يا مَن تبحثون عن منهج التغيير.. تأمَّلوا دروس الهجرة وخطتها!

تعوَّد المسلمون أن يحتفلوا بهجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأكل الحلوى وتذكير الناس بهذا التاريخ المجيد، وتمرُّ الذكرى وتنقضي الأيام، ولا شيء يحدث في النفوس والقلوب من أثرها، اللهم إلا عدد من المؤمنين- وقليل ما هم- أولئك الذين يستفيدون بهذه الدروس العظيمة والمواقف الجليلة، فتصحُّ تصوراتهم وتنضبط حركتهم.

ودروس الهجرة لا تُحصى معانيها ولا تُعد؛ ذلك لأنها من كلمات الله التي لا تنفد: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾ (الكهف: 109)، فالإعداد لها بشري، والأمر بها رباني، فإن أردت أن تتحدث عن هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا تدري أتكتب عن طاعة أمر الله التي لا تعرف إلا التسليم المطلق، ولو خالفت منطق العقول؛ لأنها أعجز من أن تدرك مراميها، أو تحيط بحكمتها وثمرتها؟ أم تكتب عن تضحيات رجالها التي يضرب بها المثل؟ أم تتأمل حب الصحابة لرسولهم- صلى الله عليه وسلم- الذي تجسد في تصرفات أبي بكر الصديق- رضى الله عنه وأرضاه- الذي فرح حين أخبره الرسول- صلى الله عليه وسلم- بمرافقته له في هجرته، فيقول بلهفة وسرور: الصحبة يا رسول الله، والسعادة تملأ قلبه لاختيار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- له في هذه المرحلة التي ترعاها عين الله، بالرغم من الأهوال والمصاعب التي تكتنفها إلى درجة التعرض للقتل؟ أم تشير إلى التخطيط الدقيق الذي قام به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليضع ما أمره الله به موضع التنفيذ أخذًا بالأسباب؛ ليعلم المسلمين بعده أنه لا ارتجال ولا تخبط ولا تواكل، بل أَخْذِ الحيطة والحذر، وإعمال العقل عبادة لله وقربى له؟ أم نذكر دور المرأة المسلمة ومشاركتها في الأمور الجسام وكتمانها لما ائتمنت عليه من أدق الأسرار، وقيامها بدورها خير قيام لنرد على الأفاكين والمغتربين الذين يفترون على الله الكذب وهم يعلمون؟

فما أكثر الدروس والعبر في هذا الحدث العظيم الذي كان الحد الفاصل بين الكفر والإيمان، وبين الخوف والأمان، وبين الضعف والقوة، وبين الأسرار والإعلان، وبين التفرق والتآلف، وبين البغضاء والحب، وبين الدعوة والدولة وإرساء أركانها وتوطيد دعوتها وتربية رجالها وانتشار فكرتها، وعزة أتباعها، وسيادة عقيدتها، وبداية شرائعها، وتحقيق انتصاراتها على أعدائها، فحق لعمر بن الخطاب- رضى الله عنه- أن يؤرخ للمسلمين بها.

لقد علمتنا الهجرة أن للتغير في الإسلام أهدافًا، وله مواصفات للرجال، وخصائص ووسائل وأدوات، وكلها لا تنبثق من العقول تفكيرًا فحسب، بل يسبق تفكير العقول عقيدة التوحيد التي هي: ﴿كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ (النور: 35)؛ ولذلك فإن التغيير عندنا رباني المصدر، يبدأ بتغيير الأشخاص قبل الأوضاع، والاعتقاد السليم قبل التدبير والتخطيط والتنفيذ.

ومن هنا فإنه يغاير، بل يتميز عن سائر المناهج الأخرى الأرضية والمادية، التي تهتم بالبطون والفروج قبل القيم والمبادئ والعقائد، وتهتم بالنظم والأوضاع قبل ترتيب العقول؛ كي تفكر في رسالتها في الوجود، قبل أن تفكر في الاتساع والانتشار واستعباد العباد.

إنه تغيير يركز على حياة الفرد ونقله من ميدان الضياع والخسران والهلاك، والتبعية والحيرة والضلال، وعالم الشهوات والشبهات ودنيا الهبوط، إلى عالم الروح والريحان، والسلام والإسلام، والنظر إلى الأفق الواسع السمح الكريم، الذي يحفظ على الإنسان خصائصه، ويسخر مواهبه؛ ليعمر كونه، ويزكي نفسه، ويطهر قلبه وجسده، ويرقق مشاعره، ويرقى بأحاسيسه ليكون رحمة للعالمين: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ (الشمس: 7- 10).

إن الذي يصدق هذا كله هو الواقع الذي حدى حين بدأ الصلاح في الاتباع في قلة، كالقمر يبدو صغيرًا في سمائه، بينما ينشر نوره ويبدد الظلام، فلما استقام الفرد استقامت الأسرة بعد ذلك وأفلحت، ورأينا النماذج الفذة من الرجال النساء والأطفال، وحين استقام الرجل والمرأة والأسرة استقام مجتمع المدينة، بل صلح المجتمع كله، وأصبحت المدينة الفاضلة التي كانت لا يسمع عنها الناس إلا في ثنايا الكتب التي تعرض النظريات المبنية على الأماني الكاذبة، فرأوها رأي العين واقعًا ملموسًا مشاهدًا، مطبقًا في سلوك الأفراد إيمانًا وحبًا وأخوة وتفانيًا، وفي الأسرة سكنًا ومودة ورحمة، وفي المجتمع ترابطًا وتعاونًا، ووحدة وقوة؛ حتى تحقق ما ذكره القرآن الكريم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: 110).

فلا صراع بين الطبقات، ولا صدام بالواقع الصحيح، ولا مصادرة للفطرة؛ لأنه الصراط المستقيم، والنور المبين، الذي أراده الله- سبحانه وتعالى- أن يكون رحمةً للعالمين، للبشر جميعًا؛ أبيضهم وأسودهم، عربيهم وعجمهم، غنيهم وفقيرهم، حاكمهم ومحكومهم، فليتدبر هذا المنهج أصحاب العولمة، والمنادون بالأمركة، والمؤمنون بمؤتمر بكين، والداعون إلى زواج المثلية؛ هؤلاء الذين يصدق فيهم قول الله عز وجل: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ (الزمر: 45).

يا ليت قومي يتدبرون دروس الهجرة، ويقفون أمام تعاليمها ومنهجها؛ ليعلموا أن مصدر ما تحقق وأصبح واقعًا يراه الناس جميعًا أمران: المسجد الذي يخرج الرجال: ﴿رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ﴾ (النور: 37).

أما الأمر الثاني فيتمثل في أخوة الإسلام، التي بها تُقام الأركان، وتُصان الشرائع، وتُحرس البيضة، وذلك أول ما فعله الرسول- صلى الله عليه وسلم- حين هاجر؛ بني المسجد، وآخى بين الصحابة- رضوان الله عليهم- فكان مجتمع التقوى وحسن الخلق وأخوة الإسلام.

فليسمع من أرادوا أن يفرغوا المساجد من رسالتها، وأن يجعلوها خواء، وبدل أن تكون منطلقًا للبناء الصحيح، أصبحت مستقرًا للجلوس، وأداء الصلوات في الأوقات، ثم سرعان ما تغلق في وجوه روادها، ويمنع زوارها، ولا تؤدي رسالتها، فحق للأمريكان أن يطالبوا بتغيير المناهج القرآنية، خاصة التي تفضح (بني إسرائيل)، وتكشف سوءتهم، وتكشف حيلهم ومخططاتهم، أقول: حُقَّ لهؤلاء وأولاء أن تثنوا عليهم! وهم من قال الله فيهم: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (البقرة: 114).

فيا من تحتفلون بهجرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- أعيدوا للمسجد رسالته كما فعل رسولنا الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- ليعود للأمة مكانتها.