تحدث الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي يرحمه الله عن هذه الشعيرة العظيمة حديثا لا تكاد تجده على هذا النحو عند أحد من علمائنا رضي الله عنهم وقدم فيه أفكارا جديدة، وأشار إلى لفتات إيمانية وروحية، ووضع أيدينا على جوانب اجتماعية وسياسية لا يسعنا إلا أن نقف أمامها نأخذ الموعظة البليغة والعبرة النافعة من هذه النظرة الفريدة التي تمثلت فيما يلي:

الحج وفاء لنداء إبراهيم عليه السلام، وتلبية لأوامر الله تعالى، وتجرد وإخلاص لا شرك فيه، إنهم يجيئون ليترجموا عن وفائهم ويقينهم، ولتبقى دورات التاريخ متصلة المبنى والمعنى، لا يمر عام إلا أقبلت الوفود من كل فج كأنها الحمائم تنطلق من أوكارها، يحثها الشوق إلى مهاد التوحيد وحصنه: "ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ" (الحج: 32)

وليس للطائفين نجوى إلا مع الله وحده، شغلهم الشاغل ترديد الباقيات الصالحات، والتقدم بضعف العبيد إلى القوي الكبير أن يجيب سؤالهم ويحقق رجاءهم، ماذا يقولون؟ سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ثم يدعون: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (البقرة: 201).

إن الوفود القادمة من القارات الخمس على اختلاف لغاتها وألوانها وأحوالها يجمعها شعور واحد، وتنتظمها عاطفة دينية مشبوبة، وهي تترجم عن ذات نفسها بتلبية تهز الأودية! ويتحول ما أضمرته من إخلاص إلى هتاف بسم الله وحده، لا ذكر هنا إلا لله، ولا جؤار إلا باسمه! ولا تعظيم إلا له! ولا أمل إلا فيه! ولا تعويل إلا عليه.

الحج ثقة وتوكل على الله
إن التوكل شعور نفيس غريب، وهو أغلى من أن يخامر أي قلب، إنه ما يستطيعه إلا امرؤ وثيق العلاقة بالله، حساس بالاستناد إليه والاستمداد منه، وعندما ينقطع عون البشر، وتتلاشى الأسباب المرجوة، وتغزو الوحشة أقطار النفس، فهلا يردها إلا هذا الأمل الباقي في جنب الله، عندئذ ينهض التوكل يرد الوساوس وتسكين الهواجس.
وإن أبرز شيء في الحج نأخذ منه هذا الدرس هي قصة هاجر زوج إبراهيم وأم إسماعيل كما نقلنا عنها سابقا قولها لزوجها: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. فقالت: إذن لا يضيعنا.

يقول الشيخ معقبا على هذا القول: ماذا نفهم من هذا؟ نفهم من هذا أن الإنسان عندما يعتمد على ربه فإنه يعتمد على مصدر القوى ومنبع الخير وسائق الفضل، وأن الإنسان إذا صدق إيمانه ربا توكله، وازدادت بالله ثقته، وضعفت علاقاته بالماديات.

وليس معنى انقطاع الإنسان عن كل ما سوى الله أن يتواكل ويستكين، كلا. كلا، إن المرأة لما قالت: لا يضيعنا. ما استكانت ولا ركنت إلى غير الأخذ بالأسباب بل أخذت تهرول وتسعى حتى ساق الله لها الرزق، وأجرى لها الخير.
فتدخلت السماء وتفجرت زمزم وغنى الوادي بعد وحشة، وصار الرضيع المحرج أمة كبيرة العدد عظيمة الغناء، ومن نسله صاحب الرسالة العظمى، ومن شعائر الله هذا التحرك بين الصفا والمروة تقليدا لأم إسماعيل، وهي ترمق الغيب بأمل لا يغيب. فما أحوج أصحاب المثل إلى عاطفة التوكل، إنها وحدها تكثرهم من قلة، وتعزهم من ذلة، وتجعل من تعلقهم بالله حقيقة محترمة.

وكذلك زوجها وهو رجل واحد توكل على الله فنصره وجعل قُوى الشر تتهاوى أمامه، وتتدحرج تحت أقدامه، فاستطاع أن يقيم دعوة التوحيد وينشر رسالته الكبرى.

يقول الشيخ في نظرة إلى حال العرب معقبا على هذا المشهد: التوكل على الله شيء خطير، ولو أن العرب أهل إيمان، ولو أنهم فعلا يئسوا من الخلق واعتمدوا على الخالق لنصرهم كما نصر نبيهم صلى الله عليه وسلم ولسقاهم كما سقى امرأة في صحراء لا تجد هي ولا رضيعها شيئا. إن التوكل على الله شيء خطير، وعندما تساق الأمة إلى مكان نبع الماء فيه من صحراء لا ماء فيها ولا زرع ولا ضرع يعرف الناس أن الانقطاع عن الله جريمة، وأن الانقطاع إليه هو الاتصال كله وهو الخير كله.

الحج عقل وعاطفة
وهذه ليس صفة خاصة بالحج فقط، إنما يستمدها الحج من المنهج الشامل للإسلام ذاته الذي يجمع بين الجسم والروح في نظام الإنسان، وبين السماء والأرض في نظام الكون، وبين الدنيا والآخرة في نظام الدين، ويسلك بها جميعا طريقا واحدا، ويصبغها صبغة واحدة: "صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً"(البقرة: 138) فكما أن الإسلام منهج عقلاني عاطفي، فهو نظام مثالي واقعي ونظري تطبيقي سواء بسواء.

يقول الشيخ في هذا المعنى عن الحج: المقصود من هذه الرحلة أمور عقلية وعاطفية معا، فإن الإنسان لا يعيش بالفكر النظري وحده، ولكن مشاعره وعواطفه شديدة السيطرة عليه، والإسلام يجتهد في تحويل الإيمان من صورة عقلية تسكن الرأس إلى معانٍ عاطفية تغمر القلب، وتتشبث بالفؤاد، وينفعل الإنسان بها، ويحيا طول عمره وَفقها....

والإسلام عندما شرع مناسك الحج أراد أن يحول فعلا الإيمان من معانٍ نظرية درست في الكتب، وتلقاها الناس حقائقَ مقررةً إلى معانٍ عاطفية تربط الإنسان بنشأة الإسلام ونشأة المكافحين من أجل ظهوره، وتجعل الإنسان يرتبط بالمواطن الأولى للوحي، وبسير الدعاة والرعاة الذين حملوا هذه الأمانات وعاشوا بها وعاشوا من أجلها، حتى قدموها للناس ناضجة مستوية...
والله عز وجل أراد أن يجعل المؤمنين على اختلاف الزمان والمكان يرتبطون بالدين الذي اعتنقوه، وهو دين التوحيد، ويريد أن يكلف القادرين منهم على أن يجيئوا للأماكن التي بدأت فيها معالم دينه تظهر كي يرتبطوا نفسيا بها.

وإذا كان القرآن قد بين العلة من فريضة الحج فقال: "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ" (الحج: 27) ،وقد جاءت كلمة "منافع" منكرة لتفيد العموم والشمول، سواء كانت منافع مادية أو معنوية فإن الجانب الروحي في الحج ظاهر كل الظهور في شعائر كثيرة من شعائره؛ ولهذا يقول الشيخ: إن إثراء الجانب الروحي هدف ظاهر من أعمال الحج وأقواله حتى تعود وفود الرحمن جياشة العواطف بحب الله وخشيته، متواصية على تنفيذ وصاياه وإعظام حقوقه.

الحج والسياسة
إذا كان ذكر الله تعالى مقصدا مؤكدا في كل مناسك الحج، والوحدة والقوة والتجرد والإخلاص من مقاصده الكبرى، فإن هناك غاية عظمى أيضا لا يجوز إغفالها خاصة في هذا العصر الذي يوجب على المسلمين السعي نحو القوة والتوحد، ألا وهو أنه يجب على المسلمين أن يستغلوا هذا المؤتمر العالمي غير المسبوق ولا الملحوق في معالجة ما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم.
إن الحج من الناحية الروحية إذكاء مشاعر، وتجديد عاطفة، ومن الناحية الاجتماعية فرصة ثمينة للتوجيهات الجامعة التي تكفل مصلحة المسلمين العليا.

ولكي ندرك ذلك ندرس كيف حج المسلمون في السنة التاسعة والسنة العاشرة للهجرة.

في السنة التاسعة رجع الحجاج وقد تلقوا تعليمات بقطع علاقاتهم مع العابثين بمعاهداتهم ومعاملتهم بالشدة بعدما فشل اللطف معهم.
وفي السنة العاشرة وضعت تقاليد إنسانية وآداب عامة تضمنتها الخطبة الجليلة التي ألقاها الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
واقتداء بما فعله الرسول وخلفاؤه لا يمكن إهمال الجانب السياسي من الحج أبدا؛ إذ ما يصنع الحجيج بعدما يعودون إلى بلاد اعتدى عليها المجرمون واستباحوا حرماتها؟ أو عندما يعودون إلى بلاد كثرت فيها الفتن وماج خلالها المستضعفون؟.

نعم، لا يجوز أن تترك هذه الحشود الهائلة يوم الحج الأكبر دون توجيه جامع تلقى به خصومها، صحيح أنهم في محاريب ذكر، وساحات تسبيح وتحميد، وأوقات تبتل إلى الله ونشدان لرضاه، لكن من قال: إن كسر العدو ليس عبادة؟ والسهر على هزيمتهم ليس تهجدا؟ إن صيحة الله أكبر تُفتتح بها الصلاة لينأى بها المؤمنون عن مشاغل الدنيا، ويفتتح بها الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، ولتجف دموع البائسين وآلام المستضعفين، ومن هنا نفهم قول الله سبحانه للمحتشدين في عرفات، ولمن وراءهم من جماهير المؤمنين في كل مكان: "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ . وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ" (التوبة: 1415). فالحج عبادة تقيمها قلوب ساجدة وأيدٍ مجاهدة.

ثم يهيب الشيخ بأمته قائلا: يا قومنا، إن الحج ليس لقاء أجساد، ولا شراء هدايا، ولا حمل ألقاب، اجعلوا الموسم الجامع فرصة إعداد، وموطن دراسة علية وعملية، ورسم خطة لإنقاذ أنفسكم من طوفان مقبل.

إن الحج ليس رحلة ميتة، إن ناسا يذهبون إلى الحج الآن ثم يعودون مكتفين بأن حملوا لقبا، هل درست قضاياهم؟ لا. هل عادوا من موسم الحج بتحالف على محاربة الفساد الداخلي والغزو الخارجي؟ لا. إن الحج ليس عبادة فردية، لا في ديننا ولا في تاريخنا. فيجب أن نعلم ديننا وكفانا جهلا حتى لا نستيقظ على الويل والثبور وعظائم الأمور.

وبهذا الفكر السامق والنظر العميق والتفكر الدقيق فهم شيخنا الغزالي يرحمه الله هذه الشعيرة الكبرى، التي جعلها الله تعالى حماية للإسلام أن يندرس، ووقاية للمسلمين أن ينتهوا ويتفتتوا، ومكانا يفيء إليه المسلمون، ويتلاقى فيه المؤمنون، ويعالج فيه المجاهدون مشكلات أمتهم، فيستهدون علاجها من كتاب الله وسنة رسوله.
-----
من تراث الشيخ محمد الغزالي