يحدثنا الأستاذ "محمود عبد الحليم" عن الأستاذ "عبد القادر عودة" وصلته الوثيقة به، وقربه من الإمام الشهيد "حسن البنا" والإمام "حسن الهضيبي"، فيقول في كتابه القيم (الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ):
"في البداية كان الأستاذ "عودة" على رأس طائفة من (الإخوان) تُحْسِن الظنَّ في "جمال عبدالناصر" أول الأمر، وتحمل تصرفاته محملاً حسنًا باعتباره من ضباط (الإخوان المسلمين)، ويجب تأييده، ولا شك في أن الأستاذ "عبد القادر عودة" يحتل في قلوب الإخوان سويداءها، حبًّا واحترامًا وتقديرًا، ولعلي أكون أكثرهم حبًّا واحترامًا وتقديرًا؛ فقد كان لي الأخ الحبيب والصديق الصدوق، وهو أقرب الإخوان إلى قلبي، وأحظاهم بإعجابي وحبي، ولقد كان الأستاذ "عبد القادر" من أحب الإخوان إلى الأستاذ الإمام الشهيد "حسن البنا"؛

وكثيرًا ما كان يذكره لنا بالفخر والاعتزاز، وظل الأستاذ "عودة" يشغل منصبه في القضاء، فلما تولى الأستاذ "حسن الهضيبي" منصب المرشد العام للإخوان المسلمين، كان الأستاذ "عبد القادر عودة" أقرب الإخوان إلى قلبه، ولعله هو الذي أوحى إليه أن يترك منصبه في القضاء؛ ليكون بجانبه كوكيل للإخوان المسلمين".

أما الأستاذ "عمر التلمساني" المرشد الثالث لـ(جماعة الإخوان المسلمين) فيقول عن القاضي الشهيد "عبد القادر عودة": "إن عبد القادر عودة من الأعلام الذين لا تنطوي ذكراهم، ولا تخفى معالم حياتهم، ولا تدع للنسيان سبيلاً يزحف منه على جلائل أعمالهم، ومواقفهم من أجل الحق وفي سبيل الخير، رجال انفردوا بسجايا وخصال، عاشوا على مستوى المثل والقيم، وشقوا في الحياة طريقًا على مبادئ وأصول، لقوا الموت في سبيلها أو تحملوا صنوف العذاب من أجلها.

لقد وقف "عبد القادر عودة" على حبل المشنقة فازداد على الحق إصرارًا، ورأى الموت بعينيه فأسرع للقياه، ولم تكن جريمته إلا أنه قال كما قال من سبقوه على الطريق: "ربي الله"، ولم تكن فعلته إلا أنه أنكر على الظالم ظلمه للناس، وأبت عليه نفسه أن يسكت على صنوف الذل والهوان للأمة، فمضى شهيدًا، بعد أن سطَّر على صفحات التاريخ سطورًا لا تنمحي، وحفر في القلوب والأذهان ذكرى على مر الأيام تنمو وتزدهر.

ولـ"عبد القادرعودة" أعمال القضاء، فكان المنارة الزاهية بين القضاة؛ لأنه أبى إلا أن يطبق قانون السماء ما وجد إلى ذلك سبيلاً، ورفض أن يقيد بقوانين الأرض، التي عجزت أن توفر لبني البشر أمنًا يفتقدونه وهدوءًا يبحثون عنه، وحبًّا يتوقون إليه.

كان جريئًا في الحق ولو خالفته الدنيا بأسرها؛ لأنه كان يحرص على مرضاة ربه قبل أن يفكر في إرضاء الناس. وقف إلى جوار حركة 23 يوليو 1952م، ظنًّا منه أن "عبدالناصر" سيحقق الخير الذي أعلنه على الناس، وقد أغضب في ذلك الكثير من إخوانه ومحبيه، ولما تكشفت أمامه النيات، وبدأت تظهر الحقائق، سلك الطريق الذي ألزم به نفسه في حياته طريق الحق والصدق؛

قال له "عبدالناصر": "إنني سأقضي على كل من يعترض طريقي"، فأجابه الشهيد "عبد القادر عودة" في صراحة المؤمنين: "ولكن من يبقون منهم سيقضون بدورهم على الطغاة والظالمين"، وفي يوم 28 من فبراير 1954م خرجت جموع الأمة تطالب الحكام بالإقلاع عن الظلم وتنحية الظالمين، وزحفت الآلاف إلى ميدان عابدين تطالب الرئيس "محمد نجيب" بالإفراج عن المعتقلين، وتنحية الباطش، ومعاقبة الذين قتلوا المتظاهرين عند كوبري قصر النيل، وتطبيق شرع رب العالمين، وأدرك القائمون على الأمر يومئذ خطورة الموقف، وطلبوا من المتظاهرين الثائرين أن ينصرفوا، ولكن بلا مجيب، فاستعان "محمد نجيب" بالشهيد "عبدالقادر عودة" لتهدئة الموقف متعهدًا بإجابة الأمة إلى مطالبها.

ومن شرفة عابدين وقف الشهيد "عودة" يطلب من الجماهير الثائرة أن تنصرف في هدوء؛ لأن الرئيس "نجيب" وعد بإجابة مطالبها، فإذا بهذا الزاخر من البشر ينصرف في دقائق معدودة، وبمنطق الحكم الديكتاتوري الذي كان يهيمن على البلد حينذاك، كان لابد أن يصدر قرار في "عبد القادر عودة"؛ فإذا كان الشهيد قد استطاع أن يصرف الجموع الحاشدة التي جاءت محتجةً، تطالب بإطلاق الحريات وإفساح المجال للحياة الدستورية السلمية الأصيلة، والوفاء بالوعود وتأدية الأمانات، فهو يمثل خطورةً على هذا الحكم الذي كان مفهومه لدى الحاكم أن يضغط على الأجراس فيلبَّى نداؤه، وعلى الأزرار فتتحرك الأمة قيامًا وقعودًا.

ومن هنا كانت مظاهرة عابدين هي أول وأخطر حيثيات الحكم على الشهيد "عبد القادر عودة" بعد ذلك بالإعدام، ولذلك لم يكن غريبًا أن اعتقل هو والكثيرون من أصحابه في مساء اليوم نفسه، ووقفوا على أرجلهم في السجن الحربي من الرابعة فجرًا حتى السابعة صباحًا، ويضربهم ضباط السجن وعساكره في وحشية وقسوة.

وقُدِّم "عبد القادر عودة" في تهمة لا صلة له بها ولا علم، وحكموا على الشهيد بالإعدام، ظنًّا منهم أن قتل "عبد القادر عودة" سيمضي كحدث هين لا يهتم به أحد، ولكن حاكم ذلك العهد "عبدالناصر"، لما رفعت له التقارير من جواسيسه عن أثر ذلك الإعدام في نفوس الناس، قال في حديث نشرته الصحف في وقته: "عجبت لأمر هذا الشعب، لا يرضى بالجريمة، ولكن إذا عوقب المجرم ثار عطفه على المجرمين"، ولكن ثورة العواطف عند الشعب لم تكن من أجل المجرمين، فما كان في الموقف واحد منهم، ولكن الشعب ثار كراهيةً منه للظلم ووفاءً منه للأبرياء".

لقد وقف أستاذنا "عبد القادر عودة" أمام المحكمة الهزلية متحديًا وقال: أنا متهم بتهم لو صحت لكنت أنا الجاني وأنتم المجني عليكم، ولم أعرف حقًّا للمجني عليه في محاكمة الذي جنى عليه، إنني لا أجد في الدنيا قانونًا يبيح مثل هذه المحاكمة؛ فكيف يُعقل أن يكون القاضي هو الخصم وهو الحكم؟!