إن هزيمة يونيو 1967م لم تكن هزيمة للجيش المصري، ولا للشعب المصري، وإنما كانت هزيمةً لطرازٍ معين من الحُكم، ولونٍ معين من الرجال، ونوعٍ معين من الخطط. لقد كانت هزيمةً لعصابةٍ من الناس: وَقَعت أَزِمَّةُ الحُكمِ في أيديها فأهانت الناس، ونالت من كراماتهم، فتَرَكَتْ وراءها دماراً مادياً وأدبياً يندى له الجبين!
كانت هزيمةً لعصابةٍ من الناس تستمتع بقدر كبير من الغباء والجهالة وكبرياء الضلال، كانوا في وادٍ والشعب في وادٍ آخر، لأنَّ القانون سُجِن، ولأنَّ كلَّ إنسان كان مُرَوَّعاً ولم يكن هناك وجودٌ لقانونِ عقوباتٍ ولا لقانونِ أخلاق!

وأَحْسَنُ صناعةٍ أجادها النظامُ الحاكم: كانت صناعةَ الكذبِ، فانتشر الكذب! لقد كان لدينا أعظمُ جهازٍ للكذبِ في دنيا الناس، بجناحيه - وقتها -: الصحافة والإذاعة!

إن الذي حدث في 67 كان شيئاً لا بد منه، كان لا بد أن يفتضحَ الغرورُ، وأن ينكشفَ الجهلُ، وأن تتضحَ أمام أَنْفُسِ الناس الهالات التي زُوِّرَت، والقامات التي تَطَاوَلَت، وما يغيظني في الدنيا شيء كهذا اللون من الادعاء!
إن ناساً تريد أن تصف ما حدث في 67 فتقول: "نكسة"، وكلمة "نكسة" معناها أن رجلاً كان يَصعد فانزلق فسقط، فيقال: شيء باغَتَهُ عن طريقه فما تَمَّ له ما أراد، والحقيقة أن بلادنا كانت تنحدر، وأنَّ نظامها الحاكم كان بهذه الطريقة التي يعيش بها، يُرَشِّحُ الأمةَ لهزيمةٍ نكراء، ونحن لا نبكي على الماضي، فإن البكاء على الماضي شأن الانهزاميين، ولكني أقول: في المعركة القادمة – ولا بد من وقوع معارك، أَرَدْنَا أمْ لم نُرِدْ- يجب ألا تكون بين الشعب والحاكم فَجْوَة، فـ:
- الحاكم الأمين الصدوق النزيه هو الذي يعرف أنه خادم للأمة لا سيد لها.
- الحاكم الأمين الصدوق النزيه هو الذي يَرْعَى الدماء والأموال والأعراض ويقدسها، وليس ذئباً ينطلق في أحشائها كي يُشْبِعَ نُهْمَتَه، إنه يومئذ لن يكون حاكماً لها، إنما يكون عدواً لها، وخادماً -من حيث لا يدري- لأعدائها!
والله لو أن الصهاينة كانوا كلاباً أو ذئاباً لانتصروا على العرب، لأن العرب كانوا مَخْذُولِين بقادتهم، كانوا مهزومين بمَن يَحْكُمهم، ولو اصطدم هؤلاء العرب بجيشٍ مِن الكلاب لانهزموا، لأنه ما كانت لديهم لا قوةٌ ولا خطةٌ ولا تعاون ولا تراحم!

إن الصهاينة امتدوا في فراغٍ، ويوم ترجع هذه الأمة إلى رُشْدِها وإلى القليل مِن السلاح الذي بأيديها: فإن الصهاينة سوف تَسْوَدُّ وُجوهُهُم، وسوف يَضْحَكُ أهلُ الأرض مِن دعاواهم.
إنني أريد بهذا الكلام كله شيئاً واحداً: هو أنه لا يجوز أن تكون بين الدولة والأمة فَجْوة، لا يجوز أن يَشعر رجلُ الشارع بأن حاكماً ما: دَيَّانٌ له، مُسَيْطِرٌ عليه، ربٌّ له في الأرض!
إن الاستبداد الأعمى يحتاج في سِنَادِهِ إلى أشخاصٍ غيرِ طبيعيين: يتبادل معهم المنفعة، يسترون نقصه ويتجاوز عن قصورهم، ويتعاونون جميعاً على قيادة القافلة إلى الهاوية.

لقد غَالطتُّ نفسي يوماً -في حديثٍ بيني وبين نفسي- وقلتُ لها: صحيحٌ أن الحريات لا بد منها لضمان مصالحنا المادية والأدبية، ولكنْ أَمَا يمكن أنْ يكونَ تولي العسكر الحكمَ ضرورةً مقبولةً لمواجهة إسرائيل؟ سيَبْنُونَ جيشاً قوياً، ويُوَجِّهُون مواردنا كلها لكسب الحرب، وهذا ميدانهم الذي تخصصوا فيه!
وجاءت الأحداث تقول: إن الحُكم الفردي الجائرَ لا يكسب معركة أبداً! والغريب أنَّ أعظمَ هزائمه كانت في الميدان الذي تخصص فيه!
وقد خاض نظامُ جمالِ عبد الناصر معركة كبرى مُظَفَّرَة (!)، أدارها ضدَّ إخوانه وضدَّ كرامات الناس بما يشمل مختلف معارضيه السياسيين، إخواناً مسلمينَ كانوا أو يساريين أو غير ذلك، فضلاً عمَن عارضه من رفاقه أنفسهم، سواء من داخل تنظيم الضباط الأحرار عامةً أو من داخل ما يسمونه مجلس قيادة الثورة خاصةً!

وفي هذه المعركة الكبرى المُظَفَّرة (!): قدر على تخريب آلاف البيوت، وسَجْنِ الألوف من الأبرياء، واستطاع أن يدفنَ في أرض اليمن مائة ألف مصري، عدا الذين قُتِلوا سراً وعلناً في مصر! وهو الذي افتخر - في إحدى خُطَبِه العلنية- إنه "لَمّ/ جَمَع مِن بيوت مصر، في ليلة واحدة، 17 ألف نفس وضعها في المعتقلات والسجون"!

لقد قيل لنا بعد 67 مباشرةً: "أتظنون أننا انهزمنا؟ كلا، إن العدو لم يحقق هدفه! إنه كان يريد إسقاط جمال، فخاب سعيه"!
أرأيتَ صفاقة أوقح من ذلك؟!
وعَلِمْتُ بعدُ أنَّ هذا الإسفافَ منقولٌ عن "دعايات البعث العربي"، بعد الهزيمة التي مُنِيَ بها هو الآخَر!
وفي الأزهر والأوقاف أَخَذَتْ الدعايةُ تعمل تحت عنوان: "نكسة أُحُد"!
بالله، ما صلة هزيمة 67 بما أصاب المسلمين في أُحُد؟!
ما صلة الطغاة والسكارى والحشاشين بالصديقين والشهداء؟!
لقد مَرَّغُوا الدينَ في الوحل، ليَرْضَى الحُكام!
ومما زاد طينَ حُكامنا بِلَّةً: شيوخُ الأزهرِ الذين ازدلفوا عنده، طلابَ دنيا!

والحق يقال، إن سُوقَ الجهلِ قد نَفَقَتْ في هذه السنوات العِجَاف، فانهزمت الرجولةُ والخبرة والرشاد، وتقدم مُجِيدُو الانحناء والتزوير والاستغلال!
إن الأجيال التى تنشأ في ظل الاستبداد الأعمى: تَشِبُّ عديمةَ الكرامةِ، قليلةَ الغَنَاء، ضعيفةَ الأخذِ والرد، ومع اختفاء الإيمان المكين والخلق الوثيق والشرف الرفيع، ومع شيوع النفاق والتملق والدناءة، ومع هوان أصحاب الكفايات وتبجح الفارغين المتصدرين، مع هذا كله: لا تتكون جبهة صُلْبة، ولا صفوفٌ أبيّة باسلة!
وذلك أمل إسرائيل حين تقاتل العرب، لأنها ستمتد في فراغٍ وستشتبك مع قلوبٍ مَنْخُورَةٍ وأفئدةٍ هواء!

والواقع أن قيام إسرائيل ونماءها: لا يعود إلى بطولة مزعومة للصهاينة، قَدْرَ ما يعود إلى عَمَى بعض الحكام العرب، المَرْضَى بجنون السلطة وإهانة الشعوب!
ولو أنصف الصهاينة: لأقاموا لهؤلاء الحكام تماثيلَ تَرْمز إلى ما قدموا لإسرائيل مِن عونٍ ضخمٍ ونصرٍ رخيص!
إن جماهير العرب عطشى إلى الحرية والكرامة، ولقد بُذلت جهودٌ هائلة لمنعها من الحق والجد، وتعويدها "عبادةَ اللذةِ" إلى جانب "عبادة الفرد"!
ومن ثم، كان العبء على المصلحين ثقيلاً، ولكن ما بد منه لحماية حاضرنا ومستقبلنا.

لقد تتبعت الصراع بين "الحكام المستبدين" و"الرجال الأحرار"، منذ نصف قرن، ودَخلت في تلك المعمعة لأذوق بعض مُرِّها وضُرِّها، وكنت أرددُ بإعجابٍ صيحاتِ الرجال الكبار وهم يَهْدِمون "الوثنية السياسية" ويَلْطُمُون قادتها ولو كانوا في أعلى المواضع، ولا أزال أكرر ما ذكرتُ في بعض كتبي مِن أنَّ الحريات المقررة هى الجو الوحيد لميلاد الدين ونمائه وازدهاره، وإن أنبياء الله لم يُضَارُوا أو يُهَانُوا إلا في غيبة هذه الحريات، وإذا كان الكفر قديماً لم ينشأ ويستقر إلا في مِهادِ الذل والاستبداد، فهو إلى يوم الناس هذا لا يَبْقَى إلا حيث تموت الكلمة الحرة، وتُلطم الوجوه الشريفة، وتَتحكم عصاباتٌ من الأغبياء أو مِن أصحاب المآرب والأهواء، ولا يستقر إلحادٌ إلا حيث تتحول البلادُ إلى سجون كبيرة، والحُكامُ إلى سَجَّانِين دُهَاة!
مِن أجل ذلك: ما هَادَنَّا -ولن نُهَادِنَ إلى آخِر الدهر- أوضاعاً تَصْطَبِغُ بهذا العِوَجِ، ويِستشرى فيها ذلك الفساد...

إن البيئات التى تستمتع بمقادير كبيرة من الحرية: هي التى تَنْضُجُ فيه المَلَكات، وتنمو فيها المواهبُ العظيمة، وهي السِّنَادُ الإنساني الممتد لكل رسالة جليلة وحضارة نافعة، ذلك أنه يَصْعُبُ جداً أنْ يتكونَ في ظل الاستبداد: جيلٌ محترم، أو معدنٌ صُلب، أو خُلُقٌ مكافح.
إن مِن مَقَابِح الاستبداد: أسلوبه الشائن في إهانة الكفايات، وترجيح الصغار وتكبيرهم، وذلك تبعاً لمبدئه العتيد: "أهلُ الثقة أَوْلَى مِن أهل الكفاية".
ومَن هم أهل الثقة؟ إنهم أصحابُ القدرة على المَلَقِ والكذب، اللاهثون تحت أقدام السادة، تلبيةً لإشارةٍ أو التقاطاً لغنيمةٍ.
وهذا الصنف الخسيس من الناس هو الذى يُؤْثَرُ بالمناصب، ويَظْفَرُ بالترقيات، وتُضْفَى عليه النُّعُوتُ، ويُمَكَّنُ له في الأرض!
أما أهلُ الرأى والخبرة والعزم والشرف: فإن فضائلهم تُحْسَبُ عليهم لا لهم، وتُنْسَجُ لهم الأكفان بدل أن تُرْفَعَ لهم الرايات!
والويلُ لأمةٍ يقودها التافهون، ويَخْزَى فيها القادرون!
-----
من كتاب "قذائف الحق"