقيع". كما أن هذه المفاوضات تحت المظلة الأفريقية ستمثل فرصة لمجلس الأمن للهرب من متابعة الأزمة؛ ارتكانا على الاتحاد الأفريقي.

الجولة الجديدة للتفاوض تمنح إثيوبيا أيضا مهلة لالتقاط الأنفاس والتخفف من ضغوط التدويل، حتى يحين الموعد الذي حددته لملء الخزان، وهو موعد يبدو مقدسا بالنسبة لآبي أحمد، حيث إن بلاده مقبلة على انتخابات من المفترض أن تجرى في نهاية أغسطس (ما لم يجد المجلس الفيدرالي حلا دستوريا لتأجيل الانتخابات بسبب جائحة كورونا). وتفرض قضية السد نفسها بقوة على أجواء الانتخابات، ولن يغامر آبي أحمد بتقديم تنازلات تتسبب في هزيمة حزبه (الازدهار) في هذه الانتخابات ومن ثم فقدان منصبه.

وقد يتحايل آبي أحمد لإطالة أمد المفاوضات الجديدة حتى يتمكن من تمرير الانتخابات أولا (خاصة إذا أجريت في نهاية أغسطس)، وبعد الانتخابات يعود منتصرا ليملي شروطه في ما يخص السد.

بكل تأكيد يتمنى كل المصريين على اختلاف مشاربهم السياسية الوصول إلى حل لهذه الأزمة؛ يحفظ حقوقهم التاريخية في مياه النيل، ويضمن عدم الإضرار بهم مستقبلا، ويتمنون أن يتمكن المفاوض المصري من تحقيق ذلك عبر التفاوض، لكن المؤكد أن الوضع السياسي الراهن في مصر هو نقطة ضعف كبرى يستثمرها الجانب الإثيوبي بذكاء.

فالسيسي الذي وصل إلى الحكم عبر انقلاب عسكري في الثالث من يوليو 2013 وجد نفسه محاصرا أفريقيا في البداية، حيث علق الاتحاد الأفريقي عضوية مصر بسبب الانقلاب، وحتى يستعيد السيسي مقعده في الاتحاد الأفريقي عقد مقايضة سياسية مع إثيوبيا؛ وافق بمقتضاها على بناء السد دون ضمانات للجانب المصري مقابل أن تستغل إثيوبيا نفوذها أفريقيا لإعادته إلى الاتحاد. ومن هنا كان توقيع اتفاق إعلان المبادئ في مارس 2015، والذي فتح باب التمويلات الدولية لإثيوبيا لبناء السد، حيث كانت المؤسسات المالية الدولية رافضة للتمويل بسبب التنازع على السد.

ولم يتضمن إعلان المبادئ أي ضمانات لحفظ حقوق مصر، وفي نفس الوقت تضمن نصا يمنع اللجوء لأي تحكيم دولي إلا بموافقة جميع الأطراف، وهو ما غل يد مصر من نقل المشكلة إلى محكمة العدل الدولية أو أي هيئة تحكيم دولية أخرى.

ولو كان النظام جادا في تقوية مركزه التفاوضي لسعى لبناء صف وطني حقيقي خلف هذه القضية، كما هو الوضع في إثيوبيا نفسها، لكنه حريص كل الحرص على الانفراد بإدارة هذا الملف؛ ربما حتى لا يطلع أحد على أسرار تنازلاته للجانب الإثيوبي، ويرفض إشراك أي قوى وطنية أو خبراء وطنيين مستقلين أو من المنتمين لقوى سياسية في أي مفاوضات أو نقاشات حول هذا الموضع، على عكس ما فعله نظام مبارك الذي استعان بشخصيات وطنية حزبية أو مستقلة في مفاوضات طابا، مثل الدكتور وحيد رأفت نائب رئيس حزب الوفد، ومثل الدكتور حامد سلطان، والراحل السفير إبراهيم يسري.. إلخ. وكان يمكن لنظام السيسي أن يفعل ذلك مع الأحزاب والقوى التي تعمل من داخل النظام حاليا، ويضفي بذلك مسحة شكلية، ولكنه يأبى أن يشاركه أحد، إذن فليتحمل وحده التبعات التي أوصل مصر إليها بتصرفاته.

لعلنا نتذكر الآن بكل التقدير موقف الرئيس الشهيد محمد مرسي الذي تعامل مع هذه القضية بروح وطنية حقيقية، واعتبرها قضية وطنية لا تنفرد بإدارتها مؤسسة الرئاسة، ولكنه دعا قادة القوى السياسية (مختلف الأطياف) إلى القصر الجمهوري في 3 حزيران/ يونيو 2013 (قبل شهر من الانقلاب) للتشاور في هذا الأمر، والبحث عن أفضل الخيارات للتعامل مع الأزمة، وهو الاجتماع الشهير الذي بثه التلفزيون الرسمي (بطريق الخطأ)، لكنه حمل رسائل قوية عن إصرار المصريين على حقوقهم المائية مهما كلفهم ذلك من أثمان، ولو كانت الحرب التي من أجلها وُجدت الجيوش. وقد سبق للرئيس مرسي أن قال قولته الشهيرة أيضا: "إذا نقصت قطرة من مياه النيل فدماؤنا هي البديل".

من المؤكد أن أزمة سد النهضة هي قضية وطنية عامة لا تخص النظام الحاكم، بل تؤثر على عموم المصريين بمختلف عقائدهم الدينية والسياسية والفكرية، وبمختلف أجيالهم الحالية والقادمة. ومن هنا وجب على الجميع تقديم الرأي والمشورة الصادقة بغض النظر عن قبول النظام لهذه النصائح، أو احتكاره لإدارة هذا الملف الحيوي، وهذا هو الاصطفاف خلف الوطن والشعب حتى يعبر هذه الأزمة، لكنه لا يعني على الإطلاق الاصطفاف بلا وعي خلف نظام فاشل أوردنا المهالك.