لا يقدح إمام الحرم السديس من رأسه، كغيره من وجوه مملكة آل سعود، ولذا لم يكن تمهيده في خطبة الجمعة الماضية بالمسجد الحرام للتطبيع مع العدو الصهيوني معزولا عن التغيرات الكبرى التي يراد للمملكة (المحافظة) الانتقال إليها، ومنها إقامة علاقات كاملة مع إسرائيل، بل والتشارك معها في ملفات إقليمية ودولية بديلا للتشارك مع دول عربية وإسلامية، بوهم أن هذا التعاون مع الجار الصهيوني سيكون الداعم الأكبر لمملكة محمد بن سلمان، ولو في مواجهة عائلته ذاتها ناهيك عن الشعب السعودي.

وقف السديس على منبر الحرم المكي ممسكا بورقات ليست من بنات أفكاره التي كان يحملها قبل سنوات، عداء صريحا للصهيونية والتطبيع.. كان السديس يخاطب الكاميرات حيث لا يوجد مصلون إلا الحد الذي تصح به الجمعة من عمال الحرم، كان المهم لصاحب الرسالة التي تضمنتها تلك الورقات هو وصولها إلى جهات عديدة خارج الحرم، مع تغليفها بقداسة خاصة لانبعاثها من منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خطبة السديس هي شارة البداية لكسر هذا المحظور الشرعي. صحيح أن كتابا وفنانين ونشطاء سعوديين آخرين سبقوا بالقول وحتى العمل تطبيعا وتطبيلا، إلا أن الموقف الشرعي ظل "على قديمه" حتى صدرت الأوامر لاستخدام هذه القوة الناعمة لتمهيد نفوس السعوديين، ومن خلفهم عموم المنتمين للمدرسة الفقهية السعودية للتطبيع مع العدو، بحسبانه أمرا جائزا شرعا، بل مستحبا أو ربما فريضة. ولن يعدم هذا البعض نصا يلوي عنقه لتأكيد "فتواه"، وقد يعتبر هؤلاء "المفتون" أن الحج لا يكتمل إلا بزيارة المسجد الأقصى مع الحرمين الشريفين، وقد تجعل السلطات السعودية ذلك شرطا لقبول دخول الحجاج إليها في مرحلة لاحقة والعياذ بالله.

سبق السديس إلى "شرعنة" التطبيع الشيخ عبد الله بن بيه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، الذي ثمن خطوة محمد بن زايد بالتطبيع مع إسرائيل، مبررا ذلك بأنه من صلاحيات ولي الأمر!!! والسؤال هنا هل اكتشف بن بيه أن التطبيع من صلاحيات ولي الأمر اليوم فقط بعد أن جرت الدراهم الإماراتية في يده؟! وهل لم يكن من تلك الصلاحيات حين كان الشيخ يصدح رافضا كل شكل من أشكال التطبيع؛ معتبرا إياه خيانة لله ورسوله والمؤمنين؟!

من حسن الحظ أن شعوبنا الإسلامية أصبحت تدرك طبيعة الفتاوى المسيسة التي تصدر تحت سيف المعز أو ذهبه فلا تلتزم بها، ولا تشعر بوخز ضمير في عدم الالتزام، بل إنها تلجأ إلى قلوبها في هذه الحالات فتستفتيها (استفت قلبك فيفتيك ولو أفتاك الناس).

وبناء على فتوى القلوب تتحرك مشاعر شعوبنا رافضة للتطبيع، رغم كل المحاولات التي بذلتها وتبذلها بعض الحكومات ذات العلاقات مع الكيان الصهيوني. ولولا أجواء القهر التي يعتمد عليها الحكام لفار الشعبان السعودي والإماراتي ضد هذا التطبيع، وقد كانت لهما وقفات من قبل. وأتذكر أنني شاركت في مظاهرة ضخمة تحركت لعدة كيلومترات على كورنيش إمارة الشارقة في العام 2008، دعما لغزة ورفضا للتطبيع. وكانت المظاهرة بتصريح رسمي وبدعوة من جمعية الإمارات لمقاومة التطبيع، وهي جمعية كانت مشهرة رسميا ولها مقر في مجمع القصباء الثقافي، قبل أن تغلقها الحكومة، وقبل أن تنقلب هذه الحكومة ذاتها على نفسها وعلى قوانينها، وتسارع إلى أحضان تل أبيب، وقبل أن تلغي القانون الذي منع التطبيع لعقود طويلة منذ أيام الشيخ زايد رحمه الله.

أما السعودية الجديدة التي يصنعها محمد بن سلمان على عينه، وبخطط وترتيبات كفلائه الصهاينة، فإنها قد انقلبت على عقيدتها أيضا، فكم من فتاوى صدرت سلفا من علماء الحرم بتحريم التطبيع مع العدو الصهيوني، وحتى حين طرح الملك السابق عبد الله مبادرته للسلام؛ كان يربطها بعودة الأرض الفلسطينية المحتلة (الأرض مقابل السلام)، وليس كما هي الصيغة الحالية (السلام مقابل السلام) التي أطلقها نتنياهو وقبلها ابن زايد، وسيقبلها ابن سلمان وأي منتظر في طابور التطبيع.

لا ينكر أحد أننا نعيش أحط مراحل تاريخنا المعاصر، وأكثرها ضعفا للأمة العربية والإسلامية، ولكن من قال إن الضعيف يظل ضعيفا؟ أو أن القوى يظل قويا؟! نحن نمر بجولات بين الضعف والقوة، وحتى في لحظات الضعف لم تيأس شعوبنا، وترفع الراية البيضاء. وهل هناك أضعف من الشعب الفلسطيني المحاصر برا وبحرا وجوا منذ بداية الاحتلال في 1948 وحتى الآن؟! ومع ذلك لم يستسلم يوما، ولم يرفع الراية البيضاء، بل ظل رافعا العلم الفلسطيني ذا الألوان الخضراء والسوداء والبيضاء والحمراء.

ولعل مشهد المسن الفلسطيني خيري حنون (الذي جثم على رقبته جندي إسرائيلي بينما ظل المسن ممسكا بالعلم الفلسطيني مدافعا عن أرضه) كان أحدث نماذج المقاومة والصمود رغم حالة الضعف. ولعل هذا الصمود الفلسطيني على مدى أكثر من سبعين عاما هو أحد عناصر الإلهام لبقية الشعوب العربية والإسلامية التي رفضت التطبيع وقاومته بكل قوة.

ولم يكن أي إسرائيلي يجرؤ على التحرك بصورة علنية في شوارع القاهرة والمدن المصرية، أو عمان والمدن الأردنية، أو الرباط والمدن المغربية، أونواكشوط والمدن الموريتانية، وهي الدول التي أقامت حكوماتها علاقات رسمية مع إسرائيل منذ سنوات عديدة. بل إن العمال المصريين الذين اضطرتهم ظروفهم الاقتصادية للسفر إلى إسرائيل للعمل لا يعلنون ذلك أمام جيرانهم، ويتعرضون للإهانة التي تصل إلى حد العدوان المادي حين عودتهم.. وحتى أولئك الصهاينة الذين راحوا يبثون رسائلهم من داخل مسجد الشيخ زايد لا يجرؤون على الحركة بشكل طبيعي في شوارع دبي أو حتى أبو ظبي دون حراسة أمنية ظاهرة أو مستترة.

لا يفوتنا هنا أن نحيي الموقف الكويتي حكومة وشعبا الداعم بقوة للحق الفلسطيني، والرافض للتطبيع مع العدو الصهيوني، ولا يشغلنا تنطع بعض رجال محمد بن زايد وصبيانه، وكذا بعض صبيان محمد بن سلمان الذين يهرولون على الصهاينة دون وازع من دين أو عروبة أو ضمير.. "فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ (المائدة: 52)".

ولا يزعجنا تهليل نتنياهو لهذه الهرولة واعتبارها نصرا مبينا له ولكيانه الذي سيظل جسدا غريبا في منطقتنا، والذي لن ينعم بالسلام والاستقرار ما لم تنعم به شعوبنا.
----
نقلاً عن "عربي21"