التفريق بين البديلات واجب، والتمييز بين الطيب والخبيث شيء حتمي حتى تستقيم الأمور، واستواء الصواب بالخطأ ضياع واحتقار للعقول.

واختلاط الحق بالباطل كارثة إنسانية مروعة، لا يرضاها الإنسان، ولا يقرها عقل ولا شرع، وقد حرص الإسلام على أن يلفت البشر إلى هذه الحقيقة، رغم أنها بديهية، وأن ينبه عليها رغم أنها لا تلتبس على الأفهام والعقول.

فقال تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)﴾ (فاطر)، وكان لا بد من أن تمتاز الأمور، وأن ينجلي الغبش وأن ينبه على ذلك، فقال تعالى: ﴿قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾ (المائدة: من الآية 100)، وإن لم يستطع الإنسان لغلبة شهواته وضلال طبيعته أن يُميِّز ذلك، فإن الله لا بد أن يميزه في شرائعه حتى يحيى مَن حيَّ عن بينةٍ ويهلك مَن هلك عن بينة.. ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (37)﴾ (الأنفال)، ويزيد الله ذلك وضوحًا فيحرمه في شرائعه، وعلى لسان رسله: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ﴾ (الأعراف: من الآية 157)، ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ﴾  (آل عمران: من الآية 179).

 ومعرفة هذا ووعيه تترتب عليه خطط إجرائية كما يقولون مؤداها أن يستفيد الإنسان من الطيبات والطيبين، ويأخذ عنهم، ويستعين بهم وينزلهم منازلهم، ويحارب بهم الفساد والمفسدين، ويجعلهم قدوةً وطليعةً للغُرِّ الميامين.

وفي تاريخنا العظيم وتراثنا السامق الكثير من المثل والعظماء الذين تفخر البشرية بهم وتحتفظ بسيرهم في تضاعيف ذاكرتها الواعية، رغم أنهم ليسوا من أصحاب الذكر اللامع والشهرة، من هؤلاء "عتبة بن غزوان بن جابر" الذي عذَّبته قريش، فصبر وهاجر إلى الحبشة، ثم عاد وهاجر إلى المدينة، وآخى الرسول- صلى الله عليه وسلم- بينه وبين أبي دجانة، وشهد بدرًا والمشاهد، وكان من الرماة العظام.

وبعد وفاة الرسول- صلى الله عليه وسلم- أرسله عمر بن الخطاب إلى الأبلة في بلاد فارس ليفتحها على رأس جيشٍ كبير، وبعد قتالٍ وجلاد، استسلمت المدينة، وجعل اسمها البصرة، وبنى بها مسجده، وأمَّره الخليفة عليها، وأمره بالبقاء هناك، ليعلم الناس ويفقههم، ثم سار بعد فتح البصرة إلى ميسان ومدن أخرى ففتحها، وشهد القادسية مع سعد بن أبي وقاص، حاول الكثيرون أن يحولوه وهو الوالي والبطل الفاتح عن زهده وتقشفه إلى الترف والسرف فأبى، وقال: "إني أعوذ بالله أن أكون في دنياكم عظيمًا وعند الله صغيرًا".

أصرَّ على تركِ الإمارة، ولكنَّ عمر بن الخطاب رفض، فدعا عتبة ألا يرده الله إلى البصرة ولا إلى الإمارة أبدًا، فاستجاب الله دعاءه، فمات قبل أن يصل إلى البصرة.

هذه نماذج من الرجال الكبار الذين لا يلتبسون بغيرهم من أصحاب المطامع والأهواء.. رجل والٍ ومحبوبٍ يطلب منه الاستمرار فيها بل يؤمر، فلا يرغب فيها ولكنه لا بد له من الطاعة لأميره، فيسأل الله سبحانه أن يُخلصه منها ولو بالموت! فأين هذا من هؤلاء الذين يستميتون في طلبها فإن ظفروا بها لا يريدون مفارقتها بل يقاتلون الشعوب عليها، ليورثوها لأبنائهم؟!

ولقد بحث العلماء عن خوف أصحاب الصلاح من الإمارة والولاية، فكان الإنسان المؤمن على خطرٍ عظيمٍ منها رغم ما فيها للعدول من بركةٍ ورفعة، فرأيتُ أن أعرض الأمرين حتى يستبين ذلك لنا ولكم:

الأمر الأول: ما فيها من خيرٍ لصاحبها والقائم بها بالحق والعدل:

1- محبة الله تعالى للعبد يوم القيامة، ففي الترمذي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسًا إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله يوم القيامة إمام جائر".

2- استحقاق التقدم على مَن يظلهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله: "سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل..." (الحديث).

3- استحقاق العلو على منابر من نورٍ على يمين الرحمن.

4- إجابة الدعاء: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل...".

5- ضمان الجنة، ففي الصحيحين "أهل الجنة ثلاثة: "ذو سلطان مقسط..." الحديث.

الأمر الثاني: ما فيها من خطرٍ عظيمٍ على الجائرين:
1- شدة العذاب عليه يوم القيامة، ففي رواية عن أبي سعيد الخدري: "أشد الناس عذابًا يوم القيامة مَن أشركه الله في ملكه فجار في حكمه".

2- رجفة الصراط بأصحابه.. قال صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالولاة يوم القيامة جائرهم وعادلهم، فيوقَفون على الصراط، فيوحي الله إلى الصراط، فيرجف بهم رجفة لا يبقى منهم جائر في حكمه، ولا مرتشٍ في قضائه".

3- مجيء مقترف الإثم به ويده مغلولة إلى عنقه، وفي الحديث: "ما من رجلٍ يلي أمر عشرة فما فوقهم، إلا أتى الله به يوم القيامة يده مغلولة إلى عنقه، فكه بره أو أوثقه إثمه".

4- الجائر ملعون، ففي الحديث: "الأئمة من قريش ما قاموا فيكم بثلاث: ما إن استُرحموا رحموا، وما إن حكموا عدلوا، وما إن قالوا أوفوا، ومَن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله وملائكته والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً".

5- حرمان شفاعة النبي- صلى الله عليه وسلم- بشؤمه، ففي الحديث:"رجلان من أمتي لا تنالهم شفاعتي: إمام ظلوم غشوم، وغال في الدين مارق منه".

والناظر إلى هذه الأحاديث الواردة في الجور، يجدها مرعبة، وهي التي يشفق منها الأخيار من عباد الله سبحانه ويخافون عذابه؛ لأنهم لا يأمنون على أنفسهم، فما بالنا بالظالمين وأصحاب الخطايا الذين يسعون إليها، ويحرصون عليها؟ هل يستوي هذا وذاك عند الناس وعند الله؟! لقد حرص الإسلام على بيان هذا وذاك، حتى يميز الخبيث من الطيب، ويعلم المسلمون، الصالح من الطالح، فيأمنوا على حاضرهم ومستقبلهم، وقد ورد أن البركةَ ترتفع بمجرد نية الظلم، فكيف بالفعل والإصرار عليه؟ نسأل الله السلامة، آمين.