إن من رحمة الله بعباده أن منَّ عليهم بمحمد (رسول الله) صلى الله عليه وسلم، وجعل حياته نبراسًا لنا في كل حياتنا، ومن هذه الوقفات التربوية (رحلة الهجرة).

الهجرة رحلة نبينا رضي الإسلام لنا دينًا.. فسلام الله على طه والكون يردد أمينًا أمينًا
إن الهجرة تذكرنا بوقفات تأخذ بنا في عالم الواقع إلى مرحلة مر بها الرسول الكريم وصحبه الأطهار رضوان الله عليهم أجمعين ومن هذه الوقفات..

الصراع بين الحق والباطل
إنه لصراع قديم، قدم خلق البشرية إلى قيام الساعة، صراع ممتد وهو سنة إلهية نافذة قال عز وجل ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)﴾ (الحج).

ولذلك نرى أن الجريمة الكبرى هي دعوتهم بأن إله الكون واحد ومن قبل قال مؤمن آل فرعون: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ﴾ (غافر: من الآية 28)، ولكن من سنة الله في هذا الصراع أن النصر للمتقين مهما انتفش أهل الباطل ونظروا إلى أهل الحق نظرة استعلاء ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)﴾ (القمر).

ونتيجة هذا الصراع معلومة النهاية ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)﴾ (المجادلة).

الإسلام أولاً
نرى في الهجرة المباركة هذا المعنى واضحًا في جمع عظيم من المسلمين في القديم والحديث.

ا- صهيب الرومي الرجل البطل الذي ولد في أحضان النعيم.. فقد كان أبوه حاكم الأبلّة ووليًا عليها لكسرى. وكان من العرب الذين نزحوا إلى العراق قبل الإسلام بعهد طويل، وعندما تعرضت البلاد لهجوم الروم أسر المغيرون أعدادًا كثيرةً وسبوا ذلك الغلام "صهيب بن سنان"، فاقتنصه تجار الرقيق وانتهى طوافه إلى مكة، حيث بيع لعبد الله بن جدعان، بعد أن قضى طفولته وشبابه في بلاد الروم، حتى أخذ لسانهم ولهجتهم، ولقد افتتح صهيب أيام ولائه الجليل بيوم هجرته، ففي ذلك اليوم تخلى عن كل ثروته وجميع ذهبه الذي أفاءته عليه تجارته الرابحة خلال سنوات كثيرة قضاها في مكة.. تخلى عن كل هذه الثروة وهي كل ما يملك في لحظة لم يشبها تردد ولا نكوص.

وأراد أن يدرك رسول الله وصاحبه إلى المدينة ولكن الكفار أدركوه فهددهم بأنه أرماهم رمحًا وأقواهم ضربًا ولكن خيروه إما أن يعود أو يأخذوا ماله فأرشدهم إلى ماله من أجل أن يحقق هدفه (اللحاق بالحبيب) صلى الله عليه وسلم؛ بالله عليك أخي الغالي أين نحن من هذا الموقف التربوي؟ يتخلى عن كل ماله لله فأنزل ربنا ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)﴾ (البقرة)، وقابله حبيبه بقوله "ربح البيع أبا يحيى".

نرى من يقدم في زمننا المثال الرائع في هذا المجال، ونرى من يضن بماله على دعوته بدعوى الاحتياج وارتفاع الأسعار، وتمر عليه الأشهر وهو ماسك يده.

2- أبو سلمة الرجل الذي تمسك بدينه وترك ابن وزوجة فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين من قريش، من بني مخزوم. فرق أهل زوجته من بني المغيرة وأخذوا أم سلمة وسلمة وتركوه يرحل وحيدًا، فصبر وتحمل من أجل أن يكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم فما أكثر من يتعلل بالزوجة والأولاد فيركن إليهم حتى ينسى نفسه، فرحم الله من أدرك ترتيب أولويات حياته فمن الله عليه بأن وافق آل زوجته بعدما وجدوا فيها التعطش إلى الهجرة والدفء بالإسلام والعيش في رحابه وهذا من النعم الكبرى من الله أن يمن عليك بزوجة صالحة تعينك على الطريق.

الهجرة والبيت المسلم
ما أجمل أن يعيش البيت معًا في قضية واحدة (الدين)، والعمل للدعوة فنرى الأشبال والطلاب والزهرات والشباب والأخوات والأب كل في عمله الدعوي يفكر، ويعمل يخطط وينفذ، يسعى ويتحرك يحمل الهم ويعمل للمجتمع وبالمجتمع، معلنًا لهم أنهم أحب إليه من نفسه رافعًا شعار ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ (طه: من الآية 84)، نرى ذلك في بيت الصديق الأب يجهز الراحلة منذ علمه بالخبر ينتظر ساعة الصحبة والهجرة والابن مجند في جمع الأخبار نهارًا والسعي بها إلى الرسول وصحبه في العار ذاك (عبد الله بن أبي بكر).

وكانت عائشة وأسماء تصنعان لهما الطعام ثم تنطلق أسماء بالسفرة إلى الغار ولما نسيت أن تربط السفرة شقت نطاقها فربطت به السفرة وانتطقت بالآخر فسميت بـ(ذات النطاقين). وهي في أيامها الأخيرة من حملها وتلك أسماء (ذات النطاقين) بالله عليك أخي الحبيب أين بيوتنا من هذا المسلك والمغزى، وأحب أن أزف البشرى أن عددًا كبيرًا من بيوتنا تسير بفضل الله على هذا النهج يدعون ربهم ليل نهار أن يتقبل منهم أعمالهم.

نرى الزوجة تتحمل بُعد الزوج عنها للعمل الدعوي أو الغياب عنها قهرًا، فتتعهد البيت ويتفوق الأبناء وتسمو نفوسهم ويحتلون المراتب الأولى في معاهدهم ودراستهم وكذلك الأبناء تتغير حياتهم في العسر واليسر ساعين لتكوين مجتمع فاضل به تعلو الأمة (انظروا إلى حال أسرة الشاطر وإخوانه ومن سبقوهم على الدرب واللاحقين وحال أسر حماس وتربيتهم لأولادهم).

الهجرة والفرح لصحبة الصالحين والعمل للدين
وفي بيت أبي بكر، كان أبو بكر جالسًا مع أهله في الظهيرة، إذ أقبل النبي عليه الصلاة والسلام متقنعًا مغطيًا رأسه، ففزع أبو بكر لأنه (عليه الصلاة والسلام)، لم يكن يأتيهم في تلك الساعة.. يدخل النبي عليه الصلاة والسلام فيقول: "يا أبا بكر أَخرِج مَنْ عندَك". قال أبو بكر: إنما هم أهلك يا رسول الله. قال: "فإني قد أُذن لي في الخروج". قال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله. فقال: "نعم". فبكى أبو بكر ولسان حاله يقول:

طفح السرور علي حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني.

بالله ما أروعها من عبرات تذرف بها العين إعلانًا عن لحظة حب للإسلام ورسوله والصحبة الطيبة.

أخي الحبيب سل نفسك كم مرة دمعت عينك بعد عمل أنعم الله بك من (نشر فضيلة بين أهلك وزملائك وأقرانك وأتت ثمارها- عند إلقاء درس أو خطبة أو خاطر بين أحبابك-عند السعي إلى عمل كلفت به من إخوانك- إذا ما كنت حريصًا على وقتك ووقت إخوانك فتعلموا منك أهمية الوقت- من حرصك على أن تكون ايجابيًّا في كل حياتك تتلقى العلم للعمل ولم تتلقاه للجدل- أن تنام وتبيت في فراشك وأنت سليم الصدر وهذا أقل حق لإخوانك.

الحب والثقة بالقيادة
يظهر الحب العميق الذي سيطر على قلب أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة كباقي الصحابة وهذا الحب الرباني الذي يتقرب به الجندي- في دعوته- لقائده إلى الله عز وجل لم يكن حب نفاق أو نابعًا من مصلحة دنيوية أو رغبة في منفعة أو رهبة من مكروه قد يقع.

ففاز الصديق بالصحبة منفردًا بالرسول عليه الصلاة والسلام وتظهر علامات الحب في خوفه عليه في الطريق عندما يتخيل الأعداء يأتون من اليمين والشمال والأمام والخلف فيتنقل حيث الخطر الذي يتوقعه حرصًا على القائد والدعوة ويصعد قبله إلى الغار ينظفه ويجعله مناسبًا لحبيبه صلى الله عليه وسلم.

فنحن في أمسّ الحاجة في أيامنا تلك وفي كل الأيام أن نعيش هذه المعاني فنقدم أنفسنا فداءً لدعوتنا ونضع أنفسنا في خدمة ديننا.

والمسلم الداعية وعلاقته بالمجتمع
إن المسلم الداعية الذي يعيش بين الناس لا بد من أن ينتبه إلى كونه قدوةً لهم، وافق أو أبى، أيدوه أو اتهموه، اقتربوا منه أو ابتعدوا عنه، وذاك هو الرسول الذي تحمل من أعدائه الكثير ولكنه تحمل وكانت ثقتهم فيه كبيرة رغم اتهامهم له بالسحر والكذب والجنون إلا أنهم كانوا يعلمون أنه صادق أمين يضعون عنده أماناتهم وعند الهجرة أمر (عليًّا) أن ينام في فراشه ويؤدي عنه الأمانات لأعدائه (هذا هو الدين)، رغم هذه الظروف الصعبة ورغم اهتمامه بالهجرة وما يحيط بها من اضطرابات إلا أنه لم ينس مهمته الكبرى أنه رسول مرسل لكل الناس (المؤمن منهم والكافر)، يدعوهم بأعمال وأفعال قبل الأقوال (عمل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل لرجل).

الرسول الداعية وعفته
حين يزهد الداعية فيما عند الناس يحبه الناس وحين يطمع فيما عندهم يكرهونه وينفرهم عن الدعوة (لما عفا النبي عن سراقة عرض عليه سراقة المساعدة فقال: وهذه كنانتي فخذ منها سهمًا. فإنك ستمر بابلي وغنمي في موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حاجة لي فيها").

الداعية لا ينسى دعوته (مهمومًا بدعوته)
إن المسلم الذي سيطرت الدعوة على حياته وشغاف قلبه لا يستطيع لحظة أن تتاح له فيها دعوة الغير ولم يفعل (فهذا سيدنا يوسف في السجن وذاك سيدنا موسى وهو مطارد- ومؤمن آل ياسين وهو يقتل) وهذا صاحب الدعوة محمد صلى الله عليه وسلم في طريق هجرته بالقرب من المدينة يرى لصين من أسلم فسألهما من أنتما؟ فقالا: (المهانان) فقال لهما بل "أنتما المكرمان" ويدعوهما إلى الإسلام فأسلما رغم أنهما لصان إلا أنهما أقبلا على الدعوة بسرعة وهذا دليل على إقبال النفوس على الإسلام ولكن أين الهمة؟

وفي كل عام نستقبل المناسبة ونعيش فيها ونرجو الله أن يحيى قلوبنا ونحن نعيش في ظلالها ونسأل الله أن يجعل حياتنا كلها للإسلام اللهم آمين وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.